تعد سلسلة “مدن ومطارات وموانئ” نوعا مركبا يجمع بين نوع الكتابة الصحافية وصيغة السيرة الذاتية، وكتابة استرجاعية سردية ينجزها الكاتب المغربي عبد اللطيف هِسوفْ مازجا في ذلك بين الذاكرة والخيال. من خلال حلقات هذه السلسلة، سنسافر مع منصور من مدن الأجداد (دَمْناتْ وأزيلال ومراكش)، ثم من فْضالَة وكازابلانكا، إلى باريس، والعودة عبر الجنوب الإسباني إلى طنجة العالية، ثم إلى نيويورك وفرجينيا وكاليفورنيا بأمريكا.. في رحلة سجلها حافل، بحثا عن شيء لا يعرفه مسبقا، متسلحا بحب المغامرة.
ستبدأ رحلة معاناة صامتة دامت أكثر من ثلاثين سنة أحس فيها منصور في البداية بأنه يعيش الاغتراب في بلده، الإحساس بالعنصرية بفرنسا، ثم التوهم بأنه منبوذ من الحلم الأمريكي.. رحلة عاش فيها حياة المنفى، المنفى البدني والفكري والثقافي، وسط المجتمعين الفرنسي والأمريكي.
يحاول الكاتب اختراق عوالم مصغرة، بأفراحها وأحزانها وتناقضاتها ومغامراتها وأحلامها. خليط من الشخصيات والأماكن المختلفة.. تنقل بين مدن ومطارات وموانئ.. معركة منصور لم تكن سهلة في ديار الغربة، كانت معركة ضارية بلا هوادة ودون انقطاع.
التجارب والصراعات وخيبات الأمل والإهانات نادرا ما كانت انتصارات كاملة أو أفراحا مكتملة. ومع ذلك، كان بحاجة إلى التواصل مع الآخر خوفا من الغرق في الإقصاء أو الملل. انكسارات تبدد فكرة جنة عدن، حيث يتم إعطاء كل شيء دون جهد؛ ولكن، في الوقت نفسه، فإن هذا التواجد في بلد “العم سام” يعزز صورة بلد حيث كل شيء ممكن إذا كانت لديك قوة الإرادة وكثير من الصبر.
الحلقة 28
مع صديقه الفلسطيني سالم المفقود لمدة ربع قرن في المنفى الأمريكي، خرج منصور لزيارة المطاعم في مونتيري. فاجأه الرجل بالرحلات الكثيرة التي قام بها حول العالم. اعترف له:
– تحت الاحتلال، لم أستطع مغادرة قريتي بالقرب من أريحا. لقد عشت في المكان نفسه، محاطًا بجنود إسرائيليين، لأكثر من ثلاثين عامًا. لذا، الآن، لا أفوت فرصة لزيارة الأماكن مهما بعدت المسافة.
– إنها فرصة جميلة أن نسافر، ولكن من المهم أيضًا الانتماء إلى مكان ما.
– أنا أمريكي الآن، لقد تبنتني هذه الدولة العظيمة كما تبنيتها. فلسطين جزء من الماضي، ماض بعيد، ماض منسي.
– هل يمكن أن ننسى حقا ماضينا؟
– الماضي الذي يسرق منا.. يجب أن ننساه لنخلق لأنفسنا مستقبلا.
– الحاضر والمستقبل يؤسس على ماضينا، ماض مدفون فينا.
– نسيان الماضي يجلب شعورًا بالتحرر العاطفي، ويسمح باستئناف رحلة الحياة. من غير المجدي الاستمرار في المعاناة بسبب الماضي، مهما كان هذا الماضي.. للاستمرار في استئناف مسار حياتك بهدوء أكبر. لديك الحق في أن تنسى إذا كنت تتوق إلى السعادة. بالنسبة لي، صورة الماضي تحطمت، منذ فترة طويلة، محدثة صخبا كبيرا، مثل المرآة التي تتكسر وتنهار ثم لا شيء سوى شظايا لا يمكن تجميعها من جديد، حتى إذا حاولت إعادة التفكير، لا شيء يصمد أمام تلاشي الماضي المسلوب منا.
