في الآونة الأخيرة انتشر خبَران يهُمان أسرة اليسار بالمغرب، ويقدمان ويصِفان بشكل جلي وضعيةَ الأسرة اليسارية حاليا، بل والأسرة السياسية ببلادنا عموما؛

الخبر الأول يفيد أن النائب البرلماني والقيادي في الحزب الاشتراكي الموحد، السيد عمر بلا فريج، يعتزم عدم الترشح للانتخابات المقبلة، بل وقرر أن يعتزل العمل السياسي بصفة نهائية؛ وهو الخبر الذي أحزن كثيرين من اليساريين، ومن المغاربة عموما، لِما رأوا في الخطوة، في حال إقدام صاحبها على تفعيلها، ليس خسارة فقط لليساريين، بل للمغاربة كلهم وللوطن!

googletag.cmd.push(function() { googletag.display(‘div-gpt-ad-1608049251753-0’); });

والخبر الثاني انتشر بدوره مؤخرا كالنار في الهشيم، ولخّصته تصريحات غاضبة ومؤلِمة، للقيادي في حزب الاتحاد الاشتراكي، حسن نجمي؛ اتهم فيها القيادة الحالية لحزب الشهداء الأفذاذ، المهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد وعمر بنجلون والآخرين.. بِبيع التزكيات للترشح باسم الحزب لغرباء على الأسرة الاتحادية، ومنهم حتى “الشناقة” و”البزناسة”، وهي التصريحات التي لم تزد جُرح الجسد الاتحادي إلا نكْأً وقد أوشك يتقيّح!!

في واقع الأمر، يُجسد هذان الخبران ويلخصان، بعُمق، صورةَ السياسة والسياسيين، في وطننا المغرب، وهي الصورة الناطقة، بكل تعابيرها الصارخة؛ من جهة أولى، مشيرة إلى الانحدار الشديد إلى الهاوية، الذاهبة إليه بعض المؤسسات الحزبية، ولاسيما منها تلك التي جسدت في أحلك الأزمنة، التي سميت بسنوات الرصاص، صوتَ المواطن وصوت القوات الشعبية، أمام الظلم والطغيان والتسلط وتغول الدولة أو المخزن؛ حيث كانت تستباح كلُّ الأدوات والممارسات، بما فيها الاغتيالات السياسية، وبما فيها بلقنة الساحة السياسية بأحزاب تابعة للإدارة، لحبك والتلاعب في نتائج الانتخابات، التي كانت في كثير من المناسبات شبه محسومة مُسبقا..

ومن جهة ثانية، جعلنا أحد الخَبَرين، كمُتابِعين ومواطنين، لا نفقد آخر خيط رفيع بالأمل في غد أفضل، من حيث الممارسة السياسية، عندما فوجئنا برجل سياسي نزيه، في هذا الزمن السياسي الأرعن والأجبن والأفسد، يعلن أمام الأشهاد، وهو في أوج عطائه الخلّاق والمتفرد، كنائب برلماني وكمستشار جماعي وكحزبي وسياسي، يعلن أنه قد قرر “الطلاق” مع السياسة، وفي ثنايا إعلانه غصة غضب، على تحويل السياسيين، أو غالبيتهم، المهمةَ النيابية إلى وظيفة، وهو ما لا يستقيم والعمل السياسي النزيه، بحسبه !

الخَبرانِ/الحَدثَان، أعادا إلى ذاكرة المغاربة، وبحسرة، تلك الصورة الصافية لمناضلي السياسة في “الزمن الجميل” (من حيث جمال التنظيم السياسي والعمل بداخله)، عندما كان السياسيون يزهدون في المناصب ويُولونها الأدبار. ولا يهمهم إلا أن يكونوا صوت الكادحين من المواطنين، ومن أي موقع، حتى ولو في المناطق النائية، وفي دشور الجبال ومنحدراتها، وفي فيافي الصحارى؛ وقتها كان حِزبٌ كالاتحاد الاشتراكي، وبالرغم من كل الاضطهاد والحرب الإعلامية والأمنية ضده، يخرج قادته، ويعلنونها بكل جرأة، عبر منابرهم الإعلامية، بأن الأيادي الآثمة للسلطة، عبثت في صناديق الاقتراع ! وبأن تلك السلطة لا تريد أو غير جدية في الذهاب بمغرب ما بعد الاستقلال، إلى مصاف الدول الديمقراطية !

