بعد زيارة خاطفة قمتُ بها منذ بضعة أشهرٍ إلى مدينة “الجزيرة الخضراء” الأندلسيّة الواقعة جنوب إسبانيا التي يُطلق عليها الإسبان اليوم (Algeciras)، حيث أقمتُ في أحد فنادقها التاريخية القديمة الذي بني منذ حوالي قرن ونصف قرن من الزّمان، وبعد ما ينيف على ثلاثين سنة من إقامتي في الديار الإسبانية، عثرتُ عن طريق الصّدفة داخل حديقة هذا الفندق الفسيحة بين أشجار وبنايات كثيفة على بقايا أطلال واحدٍ من أقدم المساجد العتيقة التي بُنيت في الأندلس على الأرجح غداة الفتح إسلامي لها، يوجد هذا الفندق على مقربةٍ من الشّاطئ الذي نزل فيه طارق ابن زياد وجيشه سنة 711م، وهو غير بعيدٍ عن صخرة “جبل طارق” التي فتئ يحتلها الإنجليز إلى اليوم، مثلما تحتلّ إسبانيا مدينتيْ سبتة ومليلية المغربيتيْن وبعض الجيوب والجزر المحاذية للسّواحل المغربية منذ بضعة قرون.
يقع هذا الفندق الكبير في المُرتفعات المحيطة بهذه المدينة السّاحلية الجميلة التي أصبحت اليوم ممرّاً رئيسيّاً للعديد من المسافرين من جنسيات مختلفة المتّجهين إلى إسبانيا، أو إلى البلدان الأوروبية، أو العائدين منها إلى المغرب، وقمتُ بتصوير بقايا المسجد الذي تحيط به أسوار مهترئة، وأعمدة متآكلة آيلة للسّقوط، وتعلوه نباتات متسلقة، من نوع نبات اللبلاب، وما أشبه التي تكوّن عريشاً متشابكاً حول جدران المسجد، وتتوسّط بقايا بناياته بئرٌ (أو جُبٌّ) من السّهولة رؤية الماء في قعرها العميق، ولا بدّ أن هذه البئر كانت تُستعمل للوضوء، ولأغراض الطهارة، والنظافة ولمآرب أخرى، ولقد أخبرني القائمون على هذا الفندق كما رأيتُ ذلك منشوراً، ومشاراً إليه في بعض مطبوعاته وكاطالوغاته، أنه يوجد بحدائقه على بعد بضعة أمتار من الباب الرئيسي الكبير لمبنى الفندق واحد من أقدم المساجد التي تمّ بناؤها في الأندلس.
مؤتمر الجزيرة الخضراء
هذا الفندق الذي يتميّز بالطابع الفيكتوري الإنجليزي الكلاسيكي القديم، احتضن بين جنباته عام 1906 “مؤتمر الجزيرة الخضراء” حول المغرب كمُستعمَرَة أوروبية بمشاركة اثني عشر دولة أوروبية، وشارك الرئيس الأمريكي روزفلت فيه كوسيط.
كان هذا الفندق في ذلك الإبّان من أفخم فنادق مدينة (الجزيرة الخضراء)، وتملأ قاعاته الواسعة، وباحاته الفسيحة وجدرانه الداخلية العديد من الصّور التاريخية التذكارية لمختلف المتلقيات، والتظاهرات، والمؤتمرات الدولية التي عقدت بمبناه الكبير، منها صور فعاليات، ووقائع مؤتمر الجزيرة الخضراء التاريخي الآنف الذكر، كما نجد نصباً تذكارياً، وصوراً للشاعر الأندلسي الغرناطي المعروف فديريكو غارسيا لوركا الذي كان ينزل في هذا الفندق، ويؤمّه كثيراً أيام عزّه وأوجه، فضلاً عن صور، ورسومات، ولوحات تاريخية أخرى، كما كان هذا الفندق أثيراً لدى العاهل الإسباني الأسبق خوان كارلوس الأوّل، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، بالإضافة إلى شخصيات سياسية، وفنيّة، وأدبية، وتاريخية شهيرة أخرى.
