اعتبر الأستاذ الباحث والكاتب المغربي كمال عبد اللطيف أن بنسالم حميش، الكاتب والوزير السابق، لم يتوقف طيلة عقود على تنويع مجالات بحثه وإبداعه، مشددا على أن جهوده اقترنت بكثير من الطموح والمغامرة وكثير من الجهد والمثابرة.

وأكد عبد اللطيف في مقال، توصلت به هسبريس، أن حميq انخرط في كثير من المعارك داخل الفضاء الثقافي المغربي والعربي، كاشفا عن حس سجالي عال، ليبرز درجات انفعاله ببعض أسئلة الراهن في الثقافة المغربية والعربية.

المقال كما توصلت به هسبريس:

1ـ حرص الباحث والمبدع بنسالم حميش على تنويع وتطوير اهتماماته في الفكر والإبداع، ومن كتابة الشعر إلى البحث الفلسفي والكتابة الشذرية إلى الرواية إلى القصة القصيرة والسيناريو والمسرح. وقد اقترنت جهوده في المجالات التي ذكرنا بكثير من الطموح والمغامرة، وكثير من الجهد والمثابرة. ولم يتوقف، طيلة مساره الفكري الذي يقارب أربعة عقود، عن تنويع مجالات بحثه وإبداعه. يهتم بجوانب محدَّدة من تاريخ الفلسفة، وقد أنتج بعض الأبحاث والدراسات في مجال فلسفة التاريخ.

يقرأ بعض نصوص التراث الإسلامي، ويفكر في العولمة وفي المستقبل، يهتم بقضايا اللغة واللغات، يدافع عن اللغة العربية أمام اللهجات المحلية، ينتقد النزعات الفرنكفونية ويُدافع عن التعدُّد اللغوي المعقلن، مع لزوم الإعلاء أولًا وقبل كل شيء من اللغة العربية. يكتب الشعر والرواية، وينخرط في جملة من المعارك الثقافية منذ سبعينيات القرن الماضي، ويعمل على توظيف الفيض الروائي الذي يواصل إنتاجه منذ سنة 1990، قصد الدنو من بعض القضايا الفلسفية والأسئلة التاريخية والسياسية التي تستقطب اهتمامه.

يعوّل بنسالم حميش على حماسه وتمارينه الذاتية، وكذا على طموحه ورومانسيته وكيفيات نظره إلى الإنسان والعالم، فهو لا يتوقف عن الكتابة وعن التجريب. لا يقوم بذلك في المجال الإبداعي وحده، بل يمارسه أيضًا في مجال تخصصه الجامعي، حيث يوجِّه نظره صوب بعض الإشكالات النظرية ذات الطبيعة التاريخية أو الاقتصادية والتربوية واللغوية، محاولًا بناء تصوُّرات ومعطيات محدَّدة، بناء وِجْهَة نظر تخاصم مواقف بعينها وتركِّب بدائلها..

انخرط في كثير من المعارك داخل الفضاء الثقافي المغربي والعربي، كاشفًا عن حِسٍّ سجالي عالٍ، ليبرز درجات انفعاله ببعض أسئلة الراهن في الثقافة المغربية والعربية، من قَبِيل سجالاته في موضوع القصيدة الكاليغرافية في المغرب التي كان سبّاقا إلى ابتداعها، وسجالاته مع بعض أطروحات الجابري والعروي المتصلة بالتراث وبأسئلة الفكر العربي المعاصر، ودون إغفال بعض سِجالاته الثقافية والسياسية المتواصلة، في موضوعات الفرنكفونية والأمازيغية والغمة المغربية ومعضلاتها التاريخية الكبرى. وفي السياق نفسه، نضيف أن بنسالم حميش جَرَّب وما فتئ يجرب الجمع بين كل ما ذكرنا من موضوعات وقضايا، إلى جانب مساعيه الهادفة إلى تحقيق نوع من الحضور المؤسسي، الذي يكفل له موقع الفاعل الملتزم داخل المشهد الثقافي الوطني..

ساهم بنسالم حميش في إنشاء منابر ثقافية لم تعمر طويلًا، بحكم عوائق وصعوبات تتجاوز الجهد الفردي، نذكر من بينها مجلة “الزمان المغربي”، التي كان يشاركه في إدارتها الزميل سعيد علوش (1979-1983). كما أنشأ مجلة “البديل” سنة 1984، وظلت تصدر إلى أن تَمَّ منعها بداية 1985.

