هذا فيلم أمريكي بمخرج هنغاري (كورنيل ميندروكزو) وممثلة بريطانية (فانيسا كيربي) يعرض “قطع امرأة” تحطمت على “نتفلكس” 7-1-2021، امرأة فاتنة لا تستحق الشقاء الذي سلطه عليها السيناريو. ينحت الفيلم حدثا واحدا طيلة نصف ساعة. هذا ليس منطق سينما هوليود، بل هو لمسة من سينمائية المؤلف الأوروبية.

بدأ الفيلم بكاميرا ترصد حدثا حميميا واحدا طيلة نصف ساعة في فضاء داخلي دون ملل قبل أن تنتقل إلى العالم الخارجي. الفيلم هو نحت بوزل puzzle وتركيبه بحيث تكون كل قطعة في مكانها الوحيد في كل اللوحة. فيلم هادئ يكاد يكون صامتا في ساعته الأولى، وطيلة هذه المدة يعرض المخرج مقاطع مبنية بطريقة فنية تظهر جهد تكثيف إخراج صور قوية. هذا النحت والبطء تتلذذ بمشاهدتهما لجان تحكيم المهرجانات، وقد حصلت البطلة على جائزة أفضل ممثلة في مهرجان فينيسيا 2020.

يمكن لكشف حيل بناء ونحت هذه الصور أن يقوي الوعي بها، وبالتالي يضعف متعة المشاهدة. عادة يتجنب المخرجون كشف حيلهم وأساليبهم الفنية عندما يتحدثون في المهرجانات وفي الإعلام. يحتفظون بسرهم لأنفسهم لأنهم حصّلوه بعد تقصٍّ استغرق زمنا. ودون معرفة مسبقة وعميقة بالأساليب الفنية سيفشل الناقد في ملاحظتها أثناء مشاهدة فيلم.

جاء تتويج الممثلة فانيسا كيربي في مرحلة وعمر عطاء كبير بالنسبة للأفلام التي تصور نساء تجاوزن مرحلة الشباب ويعشن مرحلة انتقالية على عتبة الأربعين. وقد استخرج الأفضل من جسد الممثلة. يظهر الجسد محتوى التواصل، المحتوى، أي إحساسها وموقفها مما وممن حولها. في إطار بحثي لفهم قوة حضور الجسد لدى الممثلة البريطانية اكتشفت أنها ابنة طبيب جراح درس تشريح الجسد ثم عمل عليه طويلا.

مارثا امرأة وحيدة في بيئة باردة، تتأمل أطفالا، ثم تتأمل بذرة التفاحة التي تقضمها، تضع البذرة في الثلاجة. هذا ليس بيئة ملائمة للتوالد. يقع تدهور درامي فيترك الموت بصمة هائلة في سلوكات الأحياء. تمضي مارثا بنظرات تائهة تستنجد، تطلب أن تترك وشأنها. ما حصل هو خسارتها هي. وهذه الخسارة لا تعوض. ولكن من حولها يريدون تسوية الحساب مع العدو. هي ترى أن أي انتقام أو عدالة لن يخفف ألمها. وقد عبرت عن هذا التحدي دون ضجيج، عبرت عن مشاعرها باقتصاد.

ما كمية المعلومات التي يعطيها الجسد عن صاحبه؟

كمية هائلة. يحصل هذا بالفطرة بالنسبة لكل البشر. بالنسبة للممثل يجب أن تكون المعلومات المقدمة منتقاة بشكل فني وليس فطري.

يقدم فيلم “قطع امرأة” شخصيات قليلة. عادة كثرة الشخصيات تشوش على المتفرج، خاصة حين لا تكون أهداف تلك الشخصيات واضحة، أو حين تكون الشخصيات مرسومة بطريقة فضفاضة، تحركها دوافع ضيقة لا يدركها المتفرج. قدم المخرج البلغاري شخصيات قليلة في وضعيات سردية، تنتبه، تتواصل، تقوم برد فعل… كما في الجمل القصيرة للزوج، جمل قصيرة عنيفة، مثلا تعبر البطلة عن سعادتها لأن أمها اشترت سيارة لرفيقها، فيلاحظ هذا أنها اشترت له سيارة بلون داكن كروحها. سخرية قاسية تكشف بنفس القوة، شخصية من ينطق بها ومن تتناوله.

يصور الفيلم هشاشة العلاقات الإنسانية التي تنتقل فجأة من وضع إلى نقيضه. يحسّن ميلاد طفل العلاقة بين الزوجين، وغالبا ما يكون الرجال الأدنى تعليما هم الأكثر حنانا وعطفا وتسامحا تجاه حبيباتهم، لكن حين يغضبون تسوء الأمور.

لرصد التحول هناك استعارة الجسر والزجاج. هناك ليتموتيف leitmotiv، جسر وزمن، جسر يبنى ويقترب طرفاه للربط بين ضفتين. وبينما يبنى جسر الحجر ليربط الضفتين، فإن الجسر الرابط بين البشر يتآكل. كل يوم تزداد المسافة بين مارثا وزوجها. تحل البرودة محل الدفء. يحل الصمت محل الضحكات. يكبر جسر الحجر ويتلاشى الجسر المؤقت الرابط بين البشر. يقبض leitmotiv على الفكرة المهيمنة ويكثفها ويكررها.

في مشهد قصير جدا، فيه ورش وحفر ثم مصعد زجاجي بين مكاتب. تعمل البطلة في مكتب ويعمل البطل في ورش بناء الجسور. هكذا حدد المخرج مهنة ومعاش شخصيتيه الرئيستين في بداية الفيلم. يترسخ هذا الاختلاف في آخر الفيلم، فبينما تعيش البطلة حالة تطهير، يستمر زوجها في مساره السابق، يستفيد من كل مصيبة، لا ينفع الكاتارسيس الشخص النرجسي.

يوحي عنوان الفيلم بأن الفرد كقطعة من زجاج تحطمت فتشتت. يعرف المتفرج المشبه والمشبه به، ورأى وجه الشبه في مطلع الفيلم. يتابع المتفرج حين يتلقى معلومات متناسقة عن الاستعارة التي تمكنه من دخول المشهد ومعايشته مع امرأة تنقي حاضرها من كسور ماضيها، وتأمل أن تبدأ من جديد. جرى الزمن، صار الثلج الصلب سائلا يجري، ثم وقع تغيير، وهذا يمكن الفرد من أن يسبك شخصيته لينطلق من جديد. هكذا يقدم الفيلم صورة قوية للمرأة الحديثة، فالأمومة جزء من الأنوثة وليست كل الأنوثة. لا يمكن اختزال صورة المرأة في الإنجاب. بهذا الوضوح تتحرر البطلة مما حصل وهو مؤلم. هكذا تحتفي السينما (والفن الحديث عامة) بجمال الحقيقة مهما كان الألم الذي تسببه. لأن الحقيقة في النهاية تحرر ضمير الفرد. وهذه الحرية على المدى البعيد أرقى وأثمن من كل تسكين ظرفي للألم بواسطة الوهم.

[embedded content]

hespress.com