هجوم الفايكنج
تشير بعض المراجع التاريخية، ومصادر القرون الوسطى، إلى أن هذا المسجد-الجامع أمر ببنائه صقر قريش عبد الرحمن الأوّل الداخل، وقد عهد للمهندس المعماري عبد الله بن خالد مهمة بنائه، حيث كان يحتوي على خمس مبانٍ مغطاة في اتجاه ناحية الشمال، وكانت به مئذنة إلاّ أنها اندثرت ولم تصلنا منها أثر إلى أيامنا، كما يؤكد المؤرّخون أن هذا المسجد بني على بناية سابقة كانت توجد في المكان الذي بني فيه. كما تشير هذه المصادر التاريخية التي تتحدّث عن مدينة الجزيرة الخضراء إلى أن هذا المسجد-الجامع قد تعرّض لهجوم الفايكنج عام 859م، الذين كانوا قد قاموا بغزوات من البحر على هذه المدينة طمعاً في غنائمها، وخيراتها، وممتلكات أهلها، ففرّ السكان إلى الآكام، والمرتفعات العالية للمدينة وتعقبتهم جحافلُ من قراصنة الفايكنج حيث أضرموا النار في المسجد ممّا أثار غضب وحفيظة الجزيريّين (نسبةً إلى الجزيرة الخضراء)، فهاجموا بدون هوادة الغزاة وأمكنهم أسر إثنين من مراكبهم الكبيرة، حيث شيّدوا بخشبيهما أبواباً، وشبابيك، وعوارض للمسجد الذي بنوه من جديد.
وتشير المصادر التاريخية إلى أن ملك إسبانيا ألفونسو الحادي عشر (1344) أمكنه استعادة مدينة الجزيرة الخضراء حيث أمر بتحويل المسجد-الجامع إلى كاتدرائية أطلق عليها اسم “سانتا ماريا دي بالما”، وهي قدّيسة المدينة. وتؤكد لنا معظم الرّوايات أنه في عام 1369 عاد هذا المبنى وأصبح مسجداً إسلامياً من جديد على يد سلطان غرناطة ومُجدّد قصر الحمراء بها محمد الخامس، بعد أن أمكنه استرداد هذه المدينة من يد الإسبان، ليعود ويُدمّر من جديد عام 1379. وخلال القرن الثامن عشر، استُعمِلت غرف وأروقة هذا المسجد لتخزين البارود، ويمكن لنزلاء وزوّار هذا الفندق التاريخي الكبير اليوم زيارة الجدران الثلاثة الباقية من هذا المسجد، وكذا مشاهدة البئر التي تتوسّطه، وحفرة قبو فناء الوضوء، حيث تمّ دمج كلّ ذلك في حدائق فندق الملكة كريستينا. وخلال إقامتي بهذا الفندق أخذتُ العديد من الصّور التذكارية لمبناه، ولحدائقه، ولبقايا المسجد-الجامع الذي اندرس ولم يبق منه سوى جدران أطلاله المتهالكة التي تلوح للناظر إليها من بعيد كباقي الوشم في ظاهر اليد!
أين أصحاب هذه الحضارة؟
ولعلّ التساؤل الذي يدور بخلد كلّ زائر لهذا الفندق والمسجد-الجامع الذي يوجد بداخله بإلحاح، هو أين هم أرباب وأصحاب هذه الحضارة التي نشأت، وترعرعت، وسادت، وتألقت، ثم بادت في الأندلس بعد أن ظلّت تنير دياجي الظلام في أوروبا زهاء ثمانية قرون من الزّمان؟ أين هم أحفاد أجداد هؤلاء الذين شيّدوا هذا المسجد الذي أصبح اليوم منسيّاً ومهجوراً يقاوم الزّمن وعوامل تحاتّه في حدائق هذا الفندق المترامية الأطراف، والذي أمسى في الوقت الرّاهن في حالة يُرثىَ لها تتمزّق له ولرؤيته نياط الأفئدة؟ ثمّ أين هي الجمعيات، والمؤسّسات، والمنظمات الثقافية الكبرى، سواء المنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم “الألكسو”، أو منظمة اليونسكو العالمية التي تُعنى بحفظ التراث الإنساني وحفظه، وصونه، وترميمه؟ هذه الجهات وسواها لم تحرّك ساكناً حتى الآن لإنقاذ هذه المعلمة نظراً لأقدميتها، ورمزيتها، ودلالاتها التاريخية، خاصّةً وأنّ إسبانيا ترحّب اليوم بإعادة ترميم المآثر، والمعالم، والآثار الأندلسية، إسلامية كانت أو مسيحية أو يهودية، الموجودة في شبه الجزيرة الإيبيرية.