إضافة إلى عضويته في اتحاد كتَّاب المغرب، وانخراطه السياسي في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وترشُّحه للانتخابات التشريعية سنة 1997. ويمكن أن نشير هنا إلى أن حرصه أحيانًا وفي مناسبات مُعَيَّنَة على الحضور المؤسسي لا يضيف كثيرًا للرصيد الرمزي الذي بنى خلال مساره الجامعي والإبداعي، فقد يسمح له بالاقتراب من بعض أسئلة الواقع في غليانها وتوترها؛ لكنه في تقديري يحضر بقوة أكبر المتقطع عن المؤسسة والمؤسسات، وقد يكون ذلك لفائدة حضوره الأعمق في مساره البحثي والإبداعي، فهو يتجه إلى معاقرة بعض نصوص التراث، وتحرير وإعادة تحرير النصوص الابداعية التي تُكَلِّفه جهدًا في البحث والإنجاز، وهما معًا يتطلبان مثابرة وعناء يتجاوزان في طبيعتهما الحضور المشهدي الذي تتيحه المؤسسات في مناسبات معينة.

إن آثار الرجل آثار تحتل مكانة معتبرة داخل خريطة الإنتاج الثقافي المغربي، يتجلى ذلك في جرأتها وحماسها، وأشكال تجريبيتها، وهو يُبرز بوضوح أكبر في الروح النقدية التي تلازمها.

نحن هنا لا نفاضل بين أدوار المؤسسات وأدوار المبدع، فللمؤسسة أدوارها المؤكدة في النسيج الثقافي داخل المجتمع، وللمبدعين أدوارهم المؤكدة أيضًا في التاريخ وفي المجتمع، سواء داخل المؤسسات أو بمحاذاتها، وبنسالم يعرف هذا جيدًا، وقد اختار الطريق الذي أَمَّن له محراب العزلة المنخرطة في عوالم الكتابة والبحث والإبداع، والمنخرطة أيضًا في شجون وقضايا الإنسان والتاريخ. ويبدو لي أنه رغم عمليات تمأسسه الظاهرة في السنوات الأخيرة، حيث أصبح عضوًا في المكتب المركزي لاتحاد كتَّاب المغرب (1998-2002) ونال عضوية المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان ورئيس دعم الإنتاج السينمائي المغربي، وسوى ذلك، ثم أصبح وزيرًا للثقافة من سنة 2009 إلى سنة 2011؛ إلا أنه ظَلَّ، بجوار كل ما سبق، حريصًا على حفظ المسافة اللازمة للاشتباك في عمليات القراءة والكتابة والإبداع، ولكن ليس على حساب مهامه الوزارية. وعندما نقترب أكثر من منجزاته البحثية والإبداعية في تنوعها وتعدد لغاتها ومواقفها، نجد أنفسنا أمام طموح تجسده شواهد وآثار، ونصوص ما فتئت تراكم بنوعية حضورها، وبمختلف المعارك والمواقف التي انشغل بها، مما يمكن اعتباره صورة من الصور المتميزة في فضاء الثقافة المغربية المعاصرة. لا نصدر هذا الحكم لأن نصوصه الإبداعية في الرواية وأبحاثه الفكرية تمتلكان مواصفات استثنائية، بل نصدره لاقتناعنا بأن آثاره تحتل مكانة معينة داخل خريطة الإنتاج الثقافي المغربي، يتجلى ذلك في جرأتها وحماسها، وأشكال تجريبيتها، وهو يُبرز بوضوح أكبر في الروح النقدية التي تلازمها.

