صيف 2013، تقدمت أحزاب العدالة والتنمية، والاستقلال، والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والتقدم والاشتراكية، والأصالة والمعاصرة، بمشروع قانون يقضي بتجريم التطبيع مع إسرائيل من أجل مناقشته في البرلمان المغربي (قبل أن يتراجع البام عن تبنيه)… إلا أن كثيرا من الأصوات تعالت للمطالبة بسحب هذا المشروع قبل أن يتحول إلى الأرشيف في دهاليز المؤسسة التشريعية، حيث لم تتم مناقشته داخل لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب لأسباب لم يتم إعلانها.

لكن يبدو واضحا أن تجميد هذا المشروع كان قرارا ضروريا وحكيما (أيا كانت الجهة التي تحكمت فيه)، بالنظر إلى حساسية الموضوع وتداعياته على العلاقات المغربية مع القوى الكبرى وعلى القضايا الإستراتيجية لبلادنا، وفي مقدمتها ملف الوحدة الترابية. فالعلاقات الدولية تحكمها لعبة المصالح، لذلك فإن التعاطي مع هذا الملف يجب أن يخضع لحسابات الربح والخسارة من منطلق براغماتي…وذلك ما تحقق فعليا عندما أعلن بلاغ الديوان الملكي الصادر بتاريخ 10 دجنبر 2020 عن قرار تاريخي بخصوص العلاقات مع إسرائيل، يقضي بـ”استئناف الاتصالات الرسمية الثنائية والعلاقات الدبلوماسية في أقرب الآجال”.

إسرائيل ليست عدوا مباشرا للمغرب، ولم يثبت تورطها في أي عمل يستهدف استقرار بلدنا أو تهديد أمنه الداخلي. كما أن اليهود المغاربة – بمن فيهم المواطنون الإسرائيليون- تجمعهم علاقات وطيدة ببلدهم الأصلي. أما على المستوى الإقليمي فإن قطار التطبيع انطلق فعلا، سواء بالواضح أو بالمرموز؛ فما معنى أن يظل المغرب خارج السياق الإقليمي، بينما المعنيون المباشرون بالصراع مع إسرائيل “يهرولون” تباعا نحو التطبيع؟.

إن إعلان استئناف العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وإسرائيل ليس مفاجئا، بل جاء متأخرا جدا، بالنظر إلى السياق الإقليمي والدولي، وما يرتبط به من تحديات ومخاطر تفرضها الخريطة السياسية الجديدة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على دول المنطقة. وبغض النظر عن طبيعة وحجم المكاسب التي سيجنيها المغرب سياسيا واقتصاديا بعد هذا القرار، فإن هذه الخطوة كانت ضرورية لأن العلاقات مع إسرائيل ليست وليدة اليوم، بل تعود إلى سنة 1994 عندما تم افتتاح مكتبي اتصال بين البلدين قبل إغلاقهما سنة 2002… وبالتالي فإن الخطوة المغربية الجديدة لا يمكن اعتبارها تطبيعا بالمعنى الذي ينطبق على ما قامت به دول أخرى مؤخرا، بل هي عملية استئناف لعلاقات كانت قائمة منذ 26 سنة.

ثم إن الأنظمة “العربية” نفسها باتت مقتنعة بأن إسرائيل أمر واقع وعدم الاعتراف بها لن يحل قضية فلسطين، وبات ما يسمى “الإجماع العربي” مجرد وهم إيديولوجي. ولم تعد هذه الأنظمة تجد حرجا في تطبيع علاقاتها مع إسرائيل؛ كما فعلت دول الإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان، لتنضاف إلى كل من مصر والأردن.

القرار المغربي إذن لا يمكن اعتباره “تطبيعا”، لأن بلدنا ليس في مواجهة مباشرة مع إسرائيل. أما هذا المفهوم فقد تم استيراده من الشرق، ونجح اليساريون والإسلاميون في التسويق له حتى أصبح مرادفا للخيانة والعمالة والصهيونية، وجعلوا منه بعبعا للتحكم والترهيب والتهديد؛ وذلك في إطار “توطين” القضايا العربية، وعلى رأسها قضية فلسطين، وتحويلها إلى أولوية رسمية وشعبية.

وقد تعودنا في المغرب على النضال والتضامن مع ومن أجل الآخرين، وتعودنا على استدعاء قضايا غيرنا ومنحناها وسام “الوطنية”، وتبنيناها إلى حد التماهي؛ فقد كنا دائما فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين، وعراقيين أكثر من العراقيين، وعربا أكثر من العرب… لذلك فإن شعار “تازة قبل غزة” الذي بدأ يردده البعض خلال السنوات الأخيرة له ما يبرره فعلا. ويبدو أن قرار استئناف العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل هو تجسيد لهذا الشعار الذي كان نشطاء الحركة الأمازيغية سباقين إلى رفعه وترديده في كثير من المناسبات. وها هي الدبلوماسية المغربية تنتهي إلى أن مصلحة المغرب ينبغي أن تكون أولوية الأولويات وفوق أي اعتبار آخر.

عندما نقرأ بلاغ الديوان الملكي عن عودة العلاقات المغربية الإسرائيلية نجد هاجس “تازة قبل غزة” (أو لنقل: الصحراء قبل فلسطين) حاضرا بوضوح؛ فقد تزامن هذا القرار مع توقيع الرئيس دونالد ترامب مرسوما رئاسيا يقضي باعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بسيادة المغرب الكاملة على كافة الصحراء المغربية… لذلك تحدث الديوان الملكي عن القرارين معا في البلاغ ذاته.
وبالرغم من أن اعتراف الولايات المتحدة بمغربية الصحراء هو في عرف القانون الدولي يعد قرارا سياديا، واستئناف المغرب لعلاقاته مع إسرائيل هو قرار سيادي أيضا… فإن الربط بين القرارين لا يحتاج إلى كثير من النباهة والذكاء؛ وتلك هي شروط

الممارسة السياسية كما تفرضها العلاقات الدولية التي تتأسس على صيغة “رابح- رابح”… ومن حق المغرب طبعا أن يبحث عن مصلحته الخاصة، لأن الاعتراف الأمريكي بالسيادة المغربية الكاملة على الصحراء يعد انتصارا كبيرا للدبلوماسية المغربية، ومنعطفا جديدا في تاريخ ملف وحدتنا الترابية، وذلك نظرا لقيمة وقوة الحضور الأمريكي في صناعة القرار الدولي وتوجيهه.

وفي ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فلا أحد من أحرار العالم يتفق مع السياسات الصهيونية التي تنتهجها إسرائيل في حق الفلسطينيين، والضمير العالمي مطالب برفض الممارسات الإسرائيلية بشدة، وذلك لأن فلسطين تعتبر قضية إنسانية. أما المغاربة فهم متعاطفون وجدانيا مع الفلسطينيين، وليسوا في حاجة إلى قوانين تمنعهم من التطبيع مع إسرائيل، لأنهم غير معنيين بالموضوع أصلا، لكنهم معنيون بحماية أمنهم الداخلي، والدفاع عن وحدتهم الترابية، وصيانة نسيجهم الاجتماعي والثقافي قبل كل شيء…

hespress.com