مدن ومطارات وموانئ
تقديم
تعد هذه السلسلة نوعا مركبا يجمع بين نوع الكتابة الصحافية وصيغة السيرة الذاتية، وكتابة استرجاعية سردية ينجزها الكاتب المغربي عبد اللطيف هِسوفْ مازجا في ذلك بين الذاكرة والخيال. من خلال حلقات هذه السلسلة، سنسافر مع منصور من مدن الأجداد (دَمْناتْ وأزيلال ومراكش)، ثم من فْضالَة وكازابلانكا، إلى باريس، والعودة عبر الجنوب الإسباني إلى طنجة العالية، ثم إلى نيويورك وفرجينيا وكاليفورنيا بأمريكا.. في رحلة سجلها حافل، بحثا عن شيء لا يعرفه مسبقا، متسلحا بحب المغامرة.
ستبدأ رحلة معاناة صامتة دامت أكثر من ثلاثين سنة أحس فيها منصور في البداية بأنه يعيش الاغتراب في بلده، الإحساس بالعنصرية بفرنسا، ثم التوهم بأنه منبوذ من الحلم الأمريكي.. رحلة عاش فيها حياة المنفى، المنفى البدني والفكري والثقافي، وسط المجتمعين الفرنسي والأمريكي.
يحاول الكاتب اختراق عوالم مصغرة، بأفراحها وأحزانها وتناقضاتها ومغامراتها وأحلامها. خليط من الشخصيات والأماكن المختلفة.. تنقل بين مدن ومطارات وموانئ.. معركة منصور لم تكن سهلة في ديار الغربة، كانت معركة ضارية بلا هوادة ودون انقطاع.
التجارب والصراعات وخيبات الأمل والإهانات نادرا ما كانت انتصارات كاملة أو أفراحا مكتملة. ومع ذلك، كان بحاجة إلى التواصل مع الآخر خوفا من الغرق في الإقصاء أو الملل. انكسارات تبدد فكرة جنة عدن، حيث يتم إعطاء كل شيء دون جهد؛ ولكن، في الوقت نفسه، فإن هذا التواجد في بلد “العم سام” يعزز صورة بلد حيث كل شيء ممكن إذا كانت لديك قوة الإرادة وكثير من الصبر.
الحلقة 3
بعد ما يزيد عن ثلاثين سنة، عاد المْعَلَّمْ يوحنا من أرض فلسطين إلى قبيلة فَطْواكَة الأمازيغية المترامية خارج أطراف مدينة دَمْناتْ لزيارة ضريح الولي الصالح داود دْراعْ لِيفِي. هو القادم من أرض الصراعات يحن اللحظة لتربة مسقط الرأس. أسماء الدواوير التي جابها كعطار ليبيع سلعته التي كان يصنعها بنفسه تعود إلى ذاكرته الآن بوضوح بعد أن ظن أنه نسيها إلى الأبد: آيت بوأولي، زاوية أحنصال، آيت عتاب، آيت تاكلا، تنانت، آيت ماجدن، أيت أمليل، وفطواكة.
باغثه السؤال:
لماذا غادرنا نحن اليهود أرض الأجداد لنتنازع أرضا في المشرق ليست لنا وندخل في حروب لا تنتهي ولن تنتهي؟
يا للغباء!
قالها، ثم صمت.
تجمع الحجاج اليهود المنحدرون من منطقة تيدلي فطواكة، القادمون من أمريكا وبريطانيا وفرنسا وكندا وفلسطين، ليحيوا حفل الهيلولة السنوي في ضريح الولي داود دْراعْ لِيفِي صاحب الكرامات العظيمة حسب زعمهم. والهيلولة تحريف عامي لإحدى اللازمات كثيرة الورود في مزامير داود وهي “هاليلو يا”، ومعناها “سبحوا لله”. ويؤمن اليهود المغاربة بأن زيارة أوليائهم والتبرك ببركاتهم في هذه المناسبة تقضي حوائجهم الملحة وتشفي مرضاهم من الأمراض المزمنة.
خلال الافتتاح الرسمي لموسم الهيلولة في منطقة تيدلي-فطواكة، تلا الحاخام الأكبر القداس اليهودي باللّغة العبريّة على قبر الولي دراع، بحضور بعض المسلمين من الجيران القدامى. بعدها، تم الولوج إلى داخل الضريح من أجل إسدال الستار عن سترة المعبد ومفتاح المعبد، ثم بدأ الحاخام تلاوة مناقب دفين الضريح وبركاته. إثر ذلك بدأ الحجاج يشعلون الشموع على قبور اليهود المدفونين بالضريح أو بجانبه في طقس ديني كانت تغطي عليه الأدعية ومقتطفات مختارة من التوراة.
وبعد أن أشعلت الشموع داخل ساحة الضريح وخارجها، بدأت مراسيم الذبيحة التي تشكل حدثا كبيرا في طقوس احتفالات الهيلولة. وكان الحزان يتولى بنفسه نحر الذبائح من الأبقار أو الخرفان أو الدجاج. عمت الفرحة وارتفعت عقيرة بعض الحاضرين بالغناء باللغات العبرية والعربية والأمازيغية، والتصفيق والرقص لا ينقطع. وفي ختام موسم الهيلولة، بدأت المزايدة على شمعة الضريح إلى أن رست على مبلغ 150 ألف دولار أمريكي. ويسود الاعتقاد بأن الحائز على الشمعة التي كانت تنير قبر الولي تكون سنته المقبلة مباركة وتجلب الرزق وتديم البركة في البيت والتجارة والزواج وحسن العِشْرَة، وتدفع عنه العين واللؤم وتشفيه وأهله من الأمراض.
