“كارْيان طوما” بالدار البيضاء، الساعة الرابعة مساءً؛ صيْحات حانقة تعلو متعاقبة من زقاق مليء بالحفر وغير مبلط موجهة إلى طفل يلهو على مقربة من منزل أسرته، بعدما ظلّت مجموعة من الكلاب تنبح بصوت قوي، ثم سرعان ما انقطع الصراخ وهمد الصياح بعد تدخل أحد أبناء الحي الذي نَهرَها، ففرّت خائفة.

مشهد يستقبلك بمجرد وصولك إلى المنطقة، ليلخص لنا جزءً من الحياة اليومية في أشهر حي بسيدي مومن لارتباطه بأحداث 16 ماي التي هزّت المملكة؛ فالسكان هنا مازالوا متشكّكين في برامج الدولة التي استهدفت تجفيف منابع التطرف الديني في المكان الذي بلَغ صيته العالم كلّه.

هنا، الكلاب تركض بكل حرية، والعربات المجرورة بالدواب تملأ الحي، وتكدّس النفايات صار مشهداً مألوفا لدى الأهالي… هكذا يرى السكان الوضع في “كاريان طوما” بعد مضي 17 سنة على الواقعة الإرهابية الشهيرة لمدينة “كازابْلانكا” سنة 2003.

وجوه تبوح بالمأساة

ما الذي تغيّر في المنطقة؟ يتردد مصطفى طرمون، ابن الحي، في الإجابة عن السؤال، قبل أن يستجمع أفكاره قائلا: “أرى أن الشيء الوحيد الذي تغيّر في كاريان طوما هو الجدران فقط، فقد جرى تعويض البراريك القصديرية بالعمارات الإسمنتية الكبيرة”.

“التنمية غِيرْ شعارات وْصافي”، يقول مصطفى من تحت كمامته البيضاء، ويضيف بصوت خفيض: “التغيير الاجتماعي والتنموي غائب تماماً في المنطقة”، قبل أن يتوقف قليلا ثم يردف قائلا: “17 سنة مضت على الحادث دون أي بديل تنموي حقيقي في الحي”.

المعطى نفسه تقاسمه معنا محمد كمسي، فاعل جمعوي تحدث عن الموضوع بأفكار متشائمة، عندما قال: “لم يتغير شيء سوى المشروع الملكي الذي قام بإعادة إسكان دور الصفيح في حي السكويلة”، ثم خاطب منتخبي المنطقة متسائلا بغضب: “من استفاد من الوضع بعد 2003؟ لنكن صريحين؛ المرشحون فقط، بينما المنطقة لم تستفد شيئاً”.

الأوجاع تُثْقل السكّان

صدمة الحدث الإرهابي لم تبدّدها السنون، والوجع مازال يُطارد سكان الحي، والجرح الغائر في دواخل أسر منفذي هجمات الدار البيضاء لم يندمل بعد، فنظرات التحسّر تملأ عيون القاطنين بـ “كاريان طوما”، آملين إنقاذ الشباب من براثن التطرف الديني والتشدد الفكري.

عبد الرحيم كوثاري، أربعيني، أخ أحد منفذي أحداث 16 ماي بالدار البيضاء، صرّح لنا قائلا: “لم أستوعب بعد الحدث الأسود في تاريخ المنطقة. كيف؟ ولماذا؟ أسئلة مازالت بدون أجوبة لديّ”، قبل أن يستطرد: “ثلاثة شباب من جيراننا شاركوا في العملية”.

منفّذو العملية الإرهابية مازالوا يافعين؛ هذا ما يقوله عبد الرحيم الذي بدا حائراً من هول الصدمة التي تسكن مخيلته، ثم أضاف بلغة هادئة: “كانت أعمارهم تتراوح بين 20 و22 سنة؛ إذ لم تكن لهم أي علاقة بنشاطات الإجرام، لكن يبقون مجرد شباب غُرّر بهم”.

تعايش قسْري

وجوه تنضح بالحنق، فقدت الأمل في التغيير وملّت من وعود السياسيين، تنتظر تدخلا مستعجلا لدمج المنطقة في قطار التنمية الذي أضاعت موعده فكان مصيرها الاقتيات على مخلّفات القطب المالي، في ظل غياب بدائل اقتصادية واجتماعية حقيقية من شأنها إخراج الحي الشهير من واقعه الراهن.

محمد الناصيري، ابن المنطقة، حكى عن مرارة العيش التي يتجرعها السكان، قائلا: “لم يتغير شيء هنا سوى إزالة البراريك القصديرية واستبدالها بالشقق الإسمنتية”، مضيفا: “نعاني كثيرا في الحي خلال السنوات الماضية، فالجميع يشكو من اقتحام حشرات قنوات الصرف الصحي للمنازل”.

سمية الطال، قاطنة بدورها في الحي الشهير بسيدي مومن، تحدثت إلينا عن الواقع المعيشي للسكان بحسرة مرّة، قائلة: “الحدائق منعدمة، الطرق تملأها الحفر”، لكنها عادت وأكدت أن “هناك تحسّنا، غير أنه يبقى طفيفاً”، ثم واصلت قائلة: “نعيش مع الحمير والكلاب. يوجد أزيد من 300 كلب هنا، نمنع أبناءنا من الخروج مساءً”.

ترقب حذر

كلّ شهادات السكان الذين التقيناهم تطفح ألماً، وربما غضباً تُجاه “تهميش” المنتخبين السياسيين على مدى السنوات المنصرمة لحيهم، وهو ما أعرب عنه محمد كمسي، فاعل مدني، بالقول: “نحسّ بضعف كبير بسبب وصف جزء كبير من المغاربة لأبناء كاريان طوما بأنهم إرهابيون”.

وتابع المُصرّح لهسبريس قائلا: “حتى منفّذو العملية الإرهابية كانوا طيّبين. كل ما في الأمر أن الهشاشة الاجتماعية هي التي دفعتهم إلى ارتكاب الفعل الإجرامي”، خاتما تصريحه بالتأكيد على انعدام مرافق التسلية والترفيه لدى الأطفال والشباب في أوقات الفراغ.

سمية بدورها تتقاسم مع محمد الخلاصة نفسها التي جاءت على لسانه، موردة أن “الانفجار تسبب في صدمة لجميع الأسر دون استثناء، لا سيما أن منفذي الحادث الإرهابي يقطنون معنا، لكن الضغط يولّد الانفجار”. وختمت المتحدثة تصريحها لهسبريس بالإعراب عن أملها في أن يصل قطار التنمية إلى المنطقة.

[embedded content]

hespress.com