اعتبر إدريس لكريني، أستاذ العلاقات الدولية ومدير مختبر الدراسات الدستورية وتحليل الأزمات بجامعة القاضي عياض بمراكش، أن المغرب حاول تكييف سياسته الخارجية مع المتغيرات والتحولات التي فرضها المحيطان الدولي والإقليمي خلال العقود الثلاثة الأخيرة.

وشدد لكريني على أن قضية الصحراء المغربية ظلت تحظى بأولوية محورية وأساسية في هذه السياسة، نظرا لموقعها المتميز على رأس قائمة القضايا التي تجسد المصالح العليا والحيوية للبلاد، ما جعلها تؤثر بشكل ملحوظ في ملامح هذه السّياسة، وتتحكم بصورة كبيرة في مسارها.

وتطرق لكريني، ضمن مقال توصلت به هسبريس، إلى رسالة وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج إلى رئيس الحكومة وباقي أعضائها، بخصوص قطع العلاقات مع السفارة الألمانية في الرباط.

إليكم نص المقال كما توصلت به هسبريس:

حاول المغرب تكييف سياسته الخارجية مع المتغيرات والتحوّلات التي فرضها المحيطان الدولي والإقليمي خلال العقود الثلاثة الأخيرة، مع استحضار ثوابت ومحددات هذه السياسة، إذ أضحت واضحة ومبادرة، تأخذ بعين الاعتبار منطق الربح والخسارة بمفهومه الإستراتيجي عند اتخاذ مختلف السلوكيات والقرارات في هذا الشأن.

كما أن البعد البراغماتي والاقتصادي أصبح حاضرا وبقوة ضمن مخرجات هذه السياسة، وهو ما يؤكده الانفتاح على عدد من الدول كالولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا وداخل القارة الإفريقية… دون التفريط في الشركاء التقليديين داخل الاتحاد الأوروبي.

وعلى مستوى قضية الصحراء المغربية فإنها تظلّ تحظى بأولوية محورية وأساسية في هذه السياسة، نظرا لموقعها المتميز على رأس قائمة القضايا التي تجسد المصالح العليا والحيوية للبلاد، ما جعلها تؤثر بشكل ملحوظ في ملامح هذه السّياسة، وتتحكم بصورة كبيرة في مسارها؛ فيما استطاعت هذه الدبلوماسية أن تواجه وتدبّر بقدر كبير من النجاعة والصرامة عددا من الإشكالات والتحديات التي واجهت الملف خلال السنوات الأخيرة.

وقد أصبحت قرارات المجلس في السنوات الأخيرة تحثّ على بلورة حلّ سلمي، وواقعي، وتوافقي، مع التنويه بجدّية ومصداقية المبادرة المغربية المتعلقة بالحكم الذاتي، والتأكيد على أهمية إرساء الثّقة لإنجاح العملية السياسية، وعلى انخراط دول المنطقة في هذا الشأن، مع المطالبة باحترام اتفاقيات وقف إطلاق النار، بالموازاة مع الاقتناع الذي عبّرت عنه مجموعة من الدول بمصداقية الجهود المغربية.

وضمن خطوة مفاجئة، وجهت وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج في بداية الأسبوع الجاري (الإثنين فاتح مارس 2021)، رسالة إلى رئيس الحكومة وباقي أعضائها، تفيد بقطع العلاقات مع السفارة الألمانية في الرباط، لأسباب لخّصت في وجود “سوء تفاهمات عميقة بصدد قضايا أساسية للمملكة المغربية”.

كما دعت المراسلة التي نشرتها مجموعة من وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي أعضاء الحكومة إلى “تعليق كل أشكال التواصل والتفاعل والتعاون في كل الأحوال، وبأيّ شكل من الأشكال، مع السفارة الألمانية وهيئات التعاون والمؤسسات السياسية التابعة لها”.

وأثارت الرسالة أسئلة عديدة في أوساط الباحثين والمهتمين، بصدد الشكل الذي صدرت به، والأسباب الحقيقية التي تقف خلف القرار الصارم الذي تضمنّته، وما إذا كان الأمر يحتمل قدرا من التسرع، أم أنه نتاج تقييم مرحلي موضوعي أخذ اعتماده وقتا كافيا، وحول ما إذا كان سينعكس بالسلب على مستقبل العلاقات بين الجانبين في مختلف المجالات، أم سيدفع السلطات الألمانية إلى مراجعة سياساتها إيجابا تجاه المغرب وقضاياه الأساسية.