مآثر عمرانية أخرى تمّ ترميمها
لقد أصبح الإسبان اليوم وجيرانهم البرتغاليون شغوفين بمثل هذه المبادرات، وتجدر الإشارة والإشادة في هذا القبيل بالجهود التي بُذلت في هذا الشأن، خاصّة في عقد الثمانينيات من القرن الفارط حيث شاركتُ في بعضها عن كثب بحُكم وجودي في إسبانيا في ذلك الأوان، حيث تمّ اكتشاف وترميم العديد من المعالم والمآثر الإسلامية في إسبانيا، أذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر مدينة “سياسة” Medina Siyasa en Cieza الموحّدية بالقرب من مدينة مُرسية (مسقط رأس العالم الصّوفي الجهبذ المعروف ابن عربي المُرسي)، ولقد ظلّت ” سياسة” مطمورة ومواراة عن الأنظار لقرون، فضلاً عن ترميم قصبتها المعروفة بـ “Alcazaba Castillo de Cieza”، يُضاف إلى ذلك ترميم أماكن ومواقع تاريخية أخرى مثل مدينة “بني رزين” Albarracín القريبة من مدينة Teruel الإسبانية المُسمّاة على اسم المدينة المغربية “تِرْوَال” الواقعة ناحية مدينة وزّان المغربية، فضلاً عن المواقع، والحصون، والقلاع، والقصور الموجودة بنواحي مدينة سراقسطة، التي كانت تنافس بقيّة المدن الأندلسيّة الأخرى في الحُسن طوراً، وأطواراً تباهيها، في الشّعر، والآداب، والعلوم، والفلسفة، والفلك والرياضيّات في بلاط أبي جعفر المقتدر مشيّد قصر “الجعفرية” الشّهير في القرن الحادي عشر الميلادي الذي لا يزال شاهداً ماثلاً للعيان على روعة وجمالية معماره حتى اليوم. ومدينة” أليكانتي” (من القنت) التي ينتمي إليها الطبيب والعالِم الأندلسي محمد الشّفرة، وقد أطلِق اسم هذا الطبيب على شارع كبير بالمدينة، كما يتمّ تنظيم مسابقات علمية بهذه المدينة كلّ عام حول أعماله وإسهاماته في ميدان الطبّ في زمانه.
عاش محمد الشّفرة عيشة بحث متواصل في ميدان العلوم والنباتات، وتذكر المصادر العربية أنه كان طبيباً بارعاً، كما يؤكد الباحـث الفرنسي “لوسّيان لوكلير”، في كتابه “تاريخ الطبّ عند العرب”، أنّه “لم يكن طبيباً وحسب، بل كان نباتياً كبيراً أيضاً يبحث عن النباتات الغريبة ويجمعها بنفسه كيفما كانت صعوبة الأرض ووعورتها، وكان يملك في مدينة (وادي آش) حديقة نباتية من طراز رفيع يُجري فيها أبحاثه وتجاربه”.
يُضاف إلى ذلك، مشاريع ترميم أحياء البيّازين، وموقع البِشْرات، وقصر الحمراء نفسه الذي أصبح اليوم يكتسي هنداماً رائعاً جديداً بعد ترميمه بما فيه ساحة السّباع، أو بهو الأسود، وتجديد أرضية الحمراء ذات المرمر الموضون، فضلاً عن ترميم أسوار مدينة “مجريط” القديمة (مدريد الحالية)، وهي العاصمة الأوروبية الوحيدة التي أسّسها العرب والبربر تأسيساً (على يد محمّد بن عبد الرحمن الثالث في القرن التاسع الميلادي) والتي تحمل اسماً عربيّاً، (انظر مقالنا حول هذا الموضوع في “القدس العربي” بتاريخ 11 يوليو 2016)، وتجدر الإشارة كذلك في هذا الصدد إلى اعتراف اليونسكو مؤخراً بمدينة “الزهراء” التاريخية (القريبة من قرطبة) كتراث إنساني عالمي، وسواها من المآثر والمعالم الأخرى التي تعرّضنا لها في مختلف المقالات والدراسات التي نشرناها عن الأندلس تباعاً في “الاتحاد الاشتراكي” الزاهرة على وجه الخصوص.