– أعتقد أينما نذهب، نحمل معنا حقائبنا المليئة بقطع وشظايا الماضي. لن ننجح أبدا في قلب الصفحة. الماضي، حتى في شكل بقايا دمار، موجود دائمًا في ذاكرتنا، في أعماقنا.
عادت موسيقى الراب لتملأ المكان مرة أخرى. باتفاق متبادل، أوقفا مناقشتهما حول الماضي وفلسطين؛ كان الجرح عميقا. سالم يريح نفسه في غياهب النسيان، في هذا النسيان الذي يفرضه الواقع، واقع مؤلم.
في اليوم الموالي دعا سالم منصور إلى زيارة بعض الأصدقاء في مدينة كَرْمِل.
الكَرْمِل، مدينة الأثرياء، ليس بعيد عن مونتيري، تأسست في عام 1902، معروفة اليوم بمناظرها الطبيعية وتاريخها الفني الغني. كان في المدينة العديد من الشعراء والممثلين المسرحيين، بمن فيهم هربرت هيرون، مؤسس مسرح فورست في عام 1910، والكاتب والممثل البوهيمي بيري نيوبيري والممثل المخرج كلينت إيستوود.
الكَرْمِل معروفة أيضًا بالعديد من القوانين الغريبة، بما في ذلك حظر ارتداء الأحذية ذات الكعب العالي دون ترخيص. وفي الواقع، يحظر قانون البلدية لبس الأحذية ذات الكعب العالي التي يزيد ارتفاعها عن 5 سنتيمترات أو قاعدة تقل أبعادها عن سنتيمترين ونصف السنتيمتر، ما لم تحصل السيدة مسبقا على تصريح. تمت صياغة هذا القانون من قِبل محامي المدينة في العشرينيات من القرن الماضي للدفاع عن الكَرْمِل ضد الدعاوى القضائية من لابسات الأحذية ذات الكعب العالي التي يمكن أن تتعثر على الرصيف غير المستوي بسبب جذور الأشجار المعمرة هناك لقرون. وعلى الرغم أن الشرطة المحلية لا تتعقب منتهكي هذا القانون فإن وثائق التصاريح ما زالت متوفرة حتى الآن مجانًا في دار البلدية.
في روايته “وادي القمر”، وصف جاك لندن الكَرْمِل بأنها مستعمرة الفنانين. في عام 1905، تم إنشاء نادي الكَرْمَل للفنون والحِرف لدعم وإنتاج الأعمال الفنية. في العام نفسه، جاء الشاعر جورج ستيرلين الملقب بـ”ملك البوهيميين من غير تاج” إلى الكَرْمِل وساعد، بصحبة ماري أوستن وجاك لندن، في تدعيم سمعة المدينة الأدبية. ومنذ عام 1906، تم غزو الكَرْمِل من قِبل الموسيقيين والكتاب والرسامين وغيرهم من الفنانين الفارين من زلزال سان فرانسيسكو. شجعت السلطات المحلية المقيمين الجدد على شراء الكثير من الأراضي عن طريق الائتمان؛ البقعة الأرضية لم تكن تكلف أكثر من عشرة دولارات، بدون فوائد وبتسهيلات دفع فوق الخيال. اليوم، تكلفة هذه المنازل تتجاوز ملايين الدولارات.
جميل معرفة تاريخ الأماكن التي تطأها قدمك. بعد ذلك، تكتسب هذه الأماكن بعدًا جديدًا لترافقك في متم رحلتك أرواح العظماء الذين مروا من هناك. الأماكن ليست فقط الأبراج والقلاع أو المباني أو الجدارات أو الشرفات أو الأسوار، ليست المطاعم والفنادق والمقاهي التي تمر بها، إنها أيضًا قصص، وهي في معظم الأحيان قصص مدهشة تفاجئك. يصبح المكان أكثر جمالا عندما يتم عرضه مثل حكاية خرافية وليس فقط مثل صناديق متراكبة الواحدة بجانب الأخرى. المحتويات تتجاوز الحاويات! حتى عندما يكون عملاً معماريا يروق للعين، فإن قيمته الفنية تتغذى من تاريخه، تاريخ الذي أنجزه وظروف إنجازه. المكان هو تعبير عن رغبة، عن حب، عن حلم.
