صدر، أخيرًا، عن المركز الدولي للأبحاث والدراسات العربية العدد السابع من مجلة “فكر العربية”، تضمن ملفا عن الثقافة الشعبية أعده وأشرف عليه الأستاذ الدكتور مصطفى يعلى.

وقد شارك في الملف عدد من الباحثين من بلدان عربية: العراق ومصر وسوريا والجزائر والمغرب. يقول د. يعلى في تقديمه للملف: “تناولت الدراسات جوانب مختلفة مهمة، من موضوعات الثقافة الشعبية، كما يبدو من هذه القضايا: استلهام القصة القصيرة جدا للحكاية الخرافية، والقصة القصيرة للأسطورة، وتحولات الحكاية الشعبية، وتداول المرويات الشفاهية ووظائفها في سياق الاحتفال الديني التقليدي، وصورة المرأة في حكاية المعتقدات، والحرف اليدوية في الحكايات الشعبية، ومنظومة القيم في الحكاية الشعبية المغربية، وقضايا وأشكال قصص الأطفال، وأغاني الحضرة بين الواقع والأسطورة والمخيال الشعبي، والتلقي في الفرجة الشعبية المغربية، ومساهمة التراث الشعبي في العمل الدبلوماسي العربي”.

ففي مقال (جدل التقاطع والقطع بين الحكاية الخرافية والقصة القصيرة جدا)، حبّر د. مصطفى يعلى مقاربة مقارنية، ترمي إلى تجلية مظاهر التقاطع بين الحكاية الخرافية والقصة القصيرة جدا، ومدى ائتلافهما في الشكل والمكونات، موضحا كيف أن القصة القصيرة جدا قد استفادت إلى حد كبير من بلاغة الحكاية الخرافية الشعبية، واستوحت عوالمها، واستعارت أبطالها، على طريقتها الخاصة، مما مكنها من الاستقلال بذاتها، وقطع علائق التطابق مع الحكاية الخرافية الشعبية، وتحقيق انفصالها عنها، متحولة إلى خطاب سردي رسمي متميز ومستقل بذاته، ذي أصول وقواعد مخصوصة، وإن لم ينقطع حبل السرة بينهما تماما. وهو ما أكد عمليا مسلمة تداخل الأجناس الأدبية شعبية ورسمية.

وقريبا من الموضوع السردي نفسه شعبيا ورسميا، لكن في ارتباط بنوع سردي رسمي آخر هو القصة القصيرة، كتب الدكتور صبري مسلم حمادي من العراق مقالة حول (استلهام الأسطورة في القصة العراقية القصيرة)، من خلال موضوع نقدي عميق، ويتعلق باستلهام القصة القصيرة العراقية للأسطورة، بوصفها ذاكرة إنسانية مغرقة في القدم، وملهمة بسحرها ورموزها ودلالاتها للأدباء والفنانين؛ من خلال تحليل ثلاث مجموعات قصصية عراقية معاصرة، لكل من محمد خضير (رؤيا البرج)، وجهاد مجيد (دومة الجندل)، ومحمود جنداري (زو العصفور الصاعقة). وقد ركز د. صبري في قراءته النقدية لهذه النصوص القصصية على مدى استفادتها من أساطير التراث الحضاري العراقي الممتد إلى الحضارة السومرية في العراق، واستعارتها لأجوائها وأماكنها وأبطالها، من مثل جالجامش وعشتار.

وعمق الدكتور عبد الحميد بورايو من الجزائر، في مقاله (تحوّلات الحكاية في التراث السّردي الجزائري)، البحث في موضوع تحوّلات الحكاية من مرحلة إلى أخرى، مستندا إلى مدونة من الحكايات الشفوية، تراثية وأخرى مرويّة من أفواه رواة محترفين منتصف القرن العشرين، مدعمة بشهاداتهم حول ما أصاب رواية الحكاية الشعبية من تحولات، نتيجة ما عرفه المجتمع الجزائري من متغيرات.

