الثلاثاء 5 يناير 2021 – 00:48
ربما تباطأت بعض الوقت في أن ألتفت إلى الوراء وأضع حصيلة لموضوع كان لي فيه نوع من السبق الإعلامي أو هكذا على الأقل تهيأ لي. ومرد ذلك التردد الذي انتابني أولا ما بين أن أطالع زملائي القراء في كوني كنت الوحيد على مدى ثلاث سنوات خلت وأنا أسخر القلم بكثافة لقضايا محددة تلتقي على قاسم مشترك وهو مصلحة الوطن فوق كل شيء. وثانيا ما بين أن ألتزم السكوت وأقنع نفسي بأن ما كنت أصارع من أجله فهو من باب الواجب الوطني ولا مجال اليوم للتبجح بذلك، بعدما أنصفني ما كان يعتبر رهانا مستقبليا فإذا به اليوم أمامك حقيقة ماثلة؛ لكن سيطرة الأنا على الإنسان الضعيف، وأنا واحد من ذلك، يحب أن يجد ذاته في رد الاعتبار إليه.
منذ عام 2018، كنت أرى ما لم يكن غيري يراه. ولم يكن، آنذاك، من السهل أن تخرج على جمهور القراء بمقالات تتناول مواضيع من المحرمات أو من الطابوهات بسبب إغراق الرأي العام المغربي في إيديولوجيات متتالية ومتهالكة على مدى ستين عاما انجر إليها إعلام مبتذل ومأجور يريد أن يضع المغاربة في حجر سياسي مقيت. فكانت المعركة ليست بالهينة، وقد وحد فيها العديد بأنها مجازفة خطيرة حينما كنت أدعو إلى استئناف العلاقة ما بين المملكة المغربية ودولة إسرائيل. وبالفعل، اتهمت في هذه المعركة الإعلامية بالصهيوني والمتصهين وبالخائن. وكان ألطف الناس بي جزاهم الله خير الجزاء أن أشاروا علي بأنني ذلك الطائر الذي يغرد خارج السرب، تأدبا منهم لكي لا يقولوا عني إنني أشتغل لأجندة خارجية. ومن الأصدقاء الصدوقين نصحوني بأن آخذ الحيطة والحذر، وفي نظرهم أنه ليس كل ما هو حق أو على صواب يجب الجهر به.
كل ذلك لم يكن يحرك بداخلي ولو قطرة دم أو شعرة في هذا الرأس الذي بدأ ينبت شيبا، بعد أن أصبح المستقبل كله في المرآة الخلفية؛ فالمرء مبادئ إن نزعتها منه بقي الجسد يسعى في الأرض كبقية الدواب، يحمل بين كتفيه رأسا لا يدري عن وجوده سوى تلك اللحظة التي تتحكم فيه فطرته بالتخلص من برازه.
وقد قضي الأمر فيما كنتم تختلفون. وباتت العلاقات المغربية الإسرائيلية حقيقة ساطعة. وما كان موضع نقاش وجدال وموضع اتهامات في حق الكاتب تحوّل اليوم إلى موقف رسمي. ولم أعد ذلك الطير الذي كان يغرد خارج السرب. تقاطرت المقالات وتعددت مرحبة بالعلاقات الرسمية وبفضلها أتصفني المستقبل، وقد اشتد عودي كما اشتد عود أبناء المهلب بن أبي صفرة. وطبيعي أن يكون ذلك موضع اعتزاز وافتخار، وتنامت هذه المشاعر أكثر من ذلك حينما تناقلت بعض وسائل الإعلام هذه الأيام صورا عن مقر مكتب الاتصال المغربي بتل أبيب حيث كان لنا نصيب من الجهد في اختيار موقعه واستئجاره، وهو موقع على كورنيش تل أبيب يطل من شرفاته على البحر الأبيض المتوسط، وبقي على مدى عشرين عاما مستأجرا من طرف المغرب.
كان سندنا في كل المقالات التي خصصناها لهذا الموضوع يعود إلى الحتمية التاريخية التي تقر بأن حضور المغرب في منطقة الشرق الأوسط هو حضور حيوي لا يمكن، في جميع الأحوال، الاستغناء عنه؛ فغيابه المؤقت عن ذلك المشهد أدخل الوضع برمته في حالة جمود قاتل. وعلى هذا الأساس، كنا دائما نستحضر تلك العودة التي لا بد من أن تفرض نفسها؛ لأن حاجة الأطراف إليها هي حاجة ملحة.
ومن أجل الحقيقة نقول إننا لم نكن نستند على معلومة معينة، استقيناها من هذا المصدر أو ذاك؛ بل فقط اعتمدنا على قراءة هادئة مبنية على تجربة سمحت لنا بأن نكون على بينة من طبيعة الصراع وتعقيداته، وعلى خصوصية المغرب ونوعية العلاقة التي تربطه مع جميع الأطراف. وبالتالي، قادنا كل ذلك إلى الاقتناع بحتمية استئناف المغرب لأدواره التاريخية في ضبط إيقاع المشهد السياسي في منطقة الشرق الأوسط. ولا غرو في كونه هو المؤهل لذلك، بحجة أنه لم يكن من باب الترف السياسي أن تسند رئاسة لجنة القدس إلى المغرب.
وحينما نقول إننا لم نجازف في ما كنا ندعو إليه بعد هذا الذي تحقق، فإننا لا نجازف كذلك اليوم بالتأكيد على أن عودة المغرب إلى المنطقة ليس من أجل استئناف العلاقات فقط مع إسرائيل، ولا من أجل اعتراف بكيان يعترف به العالم بأسره؛ ولكن من أجل خدمة القضية الفلسطينية. والأيام بيننا، وستبدي لكم تلك الأيام ما كنتم عليه من جهالة.