تعد سلسلة “مدن ومطارات وموانئ” نوعا مركبا يجمع بين نوع الكتابة الصحافية وصيغة السيرة الذاتية، وكتابة استرجاعية سردية ينجزها الكاتب المغربي عبد اللطيف هِسوفْ مازجا في ذلك بين الذاكرة والخيال. من خلال حلقات هذه السلسلة، سنسافر مع منصور من مدن الأجداد (دَمْناتْ وأزيلال ومراكش)، ثم من فْضالَة وكازابلانكا، إلى باريس، والعودة عبر الجنوب الإسباني إلى طنجة العالية، ثم إلى نيويورك وفرجينيا وكاليفورنيا بأمريكا.. في رحلة سجلها حافل، بحثا عن شيء لا يعرفه مسبقا، متسلحا بحب المغامرة.

ستبدأ رحلة معاناة صامتة دامت أكثر من ثلاثين سنة أحس فيها منصور في البداية بأنه يعيش الاغتراب في بلده، الإحساس بالعنصرية بفرنسا، ثم التوهم بأنه منبوذ من الحلم الأمريكي.. رحلة عاش فيها حياة المنفى، المنفى البدني والفكري والثقافي، وسط المجتمعين الفرنسي والأمريكي.

يحاول الكاتب اختراق عوالم مصغرة، بأفراحها وأحزانها وتناقضاتها ومغامراتها وأحلامها. خليط من الشخصيات والأماكن المختلفة.. تنقل بين مدن ومطارات وموانئ.. معركة منصور لم تكن سهلة في ديار الغربة، كانت معركة ضارية بلا هوادة ودون انقطاع.

التجارب والصراعات وخيبات الأمل والإهانات نادرا ما كانت انتصارات كاملة أو أفراحا مكتملة. ومع ذلك، كان بحاجة إلى التواصل مع الآخر خوفا من الغرق في الإقصاء أو الملل. انكسارات تبدد فكرة جنة عدن، حيث يتم إعطاء كل شيء دون جهد؛ ولكن، في الوقت نفسه، فإن هذا التواجد في بلد “العم سام” يعزز صورة بلد حيث كل شيء ممكن إذا كانت لديك قوة الإرادة وكثير من الصبر.

الحلقة 8

كانت شبه عادة أن أسافر في الصباح الباكر إلى مدينة فضالة، وهي مدينة صغيرة هادئة على شاطئ المحيط الأطلسي لا تبعد عن مدينة الدار البيضاء بأكثر من ثلاثين كيلومترا. مدينة محاطة بسر خاص.. للوهلة الأولى، لا يمكن فك رموز هذا السر؛ لكن بمجرد أن تصبح على دراية بتاريخ المدينة، يتضح كل شيء.

مدينة قديمة إلى حد ما، اسمها يحيل على الفضل، فضل الله. عرفت هذه المدينة المغربية أولا في عهد سلالة المرابطين الأمازيغية في بداية القرن الثاني عشر ميلادي. وفي نهاية القرن الثامن عشر، جعل السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله فضالة مستودعا للحبوب، وبنى القصبة لحماية متاجر المغاربة من غارات القراصنة البرتغاليين.

بعد ذلك، وخلال فترة ما قبل الاستعمار، وصلت المنافسة بين القوى الغربية في شمال إفريقيا إلى ذروتها، لذا استحوذت عائلة مانسمان الألمانية على جزء كبير من فضالة.

ومع ذلك، أجبر اتفاق بين فرنسا وألمانيا، في بداية القرن العشرين، عائلة مانسمان على التخلي عن المدينة لصالح عائلة هيرسنت الفرنسية، عائلة من المهندسين الصناعيين سيعملون على تحويل خليج المدينة الطبيعي إلى ميناء سيعرف رواجا مهما للغاية، ثم شيدت عائلة هيرسنت كنيسة القديس جاك الفخمة كذكرى لابنهم جاك الذي سقط في ساحة المعركة خلال الحرب العالمية الأولى.

في 8 نونبر 1942م، غزا الجيش الأمريكي المدينة في إطار عملية الشعلة. ليس بعيد عن فضالة، احتل الأمريكيون قاعدة ميناء ”بورت ليوتي” فيما يسمى الآن مدينة القنيطرة، وأطلقوا عليها اسم ”كرو فيلد’”. ثم ستحكم البحرية الأمريكية القاعدة حتى عام 1947م عندما تنازل الأمريكان للفرنسيين عن قيادة الميناء.

