التطبيع هو نقل أو إعادة حالة إلى وضعها الطبيعي.

هل التطبيع ممنوع أو محرم في شريعتنا؟ أم أن منعه إنما هو وسيلة مقاومة تقوم بها الشعوب والدول والمؤسسات والأفراد، من أجل جلب مصلحة أو دفع مفسدة وقعت لهذه الجهة أو تلك بسبب سلوك ما، من طرف الجهة التي مُنِع أو عُلِّق التطبيع معها.؟ وتكون أهداف هذا المنع أو التعليق هو تحقيق المصلحة أو دفع المفسدة المذكورة؟

وبناء عليه فهل منع التطبيع أو تعليقه أمر مبدئي دائم، أم إجراء مرحلي مؤقت، مرتبط بالمصالح والمفاسد المترتبة عليه؟.

إذن هو أداة يستعملها القائمون على الأمور من أجل تدبير شؤونهم مع المخالفين، حسب ما تستدعيه الضرورات وتفرضه الحاجات، وليس أمرا واجبا ولا ضروريا على الأفراد والمؤسسات والدول، أبد الدهر، حتى لو
كان تحقيق الأهداف المرادة بخلافه؛ في ظروف أو أخرى.

التطبيع وتحريمه ليس أمرا قدريا على الشعوب العربية ودولها ومؤسساتها، ولا هو من الواجبات أو الأمور الدينية أو المقدسة، كما يبدو للكثيرين ممن اتخذه شعارا ومنظارا يفسر به تصرفات الأفراد والمؤسسات
والدول.

استعمال سلاح التطبيع أو المقاطعة لا يمكن أن يكون في كل زمان ومكان ومع كل أحد من أجل جلب المصالح ودرء المفاسد. ولا يمكن لكل شخص أو جهة أن يستعمل هذه الوسيلة ضد كل شخص أو جهة أخرى، إلا إذا كان لهذا الشخص المانع للتطبيع أو المقاطع له، ما يكفيه من القوة والقدرة على إجبار المعتدي على إرجاع الحق الضائع أو دفع الضرر الحاصل؛ وإلا فستصير هذه الوسيلة ضد صاحبها، إذ سيزيد على الظلم الذي يتعرض له حرمانا لنفسه من أمور طبيعية أخرى، كان يحصل عليها بشكل طبيعي، لكنه حرم نفسه اختياريا منها.

وحتى لا نسبح كثيرا في المفهوم الذي صبغه المتحدثون به، بنوع من القداسة الخالدة والإلزام المبدئي، واتهام كل من يخالفهم بالخيانة والإجرام؛ آخذ مثال البلاد الاستعمارية ومنها فرنسا وإسبانيا وإنجلترا،
والتي كان لها الفضل الكبير في إنشاء إسرائيل وزرعها في الوطن العربي وجمع اليهود لها من كل أنحاء العالم، بكل المقدرات الاستعمارية التي نهبت من الشعوب المستعمرة. لقد كانت المقاومة والفداء والجهاد وغيرها من المسميات هي سبيل التعامل مع المحتل والمستعمر، وكانت ضربات المجاهدين والمقاومين والفدائيين سببا من أسباب الاستقلال والتحرير. لكن كان هناك سبب آخر لا يقل أهمية، وهو تعب المستعمر من قيادة بلدان مضطربة وشعوب رافضة؛ فقرر أن يمنح هذه الشعوب استقلالها وفق شروط أملاها على قابضي الاستقلال، ومن ذلك حصوله على منافع قد تقل أو تكثر حسب البلاد التي منحت الاستقلال. لكن هذه الدول الاستعمارية استمرت في تسلم ثمرات البلدان المستقلة من النافذة بعد أن خرجت من الباب؛ واستمرت في تحقيق مصالحها رغم الاستقلال، وعادت العلاقات إلى طبيعتها بين هذه الشعوب وبين المستعمر. كما أن المستعمر لم يرفع يديه عن هذا الشعوب، وتقاسمت دوله حصصها منها، لكل دولة مستعمراتها القديمة، تديرها بالوكالة عبر وكلاء محليين، يتقاسمون مع المحتل خيرات بلدانهم؛ وكثير منهم يحرمون شعوبهم من عمل أيديهم.

هذه البلدان الاستعمارية كيف نتحرر من تسلطها واستمرار استغلالها لخيرات بلداننا؟ وكثير من هذا الاستغلال القائم به نعيش ونتطور، وتحاول كثير من الشعوب المستعمرة أن تتجاوز واقعها الأليم، الذي تكالبت
عليه نصال الأجانب وذوي القربى؟ ورغم وعينا الشقي بكل هذا الواقع وحيثياته، فلم يعد ممكنا الحديث عن منع التطبيع ولا عن المقاطعة، لماذا؟ لأن وضعنا الضعيف لا يسمح بذلك. ورغم قوة البلاد المستعمَرة لو اجتمعت كلمتها واتحدت أقطارها وقواها على تحقيق نتائج مهمة في هذا السياق، إلا أن تشرذمها وتمزقها وجهلها وتخلفها لا يسمح بذلك أبدا. لكن هذا الشعار بقي في أيدي وعلى ألسنة جهات مختلفة، من قوميين وإسلاميين وجهاديين وغيرهم، يدغدغون به المشاعر ويرفعونه ضد من لا يسير في مساراتهم الرجعية والانعزالية والاستئصالية والإرهابية؛ ليسموا أعمال مخالفيهم بالخيانة والعمالة والانتهازية والوصولية.

