المتأمل في المشهد العربي وربما العالمي يلاحظ أن عددا من ضعاف ومتوسطي المستوى الثقافي غدوا رموزا يتحكمون في طموحات ورغبات وأحلام الشباب يتمنى كل الشباب تقليدهم وأن يكون مثلهم لما يكبر، بل هم من أخذوا زمام المبادرة، ورسن توجيه المجتمع وتخطيطه الاستراتيجي بتحكمهم في الثروة … فقد يملك شاب رياضي فاشل في الدراسة، أو مغنية أوصدت أبواب المدارس في وجهها باكرا، ما تعجز النار على حرقه وما لا يمكن أن يملك جزءا منه كل مثقفو الأمة طيلة حياة عملهم وكدهم… ويستقبل الفائز في مسابقة غنائية محلية استقبال الفاتحين ولا يلتفت أحد لفائز في مسابقة عالمية للمخترعين والعلماء .
إنه زمن الرداءة والتفاهة أو ما أطلق عليه الفيلسوف الكندي ألان دونو( Mediocratie)، التفاهة ناتجة عن تشييئ الإنسان، وجعل المال الإله الوحيد الذي تتوحد حوله كل الديانات، والمعبود الأوحد الذي لا خلاف حول طريقة عبادته ، بل لقد أصبح المال هو (العبد والمعبود والمعبد) على حد تعبير محمود درويش ، هذا الإله الجديد الذي قتل القيم ووقف شامخا على قبرها جعل كل شيء في خدمته. فماتت المهننة وحلت محلها الوظيفة والتوظيف، فالموظف مجرد أداة، والوظيفة مجرد وسيلة يمكن لأي القيام بها ، فلم يعد مطلوبا من المدرس أن يكون كفئا، ومن إمام المسجد أن يكون حاملا فاهما لكتاب الله… وقس على ذلك فيكفيك شهادة ولو حصلت عليها بمال قذر، فقد تجد إنسانا حاصلا على الدكتوراه في الكهرباء ويستقدم تقنيا بسيطا لإصلاح عطل بسيط في بيته، ويكون آخر أميا لم يلتحق بمدرسة ويدير مكتبة يبيع الكتب ويوجه النشء لشراء كتب لا يعرف محتواها، وصيدلانيا لا يحرك وإلا بأوامر أو استشارة مستخدم له خبرة.. وأمام تعدد الوظائف وتنوعها صار الحرفيون والمهنيون عملة نادرة، فقد تجد في أي مدينة من يؤدون وظيفة المعلم، الأستاذ، الطبيب والمهندس النجار والصباغ السباك … ولكن قلما تجد الحرفي الذي يتقن عمله… لأن الوظيفة لا تتطلب الإتقان وإنها الهدف منها الأجر بعد أداء المهمة. فالأستاذ يمكن أن يعطي درسا في الفصل كما في البيت، المقهى أو داخل السيارة الأهم هو المقابل…
إن مفهوم الوظيفة قد تسلسل إلى كل هياكل المجتمع والدول وأصبح الوزير ورئيس البلدية والعامل مجرد موظفين يؤتى بهم من أجل وظيفة معينة في مدة معينة، والشاطر من يؤديها على أحسن وجه وبأقل الأثمان، ولتحقيق ذلك يجب عليه وضع منظومة القيم جانبا و الاستعاضة عنها بمفاهيم العصر كالشراكة والفعالية والمردودية … وهو ما جعل المؤسسات العمومية كالمستشفى ،المدرسة ،المسجد، البلدية ، الميناء، محطة القطار… – التي يفترض فيها توفير خدمات للمواطنين- شركات تدار بالتدبير المفوض وفق موازين القوى، وقوة ضغط اللوبي المسير، مفروض عليها في نهاية السنة مقارنة المداخيل بالمصاريف واستخلاص الربح الصافي، والمدير الجيد من كانت منحنيات الربح معه في تصاعد و وصل بمؤشر الربح أعلى المستويات… وهي مفاهيم واعتبارات لا تتناسب والمنظومة القيمية التي تشكل جوهر الإنسان، لأنها تسلب الإنسان إنسانيته، وتسلبه كل قيم المواطنة فيصبح مجرد ساكن/ قاطن ورقم موجود تحت رحمة التافهين من الموظفين الذين ارتقوا درجات سلم الوظيفة دونما حاجة للطرق التقليدية المعلومة كالدراسة، النضال، التدرج …
إن تَشيء الحياة العامة وتسليع الإنسان جعل التفاهة نظاما اقتصاديا وسياسيا جديدا، فلن ننتظر من المستقبل إلا مزيدا من التافهين في هرم السلطة والاقتصاد عندنا، وطبيعي أن تجد رئيس حكومة لا يفقه شيئا في البروتوكول، وتجد وزيرا لا يميز بين العدو والحليف، ويدلي بتصريحات ضد التوجه العالم للدولة التي يمثلها والتي تدفع له مقابل مهامه الديبلوماسية. وفي زمن التفاهة طبيعي أن يتم ضبط خطيب واعظ وعضو مجلس عالمي لعلماء المسلمين متلبسا في الخيانة الزوجية والفساد مثل المراهقين على شاطئ البحر مع واعظة لا تتوقف على توجيه النصائح للشباب وتدعو لغض الطرف والعفة وعدم الاختلاط بين الجنسين…
