تعد سلسلة “مدن ومطارات وموانئ” نوعا مركبا يجمع بين نوع الكتابة الصحافية وصيغة السيرة الذاتية، وكتابة استرجاعية سردية ينجزها الكاتب المغربي عبد اللطيف هِسوفْ مازجا في ذلك بين الذاكرة والخيال. من خلال حلقات هذه السلسلة، سنسافر مع منصور من مدن الأجداد (دَمْناتْ وأزيلال ومراكش)، ثم من فْضالَة وكازابلانكا، إلى باريس، والعودة عبر الجنوب الإسباني إلى طنجة العالية، ثم إلى نيويورك وفرجينيا وكاليفورنيا بأمريكا.. في رحلة سجلها حافل، بحثا عن شيء لا يعرفه مسبقا، متسلحا بحب المغامرة.

ستبدأ رحلة معاناة صامتة دامت أكثر من ثلاثين سنة أحس فيها منصور في البداية بأنه يعيش الاغتراب في بلده، الإحساس بالعنصرية بفرنسا، ثم التوهم بأنه منبوذ من الحلم الأمريكي.. رحلة عاش فيها حياة المنفى، المنفى البدني والفكري والثقافي، وسط المجتمعين الفرنسي والأمريكي.

يحاول الكاتب اختراق عوالم مصغرة، بأفراحها وأحزانها وتناقضاتها ومغامراتها وأحلامها. خليط من الشخصيات والأماكن المختلفة.. تنقل بين مدن ومطارات وموانئ.. معركة منصور لم تكن سهلة في ديار الغربة، كانت معركة ضارية بلا هوادة ودون انقطاع.

التجارب والصراعات وخيبات الأمل والإهانات نادرا ما كانت انتصارات كاملة أو أفراحا مكتملة. ومع ذلك، كان بحاجة إلى التواصل مع الآخر خوفا من الغرق في الإقصاء أو الملل. انكسارات تبدد فكرة جنة عدن، حيث يتم إعطاء كل شيء دون جهد؛ ولكن، في الوقت نفسه، فإن هذا التواجد في بلد “العم سام” يعزز صورة بلد حيث كل شيء ممكن إذا كانت لديك قوة الإرادة وكثير من الصبر.

الحلقة 18

حَلَّتْ الانتخابات بفرنسا. انتصر حزب لوبين اليميني العنصري بتحقيق نسبة لم يسبق له أن حققها في الدور الأول للانتخابات الرئاسية. حينها انسحب الاشتراكيون من الانتخابات ليفسحوا الطريق واسعا للجمهوريين في محاولة لتضييق الخناق على اليمين المتطرف. فشل الاشتراكيون ليقدم إثر ذلك الوزير الأول ليونيل جوسبان استقالته ويتنحى نهائيا عن العمل في الحقل السياسي. هكذا هم السياسيون في العالم الغربي، لا يتمسكون بالسلطة شاءت أم لم تشأ شعوبهم؛ يخضعون للديمقراطية ويحترمون صناديق الاقتراع. وَلْنَسِرْ نحن وراء وهم الزعامات الأزلية، وراء وهم النبوءات الكاذبة.

انتكس المهاجرون وغالبية المثقفين الفرنسيين.

فرحت العجائز صديقات مدام لولو ورحن يكبرن بحياة لوبين في الصالون حيث يجتمعن عادة.

أغلق منصور باب غرفته، لا سامع ولا أنيس. سالت عيناه بالدموع؛ كان صادق البكاء يفكر في حال المهاجرين. لو تم ونجح لوبين في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية، كم عربيا سيعود مضطرا إلى بلده الأصلي؟ قال في سريرته: المرتدي للباس الناس عريان والمقيم في بلاد الآخرين لا وطن له. أطرق التفكير مرة أخرى: هؤلاء المهاجرون غيروا أوطانهم جريا وراء آمالهم، ماذا لو رجعوا إلى أوطانهم وجُردوا من أدنى أسباب العيش؟ من سيستقبلهم في أوطانهم؟ من سيضمن لهم كرامتهم بعد أن ضاقت باحة العيش على كل من بقوا في الوطن؟ هيهات، ثم هيهات.. ألا عطفا على تلك النفوس المُغربة المكدودة.

كانت مدام لولو خلف الحائط في الصالون تفكر في حال منصور الذي تعكر مزاجه منذ سمع خبر فوز لوبين؛ ثم ها هو الآن يسمع حديث عجائز تلسع ألسنتهن كما الحيات. لم ترشف من كأسها، كانت تدنيه، ثم تقصيه ولا ترفعه إلى شفتيها. ظلت شاردة، لا تستطيع طرد صديقاتها اليمينيات العنصريات، ولا تطيق أن يسمع منصور حديثهن المقيت. ظلت حائرة إلى أن حان فض المجمع.