إنه الحزب، الذي تخرّج من مقراته البسيطة، في المناطق النائية، وفي الأحياء الشعبية، زعماء من طينة الشهداء السالفي الذكر وكثيرين من أمثالهم؛ هو الحزب نفسه الذي تحول اليوم إلى “دُكّان” يبيع ويشتري التزكيات، للغرباء والسماسرة، ولِمن يدفع أكثر كثمن بالدراهم، بحسب تصريحات بعض أبنائه القياديين، الذين لم يصبروا على كتم شهادتهم للتاريخ وللوطن؛ وهي الوضعية الذميمة والمُحزنة، التي وصل إليها الحزب، عندما بات يقوده شخص اسمه إدريس لشكر، الذي يتهمه الاتحاديون أنفسهم، بأنه حوّل حزب الوردة إلى “إقطاعية” تابعة له، يتصرف فيها كما شاء وأنّى شاء، وبِعبث وجحود وتنكّر، مثير لأكثر من علامة استفهام كبرى !

وما أقدم على حَكْيه، حسن نجمي، في لقاء مبثوث خلال ندوة إلكترونية، بأن “حاكِم” “إقطاعية” “القوات الشعبية”، القابع في البناية الزجاجية بشارع العرعار بحي الرياض الراقي وسط العاصمة، بات يستبعد كل منتقد لطريقة تدبيره المزاجية للحزب، ويُقرب حواليه فقط مَن يُشبهونه في تحجّر عقليته وتكلّسها، وفي تهافته على التصفية الرمزية والمعنوية لمخالفيه، من خلال تهميشهم وإقصائهم، بشتى الوسائل، بما فيها حبك المكائد وترويج الأكاذيب؛ كل ما صرّح به نجمي، وسبقه إلى ذلك قياديون آخرون، قبل أن يعلنوا انسحابهم من الحزب، لهو دليل ناصع على أن العنوان الأبرز للمرحلة السياسية الراهنة هو الإفلاس في أبشع صوره !

إن النموذجين اللذين أثارا الجدال هذه الأيام، وبالرغم من أنهما يهمان العائلة اليسارية، بالدرجة الأولى، إلا أن قوة الرسالة وطبيعة خطابها، تعكس واقع حال السياسة والسياسي ببلادنا؛ الذي يغلبه عليه طابع الانتهازية والوصولية، وغياب ملكة الإبداع، وانتفاء تداول المهام الحزبية بين الكفاءات ولاسيما الشباب، مقابل استمرار نفس الوجوه الكالحة في الواجهة رغم عجزها العُمْري والإبداعي، وتهافُتِها وزبانيتها على اقتسام الغنائم والمكاسب الريعية، وهو واقع الحال الذي لن يؤدي، بكل تأكيد، إلا إلى مزيد من العزوف، من طرف المواطنين، على السياسية والعمل السياسي، بل والكُفر بذلك إذا ما استمر واقع الحال هذا !

بيد أنه في خضم هذه الصورة القاتمة والكئيبة، في المشهد الحزبي والسياسي ببلادنا، يسطع بريق أمل في الأفق، يجسده رجال شرفاء، ولو قلّ وندر وجودهم، من طينة السيد بلا فريج، الذي وهو يُذكّر الرأي العام باعتزاله السياسة، الذي لا رجعة فيه، على الأقل في الأفق القريب والمتوسط، فإنه لم ينس، أيضا، تذكيرنا والسياسيين، بمدرسة الزعيم عبد الرحيم بوعبيد في السياسة، والتي كانت تُصِر على الالتزام بالأخلاق في الممارسة السياسية؛ فلا سياسة بلا أخلاق، بحسبه؛ وهي وجهة النظر التي تُدحِض النظرية الميكيافيلية الحاضّة على استبعاد الأخلاق من السياسة. والتي من منطلق “الغاية تبرر الوسيلة”، باتت أحزاب عريقة كـ”الاتحاد” تُباع وتُشترى فيها التزكيات للترشح للانتخابات، ولِمَن يدفع أكثر !

The post لشكر وبلا فريج.. أو الداء والدواء للممارسة السياسية ! appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.

hespress.com