تعد سلسلة “مدن ومطارات وموانئ” نوعا مركبا يجمع بين نوع الكتابة الصحافية وصيغة السيرة الذاتية، وكتابة استرجاعية سردية ينجزها الكاتب المغربي عبد اللطيف هِسوفْ مازجا في ذلك بين الذاكرة والخيال. من خلال حلقات هذه السلسلة، سنسافر مع منصور من مدن الأجداد (دَمْناتْ وأزيلال ومراكش)، ثم من فْضالَة وكازابلانكا، إلى باريس، والعودة عبر الجنوب الإسباني إلى طنجة العالية، ثم إلى نيويورك وفرجينيا وكاليفورنيا بأمريكا.. في رحلة سجلها حافل، بحثا عن شيء لا يعرفه مسبقا، متسلحا بحب المغامرة.

ستبدأ رحلة معاناة صامتة دامت أكثر من ثلاثين سنة أحس فيها منصور في البداية بأنه يعيش الاغتراب في بلده، الإحساس بالعنصرية بفرنسا، ثم التوهم بأنه منبوذ من الحلم الأمريكي.. رحلة عاش فيها حياة المنفى، المنفى البدني والفكري والثقافي، وسط المجتمعين الفرنسي والأمريكي.

يحاول الكاتب اختراق عوالم مصغرة، بأفراحها وأحزانها وتناقضاتها ومغامراتها وأحلامها. خليط من الشخصيات والأماكن المختلفة.. تنقل بين مدن ومطارات وموانئ.. معركة منصور لم تكن سهلة في ديار الغربة، كانت معركة ضارية بلا هوادة ودون انقطاع.

التجارب والصراعات وخيبات الأمل والإهانات نادرا ما كانت انتصارات كاملة أو أفراحا مكتملة. ومع ذلك، كان بحاجة إلى التواصل مع الآخر خوفا من الغرق في الإقصاء أو الملل. انكسارات تبدد فكرة جنة عدن، حيث يتم إعطاء كل شيء دون جهد؛ ولكن، في الوقت نفسه، فإن هذا التواجد في بلد “العم سام” يعزز صورة بلد حيث كل شيء ممكن إذا كانت لديك قوة الإرادة وكثير من الصبر.

الحلقة 26

لم تتأخر دعوة كاليفورنيا. حملت رحلة عمل منصور إلى مدينة مونتيري، مدينة على ساحل المحيط الهادئ في وسط كاليفورنيا.

تأخر إقلاع طائرة “يونايتد إير لاينز” من مطار واشنطن بما يقارب الساعة. جو خانق كان ينتشر داخل الطائرة. لم تتوقف المرأة في المقعد المجاور عن التعليق بخصوص صعوبة السفر جوا على مدار الخمس عشرة سنة الماضية. منذ الحادي عشر من سبتمبر، أكدت. على يمينها، بجانب الكوة، كان أمريكي أبيض طويل القامة يُؤَمِّن على ما تقوله السيدة وهو يطأطئ رأسه ببطء. أما منصور فكان يختلس النظر إليهما من زاوية عينه اليمنى، دون أن ينبس ببنت شفة.

تكلم الرجل بلهجة عصبية، بينما كانت الأوردة تتوتر حول رقبته:

– أصبح السفر عقاباً.. حقا قطعة من العقاب!

– نعم، نعم! انتهت تلك الأيام الخوالي عندما كنا نسافر في النعيم، قالت المرأة التي كانت تحمل ملامح جذابة رائعة.

كانت المضيفة، المكتنزة والفارعة الطول، تلمس كتف منصور الأيسر في كل مرة تمر في الممر الضيق، فيحس بفخذيها يفيضان نحوه. وكأن هذا لم يكن كافيا، قام الرجل الذي كان يجلس وراءه ليضع سترته في مقصورة الأمتعة فوق رأسه. وقبل أن يجلس، أصابه بشدة بمرفقه في مركز رأسه. كانت الضربة قوية ومؤلمة جدا.

– اسمح لي.. اسمح لي سيدي.. أنا آسف، لقد تعثرت.

أجاب منصور غاضبا بحركة من يديه، وأغلق عينيه للسماح للألم بالتلاشي.