كان منصور ساعتها قد خرج ليتيه في شوارع مدينة الأنوار.

بعد ذلك بأيام قليلة، نزلت الجماهير، كما العادة، إلى الشارع للتعبير عن رفضها لليمين المتطرف وإيقاظ من سها من الفرنسيين المعتدلين ولم يصوت في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية. انغلقت وجوه الناس وتعكر جو باريس. مشوا في واد هائج يذكرون بتقاليد وأفكار الجمهورية.

كيف تَمَكَّنَ اليمين المتطرف من اكتساح الساحة الشعبية على حين غرة؟

كيف تنكر الفرنسيون لأفكارهم؛ للسلم، للتعايش، للأمل، لقبول الآخر، للمساواة، للعدالة والإخاء؟

كيف تقهقر الفرنسيون ورجعوا إلى الخلف ليصوتوا لصالح النازية الجديدة؟

منتهى السخف والحمق.

امتلأت ساحة لاديفونس وساحة لاكونكورد وِدْيانا تجري بشرا غاضبا. جماعات بشرية من اليمين المعتدل واليسار بجميع أحزابه؛ الاشتراكيين، الشيوعيين، الخُضْر، بالإضافة إلى الجمهوريين، كلهم يرفعون شعارات ضد لوبين وأفكاره العنصرية المتطرفة. خرج المسلمون واليهود والمسيحيون يَشُدُّ بعضهم بأيدي البعض الآخر، يحذرون من هَدِّ البنيان المرصوص، يحذرون من السماح لشرذمة من النازيين الجدد بتسفيه بلد الثورة الفرنسية والرجوع به إلى الأفكار الرثة.

مشى منصور وراء الجموع الغضبانة؛ كاد لا يجد لقدميه موطئا من شدة الزحام كأنما هو يوم الحشر. رُفِعَتْ أعلام حمراء وزرقاء وبيضاء؛ صدحت الحناجر بشعارات وكلمات نيرة تسعى إلى أن تجلي الظلام الذي خيم على فرنسا خلال تلك الأيام.

حملت السواعد لافتات كتب عليها: “لا للنازية.. لا للفاشي، نعم للسارق”.. في إشارة إلى رفض الفاشي لوبين والتصويت على شيراك الذي اتهم إبانها بتحويل أموال عمومية حين كان عمدة لباريس.

فكر منصور: إن المرء يحير في أمر هؤلاء الفرنسيين؛ يتكبرون وينأون بأنفسهم عن مخالطة المهاجرين، لكنهم يخرجون عن بكرة أبيهم إلى الشارع للدفاع عن حقوقهم ضد عنصري نازي من بني قبيلتهم. وهو يسمع اليساريين يدعون عن مضض إلى الدفاع عن الجمهوري شيراك وإعادة التصويت عليه لولاية رئاسية جديدة، تذكر قول كبير شعراء العرب:

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى

عدوا له ما من صداقته بدُّ

قال الفرنسيون كلمتهم وأسمعوها للعالم أجمع، ثم مضوا ليتفرقوا شيعا وفرادى في شوارع وأزقة باريس. لن يأفل النور في مدينة الأنوار، لن يتوارى الأمل، لن يحكم الأمواتُ الأحياءَ. هكذا هي الديمقراطيات الرصينة العظيمة. لن يعود المهاجرون إلى أوطانهم الأصلية، أوطانهم التي لا يرجعهم إليها سوى رؤية الأحباب والاستمتاع بالفولكلور.

شَخَصَ ببصره أمامه، وراح يمشي قاطعا الأمتار تلو الأمتار في اتجاه بورت دو لاشابيل. كان يَجِدُّ السير ينشد احتراق الطاقة في عضلاته استعدادا للنوم. لما وصل بيت مدام لويز، سألته العجوز وهي لا تكاد تجرؤ:

– أأنت بخير؟

أجابها منصور بصوت متذبذب:

– كنت أظن أن فرنسا استحالت بلدا للعنصريات من طينة صديقاتك، لكن أحمد الله بعد أن رأيت ما رأيت في الشارع اليوم.

– شاركت في المظاهرة إذن؟ لقد تابعت التغطية المباشرة عبر التلفاز؛ لو كانت ساقاي لا تزالان تسعفاني، لخرجت أنا الأخرى أندد بهذا الأخرق لوبين.

دخل منصور غرفته عله يفوز فيها بقليل من الراحة والاطمئنان. جاءته مدام لويز بكوب من نقيع البابونج المهدئ وتمنت له أحلاما سعيدة. كانت تلك فرصته للانعزال والتأمل. أطفأ النور واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، قبل أن يعقد النوم جفنيه بعد دقائق معدودات.

hespress.com