لماذا تنازلوا عن شعار مقاطعة ومنع التطبيع مع المستعمر، في كل أوروبا وأمريكا، حتى صاروا يتعيشون على راتب البطالة الاجتماعي في هذه البلدان؟ ألم يكن من الأولى امتناعهم من الأكل من أموال دافعي
الضرائب، والأموال المنهوبة من البلاد المستعمرة، وأموال مصانع الأسلحة التي يقتلون بها؟ أليست هده الدول الاستعمارية هي نفسها صانعة إسرائيل وداعمتها بكل ما تقتل به الفلسطينيين وتطردهم وتسجنهم وتعذبهم وتتسلط به عليهم. فهذه البلاد التي حضنت وتحضن إسرائيل هي التي تستحق المقاطعة وعدم التطبيع، وهم يعيشون على أرضها، ويرغبون في ودها، صامتين مطبعين وأذلة صاغرين.

كل ما ذكرته لا يعنينا في شيء من أمرهم. لكن رفع شعار التطبيع وتحريمه الديني وتقديسه، ووزن تصرفات الشعوب والبلدان والأمم والحكومات والرؤساء والملوك العرب على ضوئه، هو المشكلة. وليث الأمر يقف
عند التخوين والاتهام ووصف من يشاءون بما يشاءون. ولكن المصيبة هي الانتقائية حتى في هذه الأوصاف؛ فتجد المغربي “مثلا” لا يستقبل نصر بلاده في قضيته المركزية التي خضناها، لما يزيد عن أربعة عقود وتوجت بنصر ساحق؛ بسبب أن هناك وعدا بالتطبيع مع إسرائيل واستئناف علاقات سابقة، في شأن ما يعرف باليهود المغاربة الذين يزيدون على المليون مغربي، والسياح اليهود الراغبين في زيارة المغرب؛ وليس في شأن المسلمين المغاربة الذي يذهبون إلى إسرائيل. بينما تجده يطبل ويزمر لتركيا أو إحدى البلاد الإسلامية الأخرى التي لا يعرف عنها شيئا، لأنها حررت إقليما أو قتلت مناوئين. مع أن كثيرا من هذه البلاد، وعلى رأسها تركيا لها سفارة في تل أبيب، ولإسرائيل سفارة في إسطمبول، والتعاون العسكري التركي الثنائي، أو في إطار الناطو، لا يجهله أحد.

وهنا أجدني أختم بأن القداسة التي أصبغت على عدم التطبيع مع إسرائيل لا أساس ديني لها، ولا تختلف عن تقديسنا لعدم التطبيع مع عدونا الأول البوليساريو والجزائر التي تدعمه. وإذا تعاملنا بنفس الكيل فإننا سنرفض كل دولة وكل منظمة تتعامل على الأقل مع منظمة البوليزاريو الانفصالية، قبل أن تتراجع عن عدوانها، وسندخل في هذا الإطار كل الدول والمؤسسات التي لم تعلن مغربية صحرائنا، في الخونة وأعداء وحدتنا الترابية. وسنعلن كل المغاربة الذين يعيشون في هذا الوطن بأجسامهم وأفواههم، ولكن قلوبهم وسيوفهم مع أعداء وحدتنا الترابية خونة كذلك. وبالتأكيد فنحن لم نقل هذا إلى الآن، ولكنه يماثل ما يقوله المتهمون لنا بالخيانة والعمالة لأننا لم نمنع التطبيع حسب ادعائهم.

الأولى أن يعرف الذين يلقون المصطلحات جزافا ويسمحون بتخوين المخالفين لهم، بأن يعيدوا نظرهم في كثير من المفاهيم البالية والمغلوطة، التي ما زادتها القداسة إلا قسوة وجمودا، وجعلتها عرقلة في سبيل التحرر والتقدم والنصر.

وفي الختام فإننا لم نقم إلا بتحرير بلادنا، دون أن نتنازل قيد أنملة عن قضيتنا الفلسطينية، وربما بتحقيقنا لبعض الاستقلال والتحرير في أمر صحرائنا سنجد من الوقت والجهد والمال ما نساعد به إخواننا في فلسطين المحتلة، وما نضغط به على العدو المحتل من أجل حل عادل لقضيتهم. ولعل الأوراش التي فتحت في صحرائنا، لإخواننا الفلسطينيين من خلال مقاوليهم العرب، نصيب وافر، لا يمكن حصولهم عليه لولا انتصارنا في تحرير أرضنا بجهود حثيثة من طرف ملكنا وحكومته، وفي الدقائق الأخيرة لانتهاء مبارة الرئاسة الأمريكية؛ خلافا لما يدعيه مخالفونا من كونه الوقت الضائع. إن السياسة الحكيمة لجلالة الملك وحكومته، استطاعت أن تستصدر قرارا رئاسيا خالدا في الوقت بدل الضائع من فترة حكومة الرئيس ترامب. بينما لم نستطع استصدار هذا النصر طيلة ما يزيد عن أربعين سنة سابقة، سواء من المحتل السابق إسبانيا وفرنسا، أو من كل أوروبا، أو الصين وروسيا. لكننا استصدرناه من الرئيس ترامب شكر الله له على هذا الفعل، وغفر الله له في أفعال أخرى.

وفي الختام أعيد التوجه إلى جالدي أنفسهم وكارهي الفرح، أن القافلة ماضية والكلاب تنبح، وما على المتاجرين بشعار عدم التطبيع إلا أن يستيقظوا من أحلامهم، ويرجعوا إلى أوطانهم ويشاركوا مجاهديهم في تحريرها، بدل الارتماء فيما لا فائدة منه ولا معنى له.

hespress.com