عادت المضيفة لتطلب من المسافرين شد أحزمتهم، وتصويب ظهور مقاعدهم وإرجاع الطاولة القابلة للطي إلى مكانها. أخيرا أقلعت الطائرة بعد انتظار طويل. اعتذر رئيس الطاقم وتمنى للمسافرين على متن الخطوط الجوية المتحدة الأمريكية سفرا سعيدا. ساد الهدوء لحظة في هذه العلبة من السردين حيث كان المسافرون ينكمشون على ذواتهم. بعد ساعة، سمع منصور المضيفة تدفع بصعوبة عربتها، وتقدم إلى من يرغب في الشراء أطباقا باردة في علب محكمة الغلق. استيقظ الرجل بجانب الكوة من سباته القصير وطلب:

– وجبة خفيفة إسبانية وبيرة بودوايزر رجاء سيدتي.

– نعم سيدي.. تفضل.. عشرون دولارا.

مد الرجل بطاقة بنك فيزا دون أن يظهر هذه المرة أي تعبير عن الفرح أو السخط.

– سيدي، تفضل الوصل.

– شكرا سيدتي.

– عفوا.

سحبت جارة منصور شطيرة باردة من حقيبتها ووضعتها على الطاولة القابلة للطي أمامها.

قال الرجل بجانب الكوة، وفمه ممتلئ بالطعام:

– نحن ندفع ثمن وجباتنا في الطائرة الآن!

– أوه نعم! مر ذلك الوقت حين كنا نهبط من الطائرة متخمين.. يقدمون لنا الشوكولاتة والشمبانيا، عقبت السيدة.

مرت المضيفة للمرة الثانية، تدفع عربة من غير مبالاة: ”مشروبات غير كحولية مجانا”.

طلب منصور مشروب كولا باردا. قدمت له المضيفة كوبا ممتلئا مع بعض مكعبات من الثلج. أمسك الكأس واستمر في قراءة رواية ستاينبك “شرق عدن”.

ارتفع صوت الطيار في هرج لا يطاق: ”ارجعوا إلى مقاعدكم واربطوا أحزمة الأمان من فضلكم! نحن نمر بمنطقة من الاضطرابات القوية”.

تزايدت الحركات المضطربة للطائرة بشكل مخيف. ارتفعت الصيحات هنا وهناك. تعلقت السيدة بجانب منصور بذراعه اليمنى بكلتا يديها كما لو أنها تستنجد لحمايتها. نظراتها، هذه المرة كئيبة، التقت بنظراته. نظرات بعيدة، مفقودة في هلعها. فتحت عدد من الصناديق وسقطت الأمتعة على رؤوس بعض الركاب المرعوبين. شراب الكولا بيد منصور، مثل نفاثة صاعدة، عانق سقف المكان وعاد كدوش ليرش شعره. برودة المشروب ومكعبات الثلج على رأسه خففت من الضربة التي تلقاها قبل ساعة.

المضيفات في الجزء الخلفي من الطائرة، قلقات، كن يرقبن المسافرين دون أن يتمكن من فعل أي شيء. استمرت حالة الهلع دقيقة، دقيقة طويلة ومؤلمة. أخيرا، سكنت حركات الطائرة وعمت المكان همهمات: أوف وأوف، خرجنا من عنق الزجاجة. كل شيء عاد إلى النظام، خوف أكثر من أذى. للتخفيف من رعب المسافرين قدمت المضيفات جولة ثانية من المشروبات. ظل منصور صامتا طوال الرحلة. هذا الاختبار الصعب جعله يتيقن أن الحياة يمكن أن تتوقف في أي لحظة، ويجب أن نسعد بكل لحظة نحياها، ويجب أن نخبر من نحبهم كم نحبهم، ويجب بالتأكيد أن نقترب من الله أكثر وأكثر.

بعد خمس ساعات من الرحلة، هبطت طائرة الخطوط الجوية المتحدة في مطار سان فرانسيسكو. كان الجو باردا بينما كان الوقت شهر يوليو. ألم يقل، ذات مرة، مارك توين، الكاتب الأمريكي العظيم، مؤلف كتاب “مغامرات توم سوير”: “أبرد فصول الشتاء التي أمضيتها في حياتي كان صيفا في سان فرانسيسكو”. من هناك، استقل منصور طائرة أخرى، صغيرة هذه المرة، للذهاب إلى مونتيري حيث كان مقررا أن يعمل لبضعة أشهر.

hespress.com