مسجد المُونستير
وفى السياق نفسه هناك “مسجد المونستير الرّيال” أو الملكي الواقع بإقليم وِيلفَا، بجبال غرب الأندلس على بعد 120 كيلومترا من إشبيلية بالقرب من الحدود البرتغالية، يعود تاريخه إلى ألف سنة؛ إذ أسّس خلال الخلافة الأموية بقرطبة، بين القرنين التاسع والعاشر الميلادييْن، ويُعتبر من أقدم المساجد في أوروبا كذلك، بني على أنقاض معبد قوطي قديم، وبعد حرب الاسترداد عاد هذا المسجد وأصبح كنيسة، وهو يكتسي أهمية بالغة لأنه المسجد الأندلسي الوحيد الذي حافظ على بنائه الأصلي في هذه المنطقة النائية. ومنذ 1931، تمّ اعتباره من المعالم الأثرية الوطنية كتراث تاريخي ذي قيمة كبرى، ويشير المؤرخ أبو عبد الله البِكري (حسب ليفي بروفنسال) إلى أن “إقليم المونستير وباقي القرى الإشبيلية جمعوا ما ينيف على 35000 ديناراً من الجباية”. استردّ المسيحيون المونستير في القرن 13، وتقام في المسجد اليوم تظاهرات ثقافية كل عام، ويسمح بالصّلاة فيه، وإقامة الشعائر الدينية الإسلامية والمسيحية في آن واحد.
وفي سنة 1975، ومع انطلاق العهد الديمقراطي في إسبانيا، وزيادة الاهتمام بترميم الآثار العمرانية الأندلسية، تمّ ترميم مسجد المُونستير، الذي فتح أبوابه منذ ذلك التاريخ للمسلمين من أجل أداء صلواتهم فيه. ومن بين مرافقه التي توجد في حالة جيّدة المحراب، وصحن الوضوء، وهناك قاعة الصلاة التي تبلغ مساحتها 118 مترا مربعا، والمئذنة. وقد قام “مركز الدراسات الأندلسية وحوار الحضارات” بإنتاج شريط وثائقي حول هذا المسجد، وحول التظاهرات الثقافية والدينية التي تُقام فيه كل عام.
صقر قريش ونخلة الأندلس
ولقد كنتُ في هذا السياق قد قمتُ في الثمانينات من القرن الفارط خلال عملي في سفارة بلادنا بمدريد بتحسيس عمدة مدينة المُنكّب إبّانئذٍ Almuñécar السّيد Carlos Benavides بأهمية تشييد تمثال أو مُجسّم كبير لصقر قريش عبد الرحمن الداخل (731 – 788) لنزوله بعد عودته وصحبه من شمال إفريقيا إلى الأندلس في سواحل هذه المدينة بالذات سنة 755م، فارّاً من بطش العبّاسيين الذين ظلّوا يقتفون أثرَه حتى بعد وصوله إلى الأندلس، حسب معظم المؤرّخين الثقات في تاريخ الاندلس، وتمّ تنفيذ فكرة إقامة تمثال كبير على السّاحل نفسه الذي نزل فيه عبد الرحمن الداخل، يرتفع اليوم في فضاء هذا الثغر السياحي الجميل على علوّ يبلغ تسعة أمتار، وقد كُتبتْ على رخامة تحاذي ركبتيه نبذة موجزة عن وصوله إلى عَدْوة الأندلس، وقصّة نزوحه ونزوله في شطآن هذه المدينة التي انطلق منها إلى قرطبة حيث أسّس أوّل إمارة أموية بالأندلس، كما كُتبت على النّصب التذكاري لهذ الرّخامة أبيات مشهورة له مترجمة إلى اللغة الإسبانية يصف فيها نخلة تبدّت له في هذه الديار الأندلسية غداة وصوله إليها، يقول فيها:
تبدّتْ لنا وسط الرُّصَافة نخلة / تناءت بأرض الغرب عن بلد النّخلِ
فقلتُ شبيهي في التغرّبِ والنّوىَ / وطول التنائي عن بنيّ وعن أهلي
نشأتِ بأرضٍ أنتِ فيها غريبةٌ / فمثلكِ في الإقصاء والمنتأىَ مثلي