تصنف الروايات التاريخية المتداولة منطقة إفران الأطلس الصغير، الواقعة بجهة كلميم وادنون، واحدة من بين المواقع الأولى لاستقرار اليهود بالمغرب قادمين إليها من فلسطين في زمن نبوخد نصر الثاني، ملك البابليين، بعد التدمير الأول للهيكل حوالي 3175 حسب التقويم العبري الموافق لسنة 586 قبل الميلاد.

تسامح وتعايش

شكلت بلدة إفران على امتداد عقود طويلة موطنا يحتذى به في تعدد الثقافات ورمزا للتعايش والسلم والتسامح بين المسلمين واليهود الذين غادروا المنطقة نحو إسرائيل وبعض الدول الأوروبية مباشرة بعد استقلال المغرب، تاركين وراءهم موروثا تاريخيا وذاكرة غنية يشهد عليها الملاح والمقبرة اليهودية والكتابات العبرية القديمة ومجموعة من المزارات والمآثر التي يعود عهدها إلى ما قبل ميلاد المسيح، ومن ضمنها كنيس البندانيين، وكنيس الحزان يعقوب، وكنيس بيت هاميدراش.

وتشهد بقايا منازل مخربة عدة بجماعة إفران الأطلس الصغير، وتحديدا في قرية “السوق أوفلا”، على تراث عبري جد هام يؤرخ لملاح يهودي كان يحيط به سور بارتفاع 10 أمتار، بني على مساحة شاسعة في موقع استراتيجي جغرافيا واقتصاديا خول له لعب دور رئيس في تجارة القوافل السودانية، خصوصا خلال القرنين 18 و19.

وحسب شهادات المؤرخين، فإن المقبرة اليهودية بإفران يعود تاريخها إلى فترة قبل الميلاد، وتحوي قبور سبعة أولياء مقدسين لدى اليهود، وعدد كبير من القبور القديمة، على رأسها قبر يوسف بن ميمون وايلي الجليلي ويوسف بن سبات المتوفى سنة 239 ميلادية.

إهمال واندثار

تسبب الإهمال الذي طال أغلب المعالم المؤرخة للتواجد اليهودي بإفران، سواء من طرف المسؤولين المحليين أو غيرهم، في ضياع إرث مهم لطائفة عمرت لسنوات بالمنطقة، كان آخرها سنة 2009 بعدما تعرض الملاح اليهودي لعملية تخريب استعملت فيها جرافات لهدم بعض مكوناته بغرض استغلالها في أشغال إنشاء رياض سياحي تعود ملكيته إلى أحد المستثمرين الخواص.

يقول بوبكر أونغير، أستاذ باحث في التاريخ المعاصر بكلية الآداب ابن زهر بأكادير: “للأسف الشديد، هناك مآثر ومزارات تاريخية تدلنا على تواجد يهودي هام بمنطقة إفران الأطلس الصغير، لكن أغلبها اليوم مهدد بالاندثار بفعل غياب الصيانة والترميم في الوقت المناسب، كما أن أملاكا يهودية تم السطو عليها وتم تغيير معالمها الحضارية، لذلك تفقد بلادنا يوميا موروثا وتراثا لا ماديا غنيا وغير قابل للتعويض”.

“لهذا، قمنا كمنظمات ومجتمع مدني بتنظيم ندوات تحسيسية حول الموضوع ومراسلة الجهات المعنية من أجل إصلاح وترميم عدد من الملاحات والمعابد اليهودية بمنطقة إفران وكذلك بمنطقتي انزي وأسرير نواحي تزنيت وبأسرير جنوب كلميم، لكن للأسف الشديد يبقى التعاطي الرسمي مع الشأن الثقافي والتراثي ببلادنا محدودا، مما يجعل موروث ثقافيا عبريا ضخما في مهب الريح، لذلك أملنا كبير أن تتغير طريقة الجهات المسؤولة في التعامل مع هذا المعطى وتعمل على ترميم القصبات والمزارات التاريخية والترافع من أجل تصنيفها ضمن التراث اللامادي العالمي”، يتابع أونغير الذي يشغل أيضا منسقا وطنيا للعصبة الأمازيغية لحقوق الإنسان.

اهتمام نوعي

أوضح أونغير في تصريح لهسبريس أن مساهمة الطائفة اليهودية بإفران، والجنوب عامة، في بناء تاريخ المغرب أغفلتها الكتابات التي تناولت مراحل تطور الدولة المغربية؛ “فباستثناء فئة قليلة من الباحثين الذين تحدثوا عن تواجد يهودي في المغرب وعن تعايش مثالي بينهم وبين المكونات الدينية الأخرى، فالكتابات التاريخية الأخرى لا تخلو من إقصاءات ممنهجة للعنصر اليهودي وإن ذكرته في بعض المرات بشكل عرضي”.

وأشار الباحث ذاته إلى أن التطورات السياسية الهامة التي تعيشها بلادنا في موضوع العلاقات المغربية مع إسرائيل وكذا وجود وعي بأهمية صون وحماية التراث العبري كتراث وطني مغربي متجذر في تاريخنا الجماعي، “هي مكتسبات رمزية وأساسية وراء فتح المجال أمام الباحثين والمهتمين لتسليط بعض الضوء على البعد اليهودي كعنصر رئيس في الثقافة والهوية المغربية الجامعة وركن أساسي من أركان التاريخ المغربي، وهو تطور نوعي من حيث إنه أقر حقيقة تاريخية منسية وهي مساهمة اليهود المغاربة بصفة عامة في بناء صرح الدولة المغربية عبر التاريخ”.

فرصة استئناف العلاقات

أورد المتحدث أن الخطوة الجريئة التي قام بها المغرب بقيادة الملك محمد السادس لاستئناف العلاقات الديبلوماسية بين المغرب وإسرائيل، “ستسرع فتح ملف اليهود المغاربة، وستمكن المغاربة من التعرف على جزء هام من التاريخ الوطني والحضاري المغربي الذي ساهم فيه اليهود المغاربة مساهمة كبيرة وفي أزمنة تاريخية عريقة عرفت تعايشا نموذجيا ومثاليا بين الديانتين الإسلامية واليهودية أفرز اليوم جالية مهمة ومؤثرة من اليهود المغاربة في إسرائيل ستفيد المغرب على جميع الأصعدة الاقتصادية، السياسية والديبلوماسية”.

ودعا بوبكر أونغير المجتمع المدني المغربي ومختلف الفاعلين السياسيين والأكاديميين إلى استثمار هذه المرحلة الدقيقة والفرصة السانحة من أجل الاستفادة من مكون أساسي من مكونات الهوية الوطنية وهو المكون العبري، وكذا التشبع بثقافة التسامح الديني والتعايش الثقافي ونشرها بين الناشئة المغربية عبر وسائل الإعلام ومؤسسات التنشئة الاجتماعية، ومنها الأسرة والمدرسة، كما أن الحقل الديني يجب أن يلعب دوره كاملا في نشر قيم الإخاء والمواطنة الحقة.

hespress.com