منذ صدور قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء في دجنبر الماضي، سارع عدد من المعلقين والباحثين السياسيين إلى نشر العديد من المغالطات حول القرار وإخراجه من سياقه السياسي، وكذا السكوت عن العديد من الحقائق التاريخية الرئيسية التي من دونها لا يمكن فهم هذه النزاع. ويعد المقالان الأخيران لستيفن زونس وجون بولتون المنشوران في موقع “فورين بوليسي” كأبرز الأمثلة على هذه الممارسة، حيث دفعهما تشبثهما بحق الصحراويين في تقرير مصيرهم إلى تقديم النزاع من زاوية جد ضيقة لا تأخذ في الحسبان تعقيدات النزاع ولا آثاره على المنطقة والعالم بأسره.

وحمل مقالا زونس وبولتون مغالطات توهم الرأي العام الدولي بأن تاريخ الصراع بدأ في عام 1975 وانتهى عام 1991، ولم يعيرا أي اهتمام بالأحداث التي وقعت قبل وبعد هذه التواريخ. وعوض إعطاء صورة كاملة عن النزاع، أعربا عن غضبهما إزاء القرار الأمريكي، واعتبراه انتهاكا للقانون الدولي ولحق الصحراويين في إقامة دولتهم المستقلة.

تغيير الوضع القانوني للصحراء

ومن بين الجوانب التي غابت عن هذه المناقشة بشكل واضح تغير الوضع القانوني للأقاليم الصحراوية المغربية على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية. ووفقاً للرواية السائدة، ينبغي أن يكون حل النزاع متماشياً مع القانون الدولي، الذي يكرس حق الصحراويين في تقرير مصيرهم. غير أن هذه السردية تتحاشى التأكيد على أن تقرير المصير هو نتاج القانون الدولي العرفي، الذي يأخذ قوة القانون على أساس اتساق ممارسة الدول الفردية للدول، وكذلك ممارسات المنظمات الدولية فيما يتعلق بأي نزاع معين.

وفي حالة الصحراء، أصبح مبدأ تقرير المصير هو أساس حل النزاع منذ ديسمبر 1966، فبعدما لم تبد إسبانيا أي نوايا للتفاوض بشأن مستقبل الإقليم، قام المغرب بدعوتها إلى السماح لسكان الأقاليم الجنوبية المغربية بتقرير مستقبلهم من خلال استفتاء لتقرير المصير كان من المقرر إجراؤه عام 1967، لكن هذا الاستفتاء لم ير النور قط. وبموجب مبدأ اتساق الممارسة في القانون العرفي الدولي، أصبح الاستفتاء منذ ذلك الحين الأساس لإنهاء النزاع.

ويمكن القول إلى حد ما بأن النزاع عاش نفس السيناريو خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، حيث ترتبت عن اتساق ممارسات مجلس الأمن، وكذلك الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، نتائج قانونية أدت إلى تغيير الوضع القانوني للنزاع، حيث إن السبيل الوحيد لإنهاء النزاع، من منظور مجلس الأمن، يمر عبر المفاوضات والتوصل إلى حل سياسي مقبول من الطرفين.

وفي هذا الصدد، أشار الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس بوضوح، في تقريره الأخير، إلى أن القرار 2440 والقرارات اللاحقة هي أساس الحل السياسي. وكان المبعوث السابق للأمم المتحدة بيتر فان والسوم قد أكد في مقال رأي في صحيفة “الباييس” في شهر غشت عام 2008 بأنه حينما أخذ مجلس الأمن واقع الصراع في الاعتبار، تصرف في حدود صلاحياته، وكذلك في إطار القانون الدولي. وأضاف أنه لا يوجد في القانون الدولي ما يلزم “مجلس الأمن باستخدام جميع السلطات المتاحة له لتنفيذ قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة أو فتوى المحكمة الدولية”.

وعلى الرغم من أن دولاً، مثل الجزائر وجنوب أفريقيا وكوبا، لا تزال متمسكة بمبدأ تقرير المصير، فإن مبدأ الحل السياسي القائم على التسوية السياسية أصبح الآن هو المرجعية الرئيسية لإنهاء هذا النزاع بناءً على مبدأ التوافق. وبالتالي، أدى اتساق ممارسة مجلس الأمن والغالبية العظمى من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بخصوص أهلية الحل السياسي في إنهاء النزاع إلى تغيير الوضع القانوني للنزاع بشكل أصبحت فيه قرارات مجلس الأمن هي الأساس والمرجع الذي على الأطراف الاعتماد عليه والتقيد به من أجل إنهاء هذا النزاع. وهذا يعطي النهج القائم على الحلول التوفيقية قوة القانون وفقا لمبدأ اتساق الممارسة.

