تعد سلسلة “مدن ومطارات وموانئ” نوعا مركبا يجمع بين نوع الكتابة الصحافية وصيغة السيرة الذاتية، وكتابة استرجاعية سردية ينجزها الكاتب المغربي عبد اللطيف هِسوفْ مازجا في ذلك بين الذاكرة والخيال. من خلال حلقات هذه السلسلة، سنسافر مع منصور من مدن الأجداد (دَمْناتْ وأزيلال ومراكش)، ثم من فْضالَة وكازابلانكا، إلى باريس، والعودة عبر الجنوب الإسباني إلى طنجة العالية، ثم إلى نيويورك وفرجينيا وكاليفورنيا بأمريكا.. في رحلة سجلها حافل، بحثا عن شيء لا يعرفه مسبقا، متسلحا بحب المغامرة.

ستبدأ رحلة معاناة صامتة دامت أكثر من ثلاثين سنة أحس فيها منصور في البداية بأنه يعيش الاغتراب في بلده، الإحساس بالعنصرية بفرنسا، ثم التوهم بأنه منبوذ من الحلم الأمريكي.. رحلة عاش فيها حياة المنفى، المنفى البدني والفكري والثقافي، وسط المجتمعين الفرنسي والأمريكي.

يحاول الكاتب اختراق عوالم مصغرة، بأفراحها وأحزانها وتناقضاتها ومغامراتها وأحلامها. خليط من الشخصيات والأماكن المختلفة.. تنقل بين مدن ومطارات وموانئ.. معركة منصور لم تكن سهلة في ديار الغربة، كانت معركة ضارية بلا هوادة ودون انقطاع.

التجارب والصراعات وخيبات الأمل والإهانات نادرا ما كانت انتصارات كاملة أو أفراحا مكتملة. ومع ذلك، كان بحاجة إلى التواصل مع الآخر خوفا من الغرق في الإقصاء أو الملل. انكسارات تبدد فكرة جنة عدن، حيث يتم إعطاء كل شيء دون جهد؛ ولكن، في الوقت نفسه، فإن هذا التواجد في بلد “العم سام” يعزز صورة بلد حيث كل شيء ممكن إذا كانت لديك قوة الإرادة وكثير من الصبر.

الحلقة 25

بعد سنوات قليلة قضاها في نيويورك، انتقل منصور إلى فيرجينيا، إلى مدينة رستون بالتحديد، كمحلل جيوسياسي للعالمين العربي والفرنكفوني.

الرحيل! الرحيل في بعض الأحيان هو الحل!

رستون، في مقاطعة فيرفاكس بفيرجينيا، بالقرب من العاصمة واشنطن؛ مدينة صغيرة لا يتعدى عدد سكانها ستين ألف نسمة؛ تأسست في عام 1964م؛ أسسها روبرت إي سيمون وصممها كمجمع منظم قادر على احتواء أبراج عالية الكثافة لتوفير المساحات المفتوحة. وفي عام 1967م، زارت السيدة الأولى للولايات المتحدة الأمريكية، ليندون جونسون، رستون في نزهة، وطافت بطرقاتها ومساراتها، كما أن رائدي الفضاء نيل أرمسترونغ وبوز ألدرين من بين المشاهير الكثيرين الذين زاروا المدينة.

عُرفت رستون في الماضي بمعمل تقطير البُورْبَنْ الذي أنشأه سميث بورمان؛ والبُورْبَنْ نوع من الويسكي الأمريكي المستخلص أساسا من الذرة، ويعود في الأصل إلى الولايات الجنوبية، وبالتحديد ولاية كنتاكي. بالنسبة للبعض، فإن الكلمة مشتقة من اسم عائلة بوربون الفرنسية، لكن هذا لا يزال موضع خلاف لا يقبل به الأمريكيون.

في عام 1989م، عم الخوف المدينة بعد اكتشاف فيروس كان يشي في بادئ الأمر إلى الإصابة بفيروس إيبولا بين القردة التي كانت تقتات على السلاطيع، لكن بعد مرور بعض الوقت تبين أن الفيروس لا علاقة له بفيروس إيبولا، إذ كان غير مُعدٍ بالنسبة للبشر. ومنذ ذلك الوقت اكتسب الفيروس المميت للقردة وغير الضار بالإنسان اسم ”فيروس رست” نسبة لمدينة رستون.

جزء من سكان رستون ينتمون أصلا لولاية فرجينيا، ولكن أغلبهم جاء من أنحاء مختلفة من الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى المهاجرين من خارج أمريكا. يندر السود الأمريكان واللاتين في هذه المدينة، أما بالنسبة للهنود والصينيين الذين يعملون في شركات تكنولوجيا المعلومات، فهم يتواجدون بأعداد مهمة؛ ثم تجد السياح المتناثرين هنا وهناك، يحتلون طوال اليوم، إلى جانب موظفي الحكومة الفيدرالية، العديد من المطاعم والحانات في المدينة.

ويمكن القول إن رستون تسكنها أرفع شريحة من الطبقة الوسطى.

تختلف رستون عن العديد من المدن الأمريكية بمميزاتها الخاصة؛ تحس بأن هناك لمسة أوروبية وإن كانت المدينة أمريكية مائة بالمائة. في الصيف تقام أنشطة موسيقية بجانب النافورة الكبيرة وسط المدينة؛ وفي فصل الشتاء تتم تغطية المكان بالجليد، ويصبح محلا للتزلج يجلب الكثير من الزائرين. في حانات رستون يهيمن عدد النساء على الرجال. نساء يشربن بشكل يومي؛ وهي وسيلة للاسترخاء من التعب المتراكم خلال يوم طويل في العمل. كثيرة هي الأشياء التي يمكن أن تتعلمها في حانة أمريكية، لكن هناك أيضا ضياع الوقت، الطفيليات البشرية العابرة ومروجي الشائعات الذين لا يتوقفون عن الضرب في أعراض الآخرين. بشكل عام، البارات في جميع أنحاء العالم تلقن ثقافة الكسل! وفي رستون، إنه كسل حلو يجب على المرء أن يحذر منه. على المدى الطويل، يصبح الكسل مضيعة للمال، مضيعة للوقت، خسارة للذات.