في طريقهما إلى الكَرْمل، سافر منصور وسالم على ”طريق 17 ميلا”، وهي ممر على شكل حلقة ذات مناظر طبيعية بطول 27 كلم على طول شاطئ بيبل بيتش وباسفيك كروف. مرا عبر غابة ديل مونتي الممتدة على مساحة خمسة آلاف هكتار تؤثثها أشجار السرو. على تل من الجرانيت حيث تضرب أمواج المحيط الهادئ، هناك شجرة سرو معزولة ومشهورة، تعد أيقونة الغرب الأمريكي، وهي واحدة من الأشجار الأكثر تصويرا في أمريكا الشمالية، عمرها يزيد عن 250 عامًا، لا تزال تقاوم على الرغم من أن النار كانت قد امتدت إليها ذات يوم. تم شدها في مكانها بكابلات وتم تسجيل تصميم هذه الشجرة كعلامة تجارية لشركة الكولف بيبل بيتش في عام 1919. أعلنت الشركة هذه العلامة مَحْمِيَة والشعار وأيضًا الشجرة نفسها. في طريقهما، التقطا صوراً لأشجار غريبة تسمى الأشجار الأشباح. ليس بعيدًا عن الساحل، كانت ”صخرة الطيور” موطنًا لمخلوقات تأتي من كل حدب وصوب، ولا يدري أحد لماذا تتكاثر هذه الطيور على هذه الصخرة الجزيرة.
عند وصولهما إلى الكَرْمل، ذهبا إلى قصر السيد شيرازي، رجل أعمال إيراني رضع الثراء وتعرف على الرخاء منذ الولادة. لم تكن هناك مناسبة محددة؛ لكن السيد شيرازي وزوجته شهرزاد يحبان دعوة الناس كلما عادا من رحلاتهما الطويلة إلى أوروبا. هناك، كان اثنان آخران من الإيرانيين، الآنسة بَحْريكْ والسيد أحمدي.
عاش السيد شيرازي في ألمانيا لسنوات عديدة قبل أن ينتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية. كان الصبي الوحيد في أسرة إيرانية تضم سبع فتيات. مدلل بشكل شنيع في مجتمع شرقي يفضل الذكور، غادر طهران قبل الثورة الإسلامية عام 1979 إلى ألمانيا لإنهاء دراسته الجامعية. مع الأموال الضخمة التي كان يتلقاها من عائلته الغنية في نهاية كل شهر، كان يضيع كل ليلة في حياة العبث في برلين. لكن، بعد حادثة كادت تكلفه حياته، استيقظ من سباته، وتوقف عن شرب الكثير من الكحول وقرر عدم مرافقة فتيات الليل. ذهب إلى إيران، حيث وجدت له أخواته زوجة. تزوج تبعا للتقاليد الفارسية وبدأ التفكير بجدية في مستقبله. نقل ما تبقى من ثروة والديه الهائلة، اللذين انتقلا منذ مدة إلى دار البقاء، إلى الولايات المتحدة وشمر على ساعديه وبدأ العمل بتفان منقطع النظير. بعد عشرين عامًا من العمل الشاق في مجال العقار والسياحة، أصبح مليونيرا وقرر التقاعد في مدينة الكَرْمِل حيث اشترى قصرا صغيرا جميلا للغاية.