أسباب استحالة تنظيم الاستفتاء

من جهة أخرى، تغاضى بولتون و زونس عن الإشارة إلى تاريخ وسياق إنشاء “جبهة البوليساريو”، وكيف كانت تعتزم أولاً إنهاء الاستعمار الإسباني، وسعت إلى الحصول على دعم السلطات المغربية، وكيف سيطرت الجزائر عليها بعدما رفض المغرب طلبها. كما تغاضيا عن القول بأن المغرب قدم أول ملتمس للأمم المتحدة لمطالبة إسبانيا بإنهاء تواجدها الاستعماري جنوب المغرب عام 1957. كذلك تغاضيا عن ذكر أن المغرب كان وراء قرار الأمم المتحدة بإدراج الصحراء على قائمتها للأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي عام 1963. كما قاما بغض الطرف عن اقتراح المغرب إجراء استفتاء حول تقرير المصير عام 1981، لكن الجزائر والبوليساريو رفضتا ذلك.

ولا يزال بولتون و زونس يعتبران نزاع الصحراء نزاعاً يتعين فيه على الأمم المتحدة أن تسمح فيه للصحراويين بممارسة حقهم في تقرير المصير. فهما يصوران المغرب بشكل منهجي على أنه بلد محتل لأرض “شعب” أعزل، ويحاول إحباط أي جهود للأمم المتحدة لتنظيم الاستفتاء. إلا أن هذه السردية تتعارض مع رواية مسؤولين سابقين في الأمم المتحدة، على رأسهم رئيس بعثة “المينورسو” خلال الفترة 1994-1998، إريك جونسون، الذي أكد أن الطريقة المتسرعة التي أبرمت بها الأمم المتحدة اتفاق وقف إطلاق النار، فضلاً عن خلاف الطرفين حول الصحراويين المؤهلين للتصويت، هي السبب الأساسي في عدم إقامة الاستفتاء.

وفي تقرير قدمه لمجلس الأمن في فبراير 2000، شدد الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، كوفي عنان، على غياب آليات لتطبيق نتيجة الاستفتاء في حال تنظيمه، قائلا إن الوقت قد حان للنظر في سبل أخرى. وبناء على ذلك، طلب عنان من مبعوثه إلى الصحراء، جيمس بيكر، “استكشاف السبل والوسائل الكفيلة بالتوصل إلى قرار مبكر ودائم ومتفق عليه”.

وبين عامي 2001 و2003 قدم بيكر اقتراحين، حيث قبل المغرب الاقتراح الأول، غير أن البوليساريو والجزائر رفضتاه. وفي عام 2002 اقترح الرئيس الجزائري آنذاك عبد العزيز بوتفليقة تقسيم الإقليم، وهو ما رفضه المغرب.

كما رفض المغرب خطة بيكر الثانية، في حين تبنتها الجزائر والبوليساريو. وعقب استقالة بيكر عام 2004، دعت الأمم المتحدة الأطراف إلى تقديم مقترحات للتوصل إلى حل سياسي مقبول من الطرفين.

وفي عام 2007 قدم المغرب اقتراحه المتعلق بالحكم الذاتي، الذي حظي منذ ذلك الحين بمباركة وترحيب واسعين من طرف أعضاء مجلس الأمن، انعكس في لغة القرارات التي اعتمدها المجلس منذ ذلك الحين، والتي وصفت المقترح المغربي بأنه “جدي وواقعي وذات مصداقية”.

وفي مقابلة صحافية أجراها الرئيس الموريتاني السابق محمد ولد عبد العزيز في شهر أبريل 2019 مع الصحافي الفلسطيني عبد الباري عطوان، أكد أن الولايات المتحدة وأوروبا لا تؤيدان إقامة دولة مستقلة في منطقة الساحل والصحراء. غير أن معظم التقارير والتحليلات الرئيسية تميل إلى التغاضي عن كل هذه الحقائق، وهو ما لا يساعد على إعطاء صورة واضحة عن النزاع لصناع القرار والدبلوماسيين، كما لا يساعدهم على اتخاذ قرارات بناءً على فهم عميق ومستنير لحيثياته.

جبر ضرر تاريخي تعرض له المغرب

بناءً على ذلك، لا ينبغي لإدارة بايدن أن تأخذ هذه الكتابات المنحازة على محمل الجد، بل عليها أن تدعم الخطة المغربية للحكم الذاتي والبناء على قرار ترامب. فمن خلال قيامها بذلك، لن تحترم القانون الدولي فحسب، بل ستنصف أيضاً حليفاً استراتيجياً قامت القوى الاستعمارية باغتصاب أراضيه وسيادته.