وفي أوائل الخمسينيات، جعل المستوطن الفرنسي فضالة أول وأحدث ميناء نفطي في شمال إفريقيا. ثم، في عام 1956م، تم تغيير اسم المدينة إلى المحمدية تكريما للملك محمد الخامس، بطل استقلال المغرب الذي قام بزيارتها.

حوالي الساعة الثامنة صباحا، كنت أغادر محطة قطار فضالة لأجد نفسي أمام القصبة.

وكالعادة في هذا الوقت، كان هناك عدد قليل من الناس يمشون في الأزقة المحاذية. القصبة، في القاموس المغاربي والأندلسي، هي مدينة قديمة محاطة بجدران لا يقل سمكها عن 50 سم، حجر جيري ضخم أو أحجار الجرانيت الصلبة، هذا يعتمد على موقع المدينة إن كانت قريبة أو بعيدة من الساحل البحري. القصبة كيان قد يكون معزولا عن محيطه.

لهذا السبب، خلف جدران القصبة، هناك كل شيء لضمان العيش لسكانها. وبشكل عام، تحتوي القصبة على سوق يومي حيث تباع الخضر والفواكه واللحوم والأسماك والزيوت والحلويات. كما يوجد بالقصبة دائما مسجد، وحمام شعبي مغربي، وفرن شعبي ومطاعم شعبية تقدم وجبات رخيصة الثمن.

أمر بالباب الرئيسي للقصبة لأجد نفسي في عالم آخر، عالم انبثق من الماضي. روائح مختلطة للسلع وأطباق الطعام المختلفة تزكم أنفي. أجلس في إحدى المقاهي الشعبية لأتناول وجبة الإفطار: المسمن المغربي، وهو نوع من الفطائر المغربية يتم إعدادها أساسا من الدقيق وزيت الزيتون، أو الإسفنج، دونات مع عجينة مخمرة تقلى في الزيت. آكل ثم أسقي كل ذلك بكوب من الشاي الأخضر المُنعنع.

هكذا، بطريقة بسيطة للغاية أبدأ يومي وأنا في كامل النشوة. حين أغادر القصبة قاصدا أحد شواطئ فضالة الجميلة، أترك ورائي رائحة البيصارة، حساء الفاصوليا المغربية الذي يقدم مع زيت الزيتون والتوابل، أو رائحة الحمص المسلوق المرشوش بالملح والكمون والذي يقدم في ورق مطوي على شكل مخروط. في القصبة القديمة خلال الأيام القليلة التي تلت أول لقائي بأوديت، كنا نخرج من وقت إلى آخر للتجول في شاطئ منيسمان، ونتناول الأسماك والمأكولات البحرية في مطاعم المرفأ.

ذات يوم أخذتها إلى القصبة؛ جلسنا في أحد هذه المطاعم الشعبية بجوار السوق. كانت روائح النقانق والأسماك المشوية في الهواء الطلق تضمخ المكان. أكلنا السردين المشوي وسمك موسى المقلي مصحوبين بالشكشوكة المغربية، الباذنجان المقلي على شكل حلقات، وفي الجانب الهريسة والزيتون من ألوان مختلفة.

أتذكر، في منتصف الوجبة، أمسكت يدها، تجرأت وحدقت مليا في عينيها، ثم همست لها: – أريد أن تدوم هذه اللحظات معك إلى الأبد. ردت بصوت بطيء، ولكنه واضح: – إن شاء الله، منصور. ثم التزمت الصمت.

لم أتمكن من أخذ أي شيء من هذا الجواب الموجز؛ بل يمكن اعتباره طريقة للهروب.

لماذا لن يريد الله ذلك؟ تساءلت في سري. – نعم، إن شاء الله، رديت، متظاهرًا باللامبالاة. على أي حال، فكرت أنه لم يكن لكلامي صدى بالنسبة إليها. لكن، في الحقيقة، ما أدراني؟ في طريق العودة إلى الشقة، اعترفت لي أوديت وهي ساهمة تفكر: – هذه الروائح والألوان هي التي تجذبني أكثر إلى هذا البلد..

المغرب بلد جميل للغاية. قلت لها مازحا، والابتسامة معلقة على شفتي: – المغرب بلد جميل، مشمس ويقدم طعاما لذيذا للسياح.. المشكلة الوحيدة هي أنه مليء بالمغاربة! ضحكت قبل أن تغمزني وهي تغير ملامح وجهها. لم أتمكن من فهم مرماها: هل كان عتابا أم أن النكتة أعجبتها؟ ثم لمست خدي برفق قبل أن تضيف: – عليك أن تقبل أهلك المغاربة، أليس كذلك، عزيزي منصور؟ – نعم، أنت محقة. كنت أمزح، هذا كل ما في الأمر.

hespress.com