ويشير الكثير من المؤرخين والباحثين إلى أن العلاقات بين المملكة المغربية وجمهورية ألمانيا الاتحادية تمتد لأكثر من خمسة قرون، بدأت مع استئناف الألمان بعض الأنشطة التجارية في ميناء مدينة آسفي عام 1506، وتعززت في نهاية القرن السادس عشر، قبل تطورها بشكل ملحوظ مع تعيين الإمبراطور “فريديريك الأكبر” لقنصل في المغرب عام 1784.

وشهدت هذه العلاقات تطورات مهمة في السنوات الأخيرة، أصبحت معها ألمانيا تعتبر المغرب بلدا جارا لأوروبا، وشريكا حيويا لها في شمال إفريقيا. وقد شمل التعاون بين الجانبين عدة مجالات، من ضمنها قضايا الطاقة والهجرة وتعزيز الأمن في إفريقيا.

وتبرز التقارير أن العلاقات الاقتصادية بين الجانبين شهدت قدرا من الانتعاش، وهو ما يعكسه إبرام مجموعة من الاتفاقيات في عدد من الميادين الصناعية والتجارية؛ فيما تنشط الكثير من المؤسسات المدنية الألمانية (كمؤسسة هانز زايدل، وكونراد أديناور، وفريدريش إيبيرت، وفريديرش ناومان..) على امتداد التراب المغربي في مجالات علمية واجتماعية مختلفة.

ولا تخفى أيضا أهمية التعاون الثقافي والعلمي بين الطرفين، الذي أتاح انتشار اللغة الألمانية في عدد من المعاهد والجامعات والمؤسسات التعليمية بالمغرب. كما تحتل ألمانيا مكانة متقدمة ضمن الدول التي لا تتوانى في تقديم منح ومساعدات للمغرب، كان آخرها الدعم المقدم في سياق تدبير جائحة كورونا، الذي يقدّر بأكثر من مليار أورو.

وتحدثت الكثير من الأوساط الإعلامية والأكاديمية عن مجموعة من العوامل التي يفترض أن تكون وراء الخطوة المغربية، أولها يتصل بإقصاء المغرب من المشاركة في مؤتمر برلين بشأن الأزمة الليبية، المنعقد بتاريخ 19 يناير 2020، رغم الجهود التي بذلها بصدد الأزمة، والتي أثمرت اتفاق الصخيرات في شهر أكتوبر من عام 2015.. وثانيها يتعلق بالمواقف والتوجهات المناوئة لقضية الصحراء المغربية داخل مؤسسات الاتحاد الأوربي، وبخاصة في ما يتعلق بالتحفظ على بعض البنود المتعلقة بتجديد الاتحاد لاتفاقية الصيد البحري مع المغرب.

فيما أفادت بعض التقارير الإخبارية برفض ألمانيا توجهات تقودها فرنسا داخل الاتحاد لإرساء موقف داعم لسيادة المغرب على صحرائه، يعزز الموقف الأمريكي الأخير؛ كما أنها لم تخف رفضها قرار الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” القاضي بمغربية الصحراء، علاوة على التساهل مع رفع برلمان ولاية “بريمن” “علم” ما تسمى “الجمهورية الصحراوية العربية الديمقراطية”. فيما ذهبت مصادر إعلامية وأكاديمية أخرى إلى تورط منظمات ألمانية في إصدار تقارير “متحاملة ومسيئة” إلى المغرب.

إن ما قام به المغرب هو موقف سيادي، يجسد ردّ فعل طبيعي للدفاع عن قضاياه ومصالحه. وتمثّل هذه الخطوة التي لم تصل إلى حدّ استدعاء السفير الألماني أو طرده أو قطع العلاقات رسالة واضحة للطرف الألماني، مفادها أن إرساء علاقات متينة وإستراتيجية بين الجانبين لا يمكن أن يبنى على حساب مصالح المغرب الحيوية، أو تجاوز الخطوط المسموح بها في ما يتعلق بوحدته وسيادته؛ ولذلك فالسلطات الألمانية التي طالما أقرت بأهمية مشروع الحكم الذاتي الذي يمثّل حلا واقعيا وعمليا، وعبّرت أيضا عن حرصها على تطوير العلاقات مع المغرب، مطالبة بمراجعة سياساتها ومواقفها المناوئة للمملكة، على طريق إرساء علاقات ودّية ومتوازنة مبنية على الاحترام المتبادل.

hespress.com