تعد سلسلة “مدن ومطارات وموانئ” نوعا مركبا يجمع بين نوع الكتابة الصحافية وصيغة السيرة الذاتية، وكتابة استرجاعية سردية ينجزها الكاتب المغربي عبد اللطيف هِسوفْ مازجا في ذلك بين الذاكرة والخيال. من خلال حلقات هذه السلسلة، سنسافر مع منصور من مدن الأجداد (دَمْناتْ وأزيلال ومراكش)، ثم من فْضالَة وكازابلانكا، إلى باريس، والعودة عبر الجنوب الإسباني إلى طنجة العالية، ثم إلى نيويورك وفرجينيا وكاليفورنيا بأمريكا.. في رحلة سجلها حافل، بحثا عن شيء لا يعرفه مسبقا، متسلحا بحب المغامرة.

ستبدأ رحلة معاناة صامتة دامت أكثر من ثلاثين سنة أحس فيها منصور في البداية بأنه يعيش الاغتراب في بلده، الإحساس بالعنصرية بفرنسا، ثم التوهم بأنه منبوذ من الحلم الأمريكي.. رحلة عاش فيها حياة المنفى، المنفى البدني والفكري والثقافي، وسط المجتمعين الفرنسي والأمريكي.

يحاول الكاتب اختراق عوالم مصغرة، بأفراحها وأحزانها وتناقضاتها ومغامراتها وأحلامها. خليط من الشخصيات والأماكن المختلفة.. تنقل بين مدن ومطارات وموانئ.. معركة منصور لم تكن سهلة في ديار الغربة، كانت معركة ضارية بلا هوادة ودون انقطاع.

التجارب والصراعات وخيبات الأمل والإهانات نادرا ما كانت انتصارات كاملة أو أفراحا مكتملة. ومع ذلك، كان بحاجة إلى التواصل مع الآخر خوفا من الغرق في الإقصاء أو الملل. انكسارات تبدد فكرة جنة عدن، حيث يتم إعطاء كل شيء دون جهد؛ ولكن، في الوقت نفسه، فإن هذا التواجد في بلد “العم سام” يعزز صورة بلد حيث كل شيء ممكن إذا كانت لديك قوة الإرادة وكثير من الصبر.

الحلقة 10

عبثا حاول الأستاذ منصور أن يتابع دراسته العليا. وُضِعَتْ جميع الحواجز الإدارية والنفسية للحيلولة دون ذلك. الأجر زهيد وظروف العمل مرثية للغاية، ولا أحد مهتم بما يتخبط فيه قطاع التعليم من مشاكل، يكفي أن السياسيين يعتبرونه حملا ثقيلا يبطئ خطوات التقدم!

هُراء! وهل هناك تقدم من غير تعليم؟

ظل منصور لسنوات يسأل نفسه: كيف له أن ينجح؟

الناس من حوله جلهم انهزاميون، يركبون الكسل ويربون الفشل. حاول أن يقنع بعضهم بأن الحياة ليست سطحية، وبأن لها أبعادا متعددة ومتراكبة.. يجب التيه للإمساك بالمزيد من خيوطها. لكن، عبثا حاول. بل إن منهم من حاول ثنيه عن مواصلة حتى الحلم.

وكما كتب ستاندال في إحدى رسائله وجهها إلى أخته بولين:

“الإنسان يفقد توهج ناره حين يسعى إلى أن يمرر شرارتها إلى قطَعٍ من الجليد”. ثم أردف كاتب رواية “الأحمر والأسود”: يجب زعزعة سكون الحياة وإلا التهمتك”.

فكر منصور في الهجرة، وفكر مليا قبل أن يهاجر؛ راتبه الشهري كأستاذ سيتوقف، ولا مجال للحصول على منحة للدراسة. لا يهم، سَيُعَوِّلُ على مدخرات عمله للسنوات الماضية. هو لم ينتحر كباقي زملائه ليصرف راتبه في شراء سيارة أو شقة بالتقسيط. سيغامر ويلقي بنفسه وسط أحلامه. لم يكن يريد للحياة الرتيبة أن تلتهمه.

سمع منصور صوتا منبعثا من داخله يقول:

اِرْحَلْ! هاجِر!

وإن كنت تحب هذا الوطن حد الهوس.. الهجرة بعيدا عن هذا البلد الذي أصبح يستغني عن أبنائه.

ابترد صدره لما فكر به للتو.. أحس بالارتياح وملأه الأمل؛ لكن ما لبثت عتمة المكان أن غلبت على نوره.

هل الهجرة هي الحل؟

الهجرة التي تلتهم، كأنما هي بالوعة تمتص كل من أخذته سَوْرَةُ غضب على وطنه بعد أن يغضب على نفسه.

أهو مرض الرحيل أصاب الجميع؟

الآن، الآن فقط، بدأ منصور يفهم. كان دائما يعيب على الأدمغة العربية المهاجرة، ويصفها بالوصولية والأنانية وعدم تحمل المسؤولية في تطوير العالم العربي. كان يصف ظاهرة هجرة الأدمغة بالواقع المر الذي يسلب البلدان العربية طاقات بشرية وفكرية هائلة. اليوم، واليوم فقط، بدأ يقتنع بأن الهجرة بالنسبة إلى كثيرين لم تكن خيارا، بل فُرِضَتْ عليهم بعد أن رفضت أوطانهم شهاداتهم وخبراتهم، ورمت بهم في صفوف المهمشين.

وها هو اليوم، منصور الذي يعشق وطنه، منصور المهووس بوطنه، يجد نفسه مرغما على التفكير في امتطاء راحلة الهجرة اللعينة.

ها هو منصور الذي كان يحلم بأن يقدم شيئا ما لهذا الوطن العزيز، يتخلى عن مبادئه التي طالما آمن بها ويقرر الذهاب للبحث عن المجهول.

ها هو منصور يصف كل المبادئ بالأحاجي التي لا تصلح لأكثر من التخدير فترة زمن.

ها هو منصور قد انتزع من نفسه كل بارقة أمل ليهيم في الأرض مغلوبا على أمره.

ها هو منصور الذي كان يحس بأن بمقدوره رفع الجبال فوق كتفيه، بأنه كان مزودا بذخيرة لا تنضب من الثقة في النفس.. ها هو يستكين بعد كل ذلك لضعفه وجبنه، ويقبل بالحل الذي رفضه دائما؛ الهجرة، الابتعاد، الهروب، الانمحاء، التيه.

ولتفترس وطنه الذئاب الجائعة، ولتعصف به الرياح المتقلبة، وليجرفه الطوفان ويهز أركانه الزلزال، ولتتكالب عليه الرعاع.. سيهاجر!

hespress.com