كما ستفي الولايات المتحدة بالالتزام الذي قطعته عام 1906 للحفاظ على وحدة أراضي المغرب. فحينما اجتمعت الدول الأوروبية في مؤتمر الجزيرة الخضراء الإسبانية في الفترة ما بين يناير وأبريل 1906 للتداول في أزمة المغرب، كانت الصحراء رسميا جزءا لا يتجزأ من أراضيه. ولم يتم إخطار المشاركين في المؤتمر بالاتفاق الفرنسي- الإسباني لعام 1904، القاضي بتقسيم المغرب إلى مناطق نفوذ بين البلدين، حيث تمكنت إسبانيا من السيطرة على شمال وجنوب المغرب، بينما أحكمت فرنسا قبضتها الاستعمارية على وسط البلاد.

ومنذ انتصار الحلفاء على النازيين، ظل المغرب ثابتاً في دعمه للولايات المتحدة. كما لعب على مدى العقدين الماضيين دوراً محورياً في الحرب الأمريكية على الإرهاب في المنطقة، مما جعله شريكاً أمنياً لا غنى عنه لواشنطن وحلفائها.
وفي عام 2004 صنفت الحكومة الأمريكية المغرب كأحد حلفائها الثلاثة الرئيسيين من خارج حلف شمال المحيط الأطلسي في أفريقيا. وعلاوة على ذلك، فإن المغرب هو البلد الأفريقي الوحيد الذي وقع على اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة، كما أنه الدولة الأفريقية الوحيدة التي تجري معها القوات العسكرية الأمريكية تدريبات ومناورات عسكرية سنويا. وإن دلت هذه المعطيات على شيء، فإنما تدل على مستوى الثقة بين البلدين.

إن قرار ترامب بالاعتراف بسيادة المغرب، والإعلان علناً عن خطة الحكم الذاتي للبلاد كأساس لحل مقبول من الطرفين، هو نتيجة للدعم الأمريكي على مدى العقدين الماضيين. فقد أيدت الإدارات الأمريكية المتعاقبة قرار المغرب تمتيع الصحراء بالحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية. ومن خلال دعمها باستمرار لخطة الحكم الذاتي المغربي، خلقت الحكومة الأمريكية لدى المغرب توقعات مشروعة لسلوك أمريكي مماثل في المستقبل.

وقد كان الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون هو من أقنع المغرب بتقديم مقترح الحكم الذاتي وتعهد بدعمه. واستمر هذا الدعم في عهد الرئيس جورج بوش. ففي أبريل وأكتوبر من عام 2007، سعت إدارة بوش إلى جعل الخطة المغربية أساس العملية السياسية بقيادة الأمم المتحدة. وواجهت هذه المحاولة رفض كل من فرنسا وروسيا والأمين العام آنذاك بان كي مون، الذي تفادى الدخول في مواجهات مع حركة عدم الانحياز. وفي عهد الرئيس باراك أوباما تبنت الولايات المتحدة الاقتراح المغربي في مناسبات عديدة.

وعلى مدى السنوات الـ 13 الماضية لم يعد الحل المؤدي إلى طرف منتصر وآخر منهزم مطروحا في مفاوضات الأمم المتحدة. وقد بدا ذلك واضحاً من خلال غياب عبارة “استفتاء” عن جميع القرارات التي اعتمدها مجلس الأمن منذ عام 2007. الأكثر من ذلك أن القرارات التي اعتمدها المجلس منذ عام 2018 أكدت أن الحل السياسي المبني على التوافق هو الحجر الأساس للعملية السياسية. فمن منظور الأمم المتحدة، فإن السبيل الوحيد لإنهاء الصراع هو التفاوض من أجل التوصل إلى حل سياسي يحافظ على مصالح جميع الأطراف ويحافظ على الاستقرار في المنطقة.

دعم حليف استراتيجي موثوق به

ومن خلال تقديم دعم واضح للمغرب، لن تنصف الولايات المتحدة فقط حليفاً قديماً وموثوقاً به، بل ستساهم في تحقيق الاستقرار في المنطقة. الأكثر من ذلك أن مثل هذه الخطوة من شأنها أن توفر فرص الاستثمار للشركات الأمريكية في السوق الأفريقية. ويسعى المغرب، من خلال مشاريع البنية التحتية عالمية المستوى التي أطلقها في السنوات الأخيرة، مثل ميناء الداخلة الأطلسي، إلى تحويل الصحراء إلى مركز تجاري وصلة وصل بين المغرب وعمقه الأفريقي.