ويجتهد الدكتور بورايو من خلال متن سردي شعبي جزائري، في سبر عناصر الإجابة عن التساؤلات المتعلقة بعلل التحول، وتكيف الثقافة الشعبية مع متطلبات جمهور المتلقين المعاصرين، نتيجة للتحولات المستجدة. وهكذا، تمكن من رصد ما تحقق من عبور تحوّلات شكليّة للتاريخ الاجتماعي، أورثت الحكاية العجيبة عناصر بنائية من الأسطورة، وتحول السيرة البدوية إلى السيرة الدينية، وتبادل التأثر والتأثير بين الثقافة الشعبية والثقافة الرسمية.

أما الدكتور أحمد زياد محبك من سوريا، فقد قدم، في مقاله (الحرف اليدوية في الحكايات الشعبية)، وجهة نظره في موضوع الحرف بالحكاية الشعبية، مستنطقا حوالي عشرين حكاية، تدور أحداثها في فضاءات الحرف، من صناعة الخزف وتجارة الحطب ونسج السجاد وغزل القطن والحلاقة والسقاية والجزارة، مع ملاحظة أن نصوص متن هذه الحكايات تتميز بكونها تتوزع إلى حكايات تمجيدية للحرف ومهاراتها، ومشجعة على العمل والجد، ومثمنة للقيم النبيلة المنظمة لعلاقة الحرف بزبنائها، ومنوهة بمكانة المرأة العاملة في الحياة الاقتصادية.

وقد لاحظ د. محبك أن الحكايات الخاصة بالحرف هي نادرة الوجود، بالقياس إلى موضوعات كثيرة أخرى، وأن مغزاها غالبا ليس هو الحرفة في حد ذاتها، بل هي رسائل القيم الاعتبارية التي تتضمنها.

وانطلاقا من نوع سردي شعبي مختلف عما سبق، هو حكاية المعتقدات، يطلعنا د. أحمد بهي الدين العساسي من مصر، في مقاله (كيف تشكل الجماعات فضاءاتها الثقافية: قراءة في حكايات المريدين)، على ظاهرة تداول المرويات الشفاهية ووظائفها في سياق الاحتفال الديني التقليدي (المُولِد)؛ متخذا من الاحتفالات الدينية المصرية بيئة حاضنة لعدد من الممارسات التقليدية، المجسدة في شتى الفنون القولية والأدائية، والعمارة التقليدية، والموسيقى، والحرف التقليدية، والعادات والمعارف، المرتبطة بالأولياء والقديسين ذوي التأثير العميق في ذهنية الشرائح الشعبية. هذا التأثير الذي يحقق أقوى امتداده في تعلق المريدين بالأولياء تعلقا اعتقاديا صادقا مخلصا، لهذا يعتبرون من المدمنين على حضور وممارسة كل الطقوس الموسمية المرتبطة بأولئك الأولياء، تبركا بهم، واعتقادا في كراماتهم وعرفانيتهم، والتطهر في أحضان أضرحتهم، والطمع في تحقيق رغباتهم، وما إلى ذلك من دوافع وحوافز، مما يندرج ضمن الطقوس الفولكلورية للموروث الشعبي.

وفي سياق الاقتراب من حكاية المعتقدات الشعبية hagiographie populaire أيضا، اختار د. محمد أحمد أنقار من المغرب الخوض في موضوع المرأة في المتخيل الصوفي الشعبي؛ من خلال سمات صورة المرأة في حكاية المعتقدات، مستقصيا في هذا النوع من السرد الشعبي أنماطا من النساء، كالمرأة العابدة والمرأة الزاهدة الطامحة إلى بلوغ مقام الولاية، والمرأة المذنبة الساعية بدهائها إلى الإيقاع بالولي، من غير إهمال الباحث لتمثلات الأولياء أنفسهم عن المرأة، تلك التمثلات المتراوحة بين الاتزان والاختلال، مستندا إلى آليات التصوير البلاغي المخصوص بسير الأولياء وأخبارهم، المنتمية إلى حكايات المعتقدات الشعبية.

ونلتقي في مقال (منظومة القيم في الحكاية الشعبية المغربية: حكاية “المعزة والذئب” نموذجا)، مع د. عز الدين المعتصم من المغرب، في قراءته التحليلية لنموذج معروف من الحكاية الخرافية الجارية على ألسنة الحيوان، باعتبارها من أكثر الحكايات الشعبية عامة والخرافية خاصة، انسجاما مع ميول الطفل، على ضوء ما تشيدت عليه هذه الحكاية الخرافية الشهيرة من أضرب التسلية والترفيه تخييليا، وما حملته في رسالتها التعليمية اللاّمباشرة، من معايير القيم التفضيلية والسلوكيات الأخلاقية المرغوبة والأهداف الثقافية المفيدة.

ولم ينس د. عز الدين المعتصم أن يعمد إلى تحديد المصطلحات / المفاتيح الميسرة لفهم واستيعاب كل أبعاد الموضوع.

ويذكّر الحديث عن الطفل بوصفه متلقيا نموذجيا للقصص الشعبي، بما حصل من تحول حكاية الأطفال الشعبية القديمة، إلى قصص الأطفال الحديثة والمعاصرة؛ وهو ما يفيد بمعرفته مقال دة. سناء غيلان الموسوم بـ: (قضايا وأشكال قصص الأطفال)، إذ خاضت فيما حصل من تطورات بقصص الأطفال من المـاضي إلى الحـاضر، وفي واقعها بجناحي الوطن العربي المشرق والمغرب، معتبرة الحكاية الشعبية هي النواة الأولى لأدب الطفل بشكل عام، قبل ظهور الأشكال التعبيرية الأخرى من آداب وفنون مهتمة به، ثم انتهت إلى التركيز على أعمال أحد رواد قصص الأطفال بالمغرب، هو الأديب أحمد عبد السلام البقالي.

من جانب آخر، ينبغي حتما أن نتساءل: ماذا عن متلقي الثقافة الشعبية؟، حيث سنجد بعض الجواب التطبيقي عن هذا السؤال الأساسي، في مقال (التلقي في الفرجة الشعبية المغربية: سخرية العتابي نموذجا)، إذ يقربنا د. أسامة الخضراوي من التلقي في الفرجة الشعبية، وتفاعل الجمهور والحكواتي، خلال عرض الحكايات وتلقيها في “الحلقة”، مع استناده في فهم سبل تلقي الثقافة الفرجوية إلى آليات نظرية التلقي المعروفة، كما هي لدى إيزروياوس. وطبعا كما يفهم من العنوان، فإن د. الخضراوي قد ارتكز في إدارته لمقاربة الموضوع على شخصية العتابي الحكواتي التراثي الساخر، من خلال نص فرجوي شائق له، يسلك ضمن أدب (الحلقة). وقد اختاره د. الخضراوي باعتباره كما وسمه نموذجا تراثيا فريدا ونادرا، معبرا وتمثيليا وبليغا. ولغنى هذا النص ورحابة دلالاته، تمكن الكاتب من تفكيكه من خلال تقنية الاستقطاب، وأفق الانتظار، والقارئ الضمني، وذخيرة النص، وطريقة الحكي.

ولعل مقال (مساهمة التراث الشعبي في العمل الدبلوماسي العربي) للكاتب محمد ناسمي، يذكرنا بأن بصمات التراث الشعبي لها امتداداتها في مجال الثقافة عامة، ومتغلغلة في كل مجالات هويتنا. والمقال يتعامل مع التراث الشعبي بوصفه محركا لعجلة التنمية الاجتماعية والاقتصادية، ويلعب أدوارا دبلوماسية، من شأنها أن تمكن العالم العربي من توطيد علاقاته مع الدول الأجنبية، وتعزيز مكانته عالميا. ومن خلال عرض واقعي التراث الشعبي الأجنبي والتراث الشعبي العربي، وشتى مجالات الدبلوماسية، يتم استنتاج كون توظيف التراث الشعبي العربي، وخاصة في جوانبه المشتركة وامتداداته الإقليمية والعالمية “يشكل بلا شك إحدى أهم ركائز الدبلوماسية العربية، والتي يمكن أن تعتمده في الترويج للقيم العربية والنموذج العربي، وبهدف تحسين العلاقات على المستوى الخارجي، ومد جسور التعاون مع الدول والشعوب الأخرى”.

كما تضمن العدد الجديد (السابع) من مجلة “فكر العربية” دراسات نقدية أخرى عن الرواية والشعر والمسرح والمقامات والنوادر، بالإضافة إلى محاور ثابتة: الإبداع، وأحسن ما قرأت، وقبل الختم.

hespress.com