الزوجة شهرزاد، التي سميت تيمنا باسم بطلة ألف ليلة وليلة، والتي تعني ”ابنة المدينة”، جميلة جدًا حتى وإن جاوزت سن الخمسين. لم يكن الجمال ميزتها الوحيدة، بل الصبر والتسامح هما الصفتان اللتان سمحتا لها بالبقاء مع رجل مثل السيد شيرازي. مرارًا وتكرارًا، شكت شهرزاد زوجها الذي كان يخونها مع أخريات. وفي كل مرة كانت تطلب فيها الطلاق، يقسم الشيرازي أن لن تحل محلها أي أنثى أخرى. بسبب إلحاحه أقنعت نفسها بالبقاء معه وأقنعت نفسها بأنه سوف يتعب يوما ما من الجري وراء التنورات. في الحقيقة، لم يكن حب أحدهما للآخر – حب شبه مجنون من جانب شهرزاد، بطريقته الخاصة من جانب السيد شيرازي – هو سر بقائهما مع بعض، كانت بالأحرى معتقداتهما الدينية الزرادشتية. في دين فارس القديم، يشدد نبيهم زرادشت على أهمية الأسرة العادلة؛ لأن الأسرة هي قاعدة عالم جديد رائع يمكن أن يقدموه للبشرية. لذلك، فإن أي زرادشتي لديه مسؤولية كبيرة في دخول الزواج بنية صادقة والبقاء مخلصا لعائلته. وبالتالي، فإن الطلاق مكروه بشدة، كما أن المتزوجين مدعوون إلى الالتزام رسميا بإنجاح زواجهم، والعمل معا للحفاظ على تماسك حبهم، خاصة في أسوأ اللحظات.
الإيرانية بَحْريكْ، وهي ممن يعتنقون البهائية، تشتغل كمحامية في إحدى محاكم سان فرانسيسكو. لم تكن الحياة سيئة بالنسبة لها، ولكن وزنها الزائد، والذي سيبقى مشكلة لم تستطع التغلب عليه على الرغم من كل المحاولات، كان نقطة ضعفها. تعرف بَحْريكْ إيران جيدًا من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، والدها كان يعمل وكيلًا حكوميًا في عهد الشاه، ما سمح له بالسفر من بلدة إلى آخر بصحبة عائلته. بعد أن شعر بنيران ثورة 1979 تقترب، أرسل ابنته الوحيدة إلى أمريكا لإنهاء دراستها. كانت حينها بَحْريكْ في السابعة عشرة من عمرها. بعد الثورة، غادر أبوها وأمها إيران وجاءا للعيش معها لفترة قصيرة قبل أن يستسلم كلا الوالدين للمرض الخبيث ويفارقانها في السنة نفسها. جملة واحدة كانت بَحْريكْ تكررها ذلك المساء: “لا أعرف لماذا ينتحر بعض الناس.. أتذكر أن أبي، الذي مات بسبب السرطان، كان يريد إعطاء كل شيء للعيش لمدة عام أو عامين إضافيين. لماذا لا يعطي الأشخاص الذين ينتحرون بقية حياتهم لأولئك الذين يريدون الاستمرار في الحياة؟”.
الإيراني أحمدي، شيعي، غادر زوجته الأمريكية بعد أن أعطاه العم سام جواز سفره الأزرق؛ ثم عاد إلى إيران حيث تزوج من فتاة في الخامسة والعشرين من عمرها وقد جاوز الستين. وبمجرد أن وطأت الزوجة الجديدة قدماها الأرض الأمريكية، تقدمت بطلب الطلاق وعادت بعد سنوات إلى إيران للبحث عن حبيبها التائه في طهران. كما تَدين تُدان.. لم يكن الأول ولن يكون الأخير.. مثل هذه القصص ليست نادرة في بلاد المهجر.
قضت الشلة المساء في التلذذ بالأطباق التي أعدتها شهرزاد. تحدثوا عن كل شيء أو تقريبا كل شيء: بلاد فارس والتاريخ والسياسة والدين. كان السيد شيرازي يتيه في مرافعات لا تنتهي مدافعا عن بلاد فارس والديانة الزرادشتية. حين اقترب المساء من نهايته، غادر منصور وصديقه الفلسطيني حوالي منتصف الليل، بينما قبلت بَحْريكْ وأحمدي دعوة شيرازي لقضاء الليل في قصرهما.