بعد أن أحيا اليهودي المْعَلَّمْ يوحنا مراسيم الهيلولة، ودع جميع الحاضرين وفي سره أمر لا بد من بلوغه.
تذكر تَاعِنيتْ، أرض الاحتفال، حيث كان اليهود-الأمازيغ يحتفلون بصوم إيستر.
وما أن ذكر اسم هذه المنطقة حتى تبادر إلى ذهنه اسم صديقه الأمازيغي مْحَند!
تركته سيارة الأجرة البيضاء على قارعة الطريق الرئيسة لمنطقة تَاعِنيتْ. بدا في لباسه الأسود وقبعته السوداء حائرا لا يعرف أين يتجه. أخذته الذكريات سنوات إلى الوراء؛ ذكريات ما زالت حاضرة بقوة في ذهنه. يعرف جيدا لون هذه التربة الحمراء، رائحتها ليست غريبة عنه. سرت في جسده قشعريرة مبهمة، استنشق ملء رئتيه، أحس بأمان لا يحسه بأرض النزاعات هناك في الشرق الأوسط، أذهله ذلك الإحساس.
فكر: الغربة لم تكن محطة، بل كانت استيطانا مُضَلِّلا باسم الدين.
هناك ينتابه دائما شعور بالفقدان، هنا بين جبال الأطلس أحس كأنما جذور تركها خلفه حين هاجر خرجت للتو من تحت التراب وأمسكت بقدميه في ثبات. جال ببصره من جديد فرأى بيتا على قمة هضبة، الجامع على اليمين والمدرسة على الشمال… لا شك أنه بيت عائلة مْحَند.
عقد العزم على السير نحو المبنى.
على بعد أمتار، سمع نباح كلبة. توقف قليلا قبل أن يظهر له بالباب شيخ حاسر الرأس يرتدي جلبابا أبيض. أخذا يتأملان بعضهما البعض بارتباك المفاجأة، ما زالا غير مصدقين. اقتربا من بعضهما البعض، صمت غريب يحول بينهما الآن، صمت أمتار ليس إلا، لكنه صمت رهيب. اليهودي جامد في مكانه لا يجرؤ على مد رجليه إلى الأمام، الأمازيغي ما زال تحت تأثير الصدمة… والكلبة تردد بصرها بين سيدها والغريب!
بادر مْحَند بالسؤال:
– المْعَلَّمْ يوحنا؟
رد الغريب:
– نعم.. هذه لم تكن تنتظرها.. أليس كذلك؟
اقتربا من بعضهما البعض، لثم كل واحد يد الآخر جريا على عادة الأمازيغ. تعانقا عناقا حارا، ظلا ينظران لبعضهما البعض ثم انفجرا ضاحكين كما لم يضحكا من زمان.
– مرحبا وألف مرحبا بك يا المْعَلَّمْ يوحنا. تفضل.
– ربي يزيد فضلك.
دخلا بيت الضيوف. جلسا يتحدثان في تودد لم تمح قوته الثلاثين سنة الماضية. قام مْحَند لإحضار الطعام وإكرام ضيفه اليهودي. أكلا لماما ثم تشعب بهما الحديث في مواضيع كثيرة تطرقا إليها عبورا من باب المجاملة.
سأل مْحَند:
– كيف الحياة هناك؟
رد المْعَلَّمْ يُوحَنّا:
– الملل والرتابة والضياع.
– ظننت أنكم هاجرتم جبالنا بحثا عن حياة أفضل.
– ربما ماديا يشعر البعض بذلك.
– وأنت؟
– أنا لم أجد ضالتي هناك.
– كيف؟
اكتفى المْعَلَّمْ يُوحَنّا بابتلاع ريقه، ثم ظل ساهما قبل أن ينتبه أن الجالس قربه هو صديقه مْحَند. ابتسم، ثم قال:
– هلا سقيتنا كأسا من ذاك المشروب المحلي.
ضحك مْحَند ملء شدقيه قبل أن يجيب:
– ظننتك تبت بعد كل هذه السنين.
– التوبة من ماء الحياة لا تعنينا نحن اليهود.
– ولا نحن الأمازيغ.
ضحكا كطفلين.
قام السَيِّد مْحَند إلى تجويفة بالحائط أخرج منها قنينة “الماحيا” وكأسين خفيضين. شربا نخبيهما ثم مد مْحَند يده إلى “شكارته” وأخرج عدة مخدر “الكيف”. تبادلا الغليون والدخان يلف المكان.
سأل مْحَند مجددا:
– أسمع عبر إذاعة “بي بي سي” أن الحرب بين العرب واليهود لم تضع أوزارها منذ هاجرتم.
رد المْعَلَّمْ يُوحَنّا بصوت خافت وكأنه يخاف أن يسترق أحد السمع:
– مجانين..
– وماذا عن أسرتك.