ومن شأن ذلك أن يمكن الشركات الأمريكية من استكشاف الفرص في الأسواق الأفريقية حيث تتنافس العديد من القوى العالمية والإقليمية، مثل الصين وروسيا والهند وفرنسا وبريطانيا وتركيا، على النفوذ وحصة في السوق. ومع دخول منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية حيز التنفيذ هذا الشهر، فإن إمكانات النمو الاقتصادي للعديد من الدول الأفريقية ستكون غير مسبوقة. ويمكن لواشنطن أن تستخدم موقع الداخلة وعلاقاتها القوية مع المغرب منطلقاً لسياستها الأفريقية.

وعلى عكس روايات زونس وبولتون، فإن الشركات العاملة في المنطقة لن تكون بأي حال من الأحوال متواطئة في “استغلال” المغرب المزعوم للموارد الطبيعية للإقليم. ومن الأمثلة التي تفند المغالطات التي تروج لها الأصوات والجهات الداعمة للبوليساريو والجزائر بخصوص الاستغلال المزعوم للثروات الطبيعية مسألة الفوسفاط، حيث إن النسبة التي تستخرجها مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط من المنطقة لا تمثل سوى 2 في المائة من احتياطاتها، و5 في المائة من إجمالي إيرادات المجموعة. وينطبق الشيء نفسه على الادعاءات المتعلقة بموارد مصائد الأسماك في المنطقة. فمنذ عام 1995 وقّع المغرب عدة اتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي مدتها أربع سنوات، تم التوقيع على آخرها في يناير 2019 مقابل 52 مليون يورو (63 مليون دولار) سنوياً. ويسمح الاتفاق للسفن الأوروبية بالعمل في المياه المغربية قبالة سواحلها على المحيط الأطلسي، بما في ذلك الصحراء.

وفيما لا يجني المغرب عوائد مالية من اتفاق الصيد البحري ومناجم الفوسفاط الموجود في الصحراء، فقد قام باستثمارات ضخمة في الإقليم منذ عام 1975، حيث قام ببناء مدن بأكملها، مما مكن السكان المحليين من الحصول على مستويات معيشة وعلى مستوى تعليمي أفضل من باقي مناطق المغرب. بالإضافة إلى ذلك، فإن مدن الصحراء توجد تحت تدبير سكان الأقاليم الصحراوية، علماً أن عدداً منهم أعضاء في غرفتي البرلمان وفي المجالس الجهوية.

فكل مؤشرات التنمية في المنطقة تظهر بشكل لا يدع مجالاً للشك حالة التنمية التي وصلت إليها الأقاليم الصحراوية، مما يفند الادعاء القائل إن المغرب يستغل ويستفيد بصفة غير قانونية من الموارد الطبيعية للصحراء.

وقد قال الملك محمد السادس في خطاب ألقاه عام 2014 إن الحكومة المغربية تستثمر 7 دراهم مقابل كل درهم تجنيه من الصحراء. بالإضافة إلى ذلك، بدأ المغرب مؤخراً عملية استثمار غير مسبوقة في مشاريع البنية التحتية لتحويل المنطقة إلى مركز تجاري إقليمي.

ما لا يريد زونس وبولتون الاعتراف به هو أن قيمة الصحراء بالنسبة للمغرب لا تكمن في مواردها الطبيعية، بل في قيمتها الرمزية بالنسبة للشعب المغربي كجزء من وطنه انتزعته منه القوى الاستعمارية، بالإضافة إلى أهميتها الاستراتيجية كحلقة وصل بين المغرب وأفريقيا جنوب الصحراء.

وبناءً على ما سبق، ينبغي أن تقوم سياسة الولايات المتحدة تجاه المغرب على الواقعية والمعاملة بالمثل. وفيما يتعلق بمسألة الصحراء الغربية، فإن هذا يعني الأخذ بعين الاعتبار التطورات الأخيرة في الصراع، فضلا عن رغبة المغرب الثابتة في التوصل إلى حل سياسي مستدام يحفظ حقوق ومصالح جميع الأطراف. وقبل كل شيء، لا ينبغي للإدارة الأمريكية أن تتغاضى عن الوضع الاعتباري للمغرب باعتباره حليفاً استراتيجيا للولايات المتحدة الأمريكية.

إن هيبة أمريكا وسمعتها كشريك دولي موثوق به على المحك. وإذا كانت لبايدن أي رغبة في استعادة تلك الهيبة وكسب ثقة الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، فعليه أن يبدأ بتقديم دعم واضح للمغرب.

مصدر المقال: مجلة “فورين بوليسي”

hespress.com