يمكن أن نشير إلى عينة من أعماله في البحث والإبداع؛ فقد أصدر مجموعة من الأبحاث المتعلقة بمجال الفلسفة وتاريخ الأفكار باللغتين العربية والفرنسية، نذكر منها: في نقد الحاجة إلى ماركس (1983)، الجرح والحكمة، الفلسفة بالفعل (1986)، التشكلات الإيديولوجية في الإسلام (1988)، الخلدونية في ضوء فلسفة التاريخ (1989)، العرب والإسلام في مرايا الاستشراق (2012)، في الغمة المغربية (1997)، الخلدونية في ضوء فلسفة التاريخ (1998). كما كتب الشعر وأصدر مجموعة من الدواوين: ثورة الشتاء والصيف (1982)، أبيات سكنتها وأخرى.. (1997)، ديوان الانتفاض (2000). كما أصدر مجموعة من الروايات من بينها: مجنون الحكم (1990)، مِحن الفتى زين شامة (1993)، العلامة (1997)، فتنة الرؤوس والنسوة (2000)، هذا الأندلسي (2007)، معذبتي (2010)، من ذكر وأنثى (2015)، الذات بين الوجود والإيجاد (2019)، جرحى الحياة (2019). ولا بد من الإشارة هنا إلى عناياته بالرواية وقد تضاعفت في السنوات الأخيرة، حيث حازت بعض رواياته جوائز ثمينة وترجم بعضها إلى لغات غربية عديدة، كما من آخرها الإندونيسية والصربية والصينية وغيرها، الأمر الذي غيَّب أشكال الحضور الأخرى التي كانت له في ثمانينيات القرن الماضي.

2ـ تبينت، من خلال متابعتي المتواصلة لأعماله، أن كتابه “الجرح والحكمة.. الفلسفة بالفعل”، الصادر سنة 1986، يشكل البؤرة الناظمة لبرنامجه في البحث والإبداع، ففي هذا النص الشذري المهووس بالكتابة واللغة والتاريخ والتخييل، تتجسد العناصر النظرية والمجالات الإبداعية، التي استقطبت وما زالت تستقطب جهوده في البحث والسِّجال والكتابة. من حيث هي أولًا وقبل كل شيء كلمةٌ وموقف، شهادةٌ وخيار.. وعملية تقطير المفردات والجمل التي يحرص عليها بمبضع العطار، تظهر جوانب من مغامراته في الكتابة والبحث، وهي تحضر اليوم بوضوح كبير في بعض أعماله الروائية. ولا نتردد في النظر إلى كثير من أعماله التي توالى صدورها في الشعر والرواية، باعتبارها تتميمًا متطورًا للروح التي بنى في فصول الكتاب الذي ذكرنا.

هل منحت الرواية لبنسالم حميش الفضاء الإبداعي الذي يحلم به؟ وهل سمحت له بمواصلة التحليق بالكلمات، ورسم العوالم التي لم يتمكن من بنائها بالعبارة الفلسفية؟

لِنَعُد إلى نصه الشذري كتاب الجرح والحكمة، الذي تحضر فيه موضوعات محدَّدة، تشير إلى مجمل اهتماماته الفكرية والإبداعية المنجزة بعد ذلك.. يحضر التفكير في المجال السياسي، وبالذات في الاستبداد، ويحضر التفكير في التاريخ انطلاقًا من الخلدونية. كما يحضر نقده للانهيارات والتراجعات في تاريخنا الحديث المعاصر، من خلال بحثه في الغمة المغربية، وتحضر موضوعات الزمن والموت والمرأة، وقد شكلت مجتمعة أبرز القضايا التي انشغل وما زال منشغلًا بها.

تعكس المنجزات التي أنتج بنسالم حميش منذ انخراطه في عمليات البحث والكتابة نهاية سبعينيات القرن الماضي، ما يوضح التصوُّر الذي رسمنا ونحن نتابع ونُعايِن عن قرب أنماط حضوره شاعرًا وروائيًا وباحثًا في قسم الفلسفة، حيث انصبَّ اهتمامه بالدرجة الأولى على فلسفة التاريخ، كما اعتنى بالاستشراق، إلى أن وجد ضالته في الرواية. وقد منحته فضاءاتها مجالًا رحبًا، لبسط مختلف القضايا النظرية والتاريخية والسياسية التي يهمه الاقتراب منها، دون أن تبعده عن صبوات الشعر وألوان العبارة الصانعة لفنون القول الجميل في العمارة السردية. إنها لم تبعده عن همومه في الفكر وفي الإبداع، وقد اتخذت في النصوص الروائية أبعادًا ومذاقات أخرى.