نكت وموسيقى ريفية في رستون

كانت الموسيقى جزءا من أمسيات منصور في رستون. كل يوم سبت يذهب إلى ”واين بار” للاستماع إلى ماتْيو المغني صاحب اللحية الطويلة. باستخدام دواسة لتجميع دقات الطبل، يعزف منفردا على الغيتار ليؤدي بتفوق أغاني تغطي أنماطا موسيقية مختلفة: الكلاسيك، البوب، الروك، الريفي، الريغي والهيب هوب. كل هذا يتوقف على نوعية الحضور! من الساعة الثامنة حتى الساعة الحادية عشرة مساءً لا يستطيع أحد أن يكبح جماح ماتْيو. من دون فترة استراحة، كان يلقي أغنية بعد أخرى، أمام انبهار المعجبين. يتوقف فقط لرشف رشفة من مشروبه على عجل أو تأثيث عرضه بنكتة يتجاوب معها الجميع من خلال الابتسامات الخفية أو الضحك بصخب.

هذه الليلة كان زوجان فرنسيان يجلسان في الركن الأيمن من ”واين بار”، لذا قرر ماتْيو أن يحكي نكتة: فرنسي يصل إلى نيويورك لأول مرة في حياته. يزور كل ما يمكن زيارته، وفي الأخير يصل أمام المقبرة الكبيرة سانطرال بارك في نيويورك ويدخل إليها. على قبر قرأ: (هنا يرقد جثمان جون مكلين، مات وهو يحافظ على كل أسنانه لأنه كان يستخدم معجون الأسنان كذا…). صُدِمَ الفرنسي وتساءل: ماذا؟ تبا لهؤلاء الأمريكيين يعلنون مبيعاتهم على القبور أيضا. ثم واصل زيارة المقبرة ليقف أمام قبر آخر ويقرأ: (هنا يرقد جثمان بيتر وينستون، توفي محافظا على كل شعره لأنه كان يستخدم الشامبو كذا…). فكر الفرنسي، ثم علق قائلا: تجار مجانين هؤلاء الأمريكيون! استمر في التنقل من قبر إلى آخر ليلاحظ أن جميع القبور تحمل لائحة إشهار. فجأة قرأ: هنا لا يرقد أي شخص. لماذا؟ لأن والده كان يستخدم العازل…! ضحك الجميع، هدير من الضحك.

كان كل الحضور في الصالة يدعم ماتْيو دعما غير مشروط. في نهاية المساء، كان الجميع يردد معه الأغنية:

(نعم، اسمحي لي عزيزتي بأن أراقصك مثل عجلة قطار

أراقصك ويهز جسمي حركات تقودها أحاسيسك

يا حبي اسمحي لي بأن أراقصك

مثل الريح والمطر

كقطار متجه جنوبا

يا حبي اسمحي لي بأن أراقصك…).

عند الإعلان عن مطلع كل أغنية، تسمع همهمات وهمسات ارتياح الحاضرين. بوب مارلي (لا، يا امرأة، لا تبكي …)، إيكلز (فندق كاليفورنيا)، جون دنفر (خذني إلى بيتي، عبر طريق البلد) وغيرها. انتظر منصور هذه الأغنية الأخيرة بفارغ الصبر لأن كلماتها تذكّره ببيته الذي تركه هناك، على الجانب المقابل من المحيط الأطلسي:

(طريق البلد، خذني إلى بيتي

إلى المكان الذي أنتمي إليه

فرجينيا الغربية، فرجينيا الغربية).

كان منصور يكرر: كازابلانكا، كازابلانكا

(جبل ماما، آه يا ماما

خذني إلى بيتي، عبر طريق البلد

خذني إلى بيتي، أسفل طريق البلد

خذني إلى بيتي، أسفل طريق البلد)

عندما اقتربت الليلة من نهايتها، دفع منصور فاتورته واختفى في ظلام الليل باتجاه شقته. بمجرد وصوله، بمفرده هذه المرة، شعر بأن المكان كان شديد البرودة، وشيئا فشيئا، بدأ الحزن يسيطر عليه. استلقى على سريره، أغمض عينيه بحثاً عن النوم. لا مجال! فتح عينيه وانتبه إلى أنه كان يحدق ببلادة في السقف. بعد بضع دقائق، دخل في نوم متقطع، كان يسمع صوتا يسأله: ما المشكلة؟ لم يحر جوابا.

أيقظه صداع في رأسه شديد. بحث في كل مكان في الشقة عن علبة تايلينول. لا، ليس هناك ولا حبة واحدة. أخذ الليمون وقطعه إلى النصف، وضع القطع على مقربة من الصدع وضمد رأسه بخرقة بيضاء ربطها خلف رأسه.

كان هناك ارتباك وشيء غريب يحدث بداخله.

في رستون كان منصور الغريب الذي يحذر منه الأمريكيون دون الوصول إلى حد الخوف. كان في الظل في غالب الأحيان، لكنه كان مثل العين السوفياتية في المكان؛ يسمع باهتمام عميق وتمعن، يحاول تحليل ملاحظاتهم، يميز المعلن عن المضمر ويقