تعد سلسلة “مدن ومطارات وموانئ” نوعا مركبا يجمع بين نوع الكتابة الصحافية وصيغة السيرة الذاتية، وكتابة استرجاعية سردية ينجزها الكاتب المغربي عبد اللطيف هِسوفْ مازجا في ذلك بين الذاكرة والخيال. من خلال حلقات هذه السلسلة، سنسافر مع منصور من مدن الأجداد (دَمْناتْ وأزيلال ومراكش)، ثم من فْضالَة وكازابلانكا، إلى باريس، والعودة عبر الجنوب الإسباني إلى طنجة العالية، ثم إلى نيويورك وفرجينيا وكاليفورنيا بأمريكا.. في رحلة سجلها حافل، بحثا عن شيء لا يعرفه مسبقا، متسلحا بحب المغامرة.

ستبدأ رحلة معاناة صامتة دامت أكثر من ثلاثين سنة أحس فيها منصور في البداية بأنه يعيش الاغتراب في بلده، الإحساس بالعنصرية بفرنسا، ثم التوهم بأنه منبوذ من الحلم الأمريكي.. رحلة عاش فيها حياة المنفى، المنفى البدني والفكري والثقافي، وسط المجتمعين الفرنسي والأمريكي.

يحاول الكاتب اختراق عوالم مصغرة، بأفراحها وأحزانها وتناقضاتها ومغامراتها وأحلامها. خليط من الشخصيات والأماكن المختلفة.. تنقل بين مدن ومطارات وموانئ.. معركة منصور لم تكن سهلة في ديار الغربة، كانت معركة ضارية بلا هوادة ودون انقطاع.

التجارب والصراعات وخيبات الأمل والإهانات نادرا ما كانت انتصارات كاملة أو أفراحا مكتملة. ومع ذلك، كان بحاجة إلى التواصل مع الآخر خوفا من الغرق في الإقصاء أو الملل. انكسارات تبدد فكرة جنة عدن، حيث يتم إعطاء كل شيء دون جهد؛ ولكن، في الوقت نفسه، فإن هذا التواجد في بلد “العم سام” يعزز صورة بلد حيث كل شيء ممكن إذا كانت لديك قوة الإرادة وكثير من الصبر.

الحلقة 23

راح منصور يجِدُّ السير في اتجاه مكتب صديقه مارك، أستاذ علم السياسة، ناشدا الهروب من تعب التعليم وإلقاء المحاضرات. وجده يقرأ مقالا حول تفجيرات 11 سبتمبر. دعاه لتناول قهوة معه في مقهى قريبة من الجامعة حيث كان جهاز تلفاز مثبتا في ركن من الأركان ينقل آخر الأخبار.

تدخل منصور ليقول:

– إن المهاجرين سيعرفون تضييق خناق لم يسبق له مثيل في أمريكا بعد تدمير مركز التجارة العالمي بنيويورك.

أدنى مارك مقعده من الطاولة، ثم عقب:

– لا أظن جميع المهاجرين، فقط العرب والمسلمين. لقد سمعت أنه سيتم ترحيل ستة آلاف من أصول شرق-أوسطية بحجة تجاوز فترة إقامتهم القانونية بأمريكا، وستكون هذه هي أكبر عملية ترحيل تعرفها الولايات المتحدة الأمريكية في تاريخها.

أحس منصور بظل غبن يلبسه، ثم رد قائلا:

– وهل من العدل في بلد الحقوق والحرية والديمقراطية−كما يُشاع−محاسبة أشخاص أبرياء بذنوب اقترفها منحرفون من بني جلدتهم؟

أجاب مارك بصوت عال يحمل نبرة غضب:

– بل قل إرهابيون، مجرمون وسفاكون للدماء.

تابع منصور مدافعا، لكن بدون قناعة العارف:

– حتى لو سلمنا بذلك، كان يجب على الرد الأمريكي أن يكون أكثر عقلانية ولا يسقط في فوضوية الانتقام من أناس أبرياء داخل أمريكا وآخرين فوق أرض أفغانستان والعراق. حتى في الانتقام يجب أن يكون هناك نظام معين، حدود لا يجب تجاوزها، خطوط حمراء يجب مراعاتها.

هز مارك رأسه، ثم قال في كبرياء وصلف وهو يضيق عينيه ويقطب حاجبيه:

– المسألة هي أن أمريكا تسعى إلى اجتثاث الشر من جذوره قبل أن تنبث له جذور في مناطق أخرى من العالم. إنها ثنائية الحب والموت؛ لكي تُحَرِّرَ أمريكا الشعوب من قبضة الإرهابيين، كان لزاما عليها الرد بقوة السلاح المدمر. إنها تقبل عن مضض بقتل جزء من الشعوب العربية والإسلامية من أجل بناء مجتمعات متمدنة لا يُقْتَلُ فيها أحد أبدا، ليسود بعد ذلك السلم وتعم الحرية والرخاء كل أنحاء العالم!

خَزَرَ منصور في وجه مارك دون أن يقصد ذلك. كان يريد أن يسبه وباقي المدافعين عن مثل تلك الأفكار، لكنه عَدَلَ في آخر لحظة عما في نفسه، ثم تابع الحديث وهو يكبح غضبه بعزم:

– العذر أقبح من الزلة. أي منطق هذا الذي حشوا به عقولكم؟ من أين تستوحون مثل هذه الأفكار؟ كيف تُقِرُّون بمثل هذه التعليلات الواهية؟

– أليس لك عينان تنظر بهما لترى ما يجري من حولك؟

– بل يجب التسليم بأن المواجهة بين الغرب والشرق مستمرة إلى الأبد؛ قد تتخذ هذه المواجهة أشكالا فكرية وثقافية في بعض الأحيان، لكنها لا تفتأ تتحول إلى رفض للآخر أو حتى مواجهته بالسلاح الفتاك… إنه صراع الحضارات، شئنا أم أبينا، حرب صليبة في حلة جديدة.

سكت مارك لحظة، مد ساقيه لتتطاولا تحت الطاولة، ثم استدار ليتفرس في وجه منصور قبل أن يواصل:

– من جهة، إن في الحياة دائما طعم الدم والدموع، وهذه حقيقة لا يمكن تجاهلها. ومن جهة أخرى، لا أظن أن المواجهة تقوم اليوم على كراهية أمريكا للعرب والمسلمين، بل هو الحق في الرد على من ضربوها في عقر دارها.

– الحق الذي تتحدث عنه يوجد في الجانبين، فمن تسميهم إرهابيين هم نتاج حكم ديكتاتوري مستبد ظالم وفاسد من جهة. ومن جهة أخرى، بسبب الجبروت الإسرائيلي فوق الأرض العربية المحتلة، ذلك الجبروت المدعم بقوة من قِبَلِ أمريكا. إنهم يدافعون عن أفكارهم وإن كانت متطرفة. أن يموتوا من أجل فكرة هو السبيل الوحيد للتأكيد على وجودهم وعلى قناعتهم.

رد مارك باستهجان:

– المشكلة ليست مشكلة دفاع عن أفكار متطرفة، بل إنها مشكلة تحويل هذه الأفكار إلى جرائم شنعاء.

واصل منصور بتؤدة:

– أينما ذهبت، فلن تستطيع تنقية أفكار الناس من كل الشوائب التي تخلق متطرفين، متزمتين ومتعصبين. يجب القضاء على المسببات وفتح الطريق أمام ديمقراطية حقيقية في بلدان عربية وإسلامية لها من المؤهلات ما يجعلها تدخل الحداثة من بابها الواسع. كما يجب رفع يد إسرائيل ومن يساندها من الدول الغربية عن الأراضي العربية المحتلة.

قاطعه مارك:

– إذن فلتتحرك الجماهير العربية-الإسلامية، أم تريد أن تقوم الولايات المتحدة بذلك مكانها؟

– ليس القصد. بل يجب على الولايات المتحدة والعالم الغربي عموما أن يساعدوا القوى الحرة التي تسعى إلى ترسيخ الديمقراطية، أم يعجبهم من العولمة فقط جانبها الاقتصادي الذي يستفيدون منه وينسون الجوانب الحضارية الأخرى. يجب عولمة الحداثة، الديمقراطية، العيش الكريم، وإلا فستتم عولمة الفوضى، الإرهاب، الجهل، الظلم…

عم الصمت لحظة، ثم تدخل مارك ثانية:

– لا أظن أن هذا يكفي للقضاء على الإرهاب. إن فكرة الجهاد في دينكم تجعل المسلمين دائما على استعداد لقتل الآخرين، أي من ينعتوهم بالكفار الذين لا يدينون بدين الإسلام!
فكر منصور مليا، ثم أجاب بهدوء:

– يجب التفريق بين ما جاءت به تعاليم الإسلام، وما يذهب إليه بعض المتشددين في تأويلاتهم لنصوص الدين. إن فكرة الغربيين عن الإسلام وعن مفهوم الجهاد الذي أصبح يُرادِف عندهم مفهوم الإرهاب خاطئة لا أساس لها من الصحة.

– هذا في تنظير شريعة دينكم؛ وما عايشناه يوم 11 سبتمبر يثبت ذلك.

– إنه تهور وجهل من قِبل زمرة من الشباب لم تتمثل بالقدر الكافي تعاليم دينها. اعلم أنه كلما وجدت رجلا يفكر، وجدت قدرا من النزاهة والتروي وتقدير حياة الآخرين. وبالعكس، أينما انتشر الجهل والانفعال والشعور بالحيف والظلم، يسود التهور والتطرف والاستلاب.

رد مارك في عنجهية واضحة:

– لا يمكن للسياسة الخارجية للدول الغربية أن تكون أكثر ملكية من الملك نفسه وتهب هذه الدول الديمقراطية والحداثة والحرية والاستقلال والتحرر على طبق من ذهب.

رد منصور وهو يستشيط غضبا:

– إذن السياسة هي ذاتها تتكرر بالطريقة نفسها؛ إما بحد السيف كما ذهب إلى ذلك الأحمق شارل الثاني أو كما دعا إلى ذلك المتسلط الحجاج الثقافي، أحد الوزراء العرب التاريخيين، وإما باللجوء للنفاق والخداع كما حث على ذلك مكيافيل.

ثم قام غاضبا، وترك مارك لحاله في المقهى.

بعد أسابيع قليلة سيعيش العراق الحرب والخراب والدمار والعار والهزيمة. العراق، مهد حضارة ما بين النهرين، سيدخل مسلسلا دمويا سيعصف بكل شيء ولن يترك للعراقيين سوى التلهي بعدد موتاهم، ولن يترك للعرب سوى مزيد من التشرذم. سيتمادى الموت في مُعابثة كل من ينتمي إلى تلك الرقعة الممتدة من المحيط إلى الخليج، وحتى الذين نفوا أنفسهم حبا أو كرها إلى ديار الغربة اللعينة.

حقا! نحن شعوب الخسارات والانكسارات بامتياز.

hespress.com