إنه زمن التفاهة الذي حصر قاعدة النجاح في عنصرين لا ثالث لهما: المال وحسن التنكر داخل اللوبي المسيطر بتغيير اللون في الوقت المناسب، وهي أمور لا يمكن للمثقف أن يجيدها لأنه معروف بالالتزام وكونه لا يراوغ ولا يهادن ولا يستسلم… فقد ضحى مثقفون بحياتهم دفاعا عن أفكار خصومهم، ومنهم من قضى من أجل مبدأ يؤمن به، وكان التزحزح عنه قيد أنملة كاف ليجعله من أعيان اللوبي المسيطر…
وبما أن المثقف كان ولا زال وسيظل شوكة في حلق التافهين، ومسمارا في نعلهم يعرقل سيرهم ويكشف عوراتهم، فقد تسللوا إلى قنوات نشر التفاهة (محطات إذاعية وتلفزية، قنوات خاصة، وشبكات التواصل الاجتماعي) كما تسللوا إلى مختبر تفريخ المثقفين (المدارس، والجامعات…) وحولوها إلى معاهد مستعيضين عن المثقفين بالخبراء كل همهم جعل الجامعة في خدمة السوق وجعل (العقول تتناسب وحاجات الشركات) وتخريج يد عاملة لا تعرف إلا الطاعة والولاء، ممنوعة من النقد واستخدام العقل، تعيش دون حس نقدي ، صالحة لغرض معين لا تفقه شيئا خارج تخصصها، لا تثقن إلا استهلاك من ينتجه التافهون/ المؤثرون الاجتماعيون …
ولتحقيق كل تلك الأهداف كان لا بد من ضرب التعليم والمدرسة العمومية المواطنة، بقصر وظيفتها في إعادة الإنتاج وتخريج “التافهين، من خلال نشر ثقافة صل بخط، اختر الجواب الصحيح، ضع علامة في المكان المناسب، وهي ثقافة تكرس التفاهة، تقتل التحليل والنقد وتنبذ الموسوعية وتنتج طبيبا في العيون لا يعرف شيئا عن أمراض الأذن، وطبيبا متخصصا في القلب لا يعرف أمراض الرئة، وأستاذا في الرياضيات أو الفيزياء لا يضبط اللغة و لا يفقه شيئا عن إبستمولوجية المواد التي يدرسها … نظام التفاهة وحده يحعل التافهين Les élèves médiocres ” في النهاية هم الفائزون، لأنهم يصلون بأي وسيلة، لا يعيِّرون القيم، فقد تأتيه فرصة لعميلة تهريب أو بيع مخدرات ولا يفوتها، ويبيض أموالها ويصبح بماله مؤثرا اجتماعيا، وسيد المجتمع يشتري أصوات الناخبين، ويرتقي أعلى درجات السلّم الاجتماعي، فيما يكون مصير المتفوقين الذين واصلوا تعليمهم، متشبثين بمبادئهم وقيمهم العطالةَ والوقوفَ أمام ابواب التافهين يستجدون عملا…
إن نظام الرداءة والتفاهة يسمح لتافه أمي بأن يتاجر في المخدرات وأن يبيض أمواله فيبني مستشفى ليشغل الأطباء، ويبني مدرسة ليشغل الأساتذة وينشئ مقاولة ليوظف المهندسين ليغدو هو الرمز والقدوة في المجتمع ، مستثمرا مواطنا له الأمر والنهي … فلا ضير إذا أصبحت القدوة عندنا من التافهين ما دامت ثقافة الاستهلاك تجعل الإنسان كائنا مستهلكا مثل الحيوان، خاضع لمنطق السوق كالسلع، قابل للتعليب كالسردين، ومن لا يعجبه هذا النظام فللتافهين فليشرب البحر، ما دام للتافهين زبانيتهم التي لا تستخدم العقل. ومن أجل المال لا حدود لتهورهم ورعونتهم …
يستحيل اليوم مواجهة التفاهة ، وجهد ما يستطيع المثقف أن يصبِّـن المفاهيم عسى يعيد إليها شيئا من ألقها ومعانيها الحقيقية ، خاصة تلك المفاهيم التي تداس يوميا أمام أعيننا كالمواطن ، الكرامة ، المصلحة العامة، التضحية ، الالتزام… وهي مفاهيم لا يمكن أن تنبث إلا في المؤسسة العمومية، وكاذب من يزعم زرعها في القطاع الخاص القائم على مبدأ الربح والخسارة … وإلا فما علينا إلا الاستعداد لأن يفعل بنا التافهون ما يريدون ، وطموحات الربح لا حدود لها ، فلن يكتفي التافهون بتعليب الزبناء لأن الأهم هو كم سيربحون من بيعهم…
لأجل كل ذلك سيعف القارئ ما الذي تغير في المجتمع حتى أصبح ضعاف المستوى الثقافي/ التعليمي من المغنيين والرياضيين والفنانين والسياسيين في مراكز القرار يمثلون قدوة للشباب، وتم تهميش القدوة التقليدية المكونة من الأستاذ، الطبيب، المهندس ، الفقيه، الكاتب والمثقف… فلا غرابة أن تصبح قدوتنا في زمن التفاهة من التافهين