افترضنا، ونحن نُتابع أعماله، أن مؤلفه كتاب “الجرح والحكمة” يتضمَّن بصورة مكثفة برنامجه في البحث والتخييل، مع التمييز بين حدوس البرنامج ومستويات الإنجاز؛ ففي مستوى إنجاز الأبحاث والدراسات التي كتب، نعثر على عُدَّة مرجعية لا تتوانى في الاستعانة على موضوعاتها بكل ما تقتضيه آليات البحث التي تكفل معاينة أفضل وأقوى بالمجالات المبحوثة. وضمن هذا السياق، تحضر في بعض أعماله الفكرية كما تحضر في بعض رواياته بعض مكاسب العلوم الإنسانية والاجتماعية والتاريخ. إلا أننا لاحظنا، أيضًا، أن هوى التخييل الروائي دفعه إلى مواصلة العناية بمختلف القضايا النظرية والتاريخية بآليات البناء الروائي والكتابة الروائية.. وضمن هذا الإطار، تحضر الأهمية الكبرى لبعض رواياته، مثل العلاَّمة ومجنون الحكم وقد نالا معًا جوائز مُستحقة، (جائزة الناقد 1990 لمجنون الحكم، وجائزة نجيب محفوظ سنة 2002 لرواية العلاَّمة)، نالها مرتين عن الجامعة الأمريكية ثم عن اتحاد كتاب مصر. ذلك أن الجهد الأعظم فيهما يتجلى في عمليتي التخييل والتوثيق، كما يتجلى في نمط الكتابة، وهما معًا يكشفان بكثير من القوة عنفوان المعاناة التي عاشها الكاتب مع العوالم والنصوص، التي نسج انطلاقًا منها الرموز التي تحيل إلى قضايا مركبة، حيث نواجه في هذه الروايات جملة من الإشكالات التي يتداخل فيها الماضي بالحاضر، وتتداخل فيها اللغات، لتبلور نصوصًا مسبوكة بكثير من الجهد والحَدب. ويحق لنا أن نتساءل ونحن نواصل العناية بإنتاجه الروائي المتواصل، هل منحت الرواية لبنسالم حميش الفضاء الإبداعي الذي يحلم به؟ وهل سمحت له بمواصلة التحليق بالكلمات، ورسم العوالم التي لم يتمكن من بنائها بالعبارة الفلسفية؟

لا نريد الوقوف هنا أمام محتويات أعماله، بل إننا نتجه أساسًا لإبراز بعض خصائص ومزايا كتابته، حيث نَتَبَيَّن عنايته الشديدة بالكتابة والتخييل، الأمر الذي دفعنا إلى وضعها كعنوان لروح إسهامه المتواصل في الثقافة المغربية. لنقف على سبيل التمثيل أمام عيِّنة من العناوين التي اختار لبعض رواياته: مجنون الحكم، محن الفتى زين شامة، فتنة الرؤوس والنسوة، هذا الأندلسي، معذبتي، من ذكر وأنثى، الراوي والمتجردة، جرحى الحياة، علاوة على قصصه في زهرة الجاهلية، أنا المتوغل. ففي هذه العناوين عملية تكثيف لإيحاءات مركبة، وهي تضع أمام قارئ الرواية عتبة مغرية، تحفزه وتناديه ليقترب منها…

كانت باكورة إنتاجه الروائي رواية مجنون الحكم الصادرة سنة 1990، وهي وإن حملت بعض مواصفات الرواية التاريخية، إلا أن قوتها تعود في نظرنا إلى تعدد أصواتها، حيث يحضر التاريخ مشخصًا في أسماء ووقائع، كما يحضر فعل التخييل مجسدًا في الكيفيات التي ركَّب الكاتب بواسطتها مقتضيات الحكي. وفي قلب ما ذكرنا، يتظاهر بعدُ الحاضر، حيث تتحدَّد في هذا العمل أشكال من التقاطع الرمزية في الشخصيات والأحداث، ويتم تحويل المعطيات واستبدال شحنة دلالاتها المرتبطة بالتاريخ وبالدلالات الجديدة المؤشرة على معطيات تنتمي إلى فضاءات الراهن، فتلتقي مظاهر استبداد الأمس باستبداد اليوم. ولا تبرز قوة هذه الرواية فيما ذكرنا فقط، بل في استعانتها باللغة التراثية والنسج على منوالها بروح مبدعة، بعيدة كل البعد عن التكلُّف؛ وهو ما يطوِّر اللغة، ويولِّد لغة جديدة بمفرداتها وتعابيرها وسياقاتها المركبة التي تفتح نوافذ على الماضي والحاضر في وقت واحد.

(*) نقلا عن ضفة ثالثة، 14 أكتوبر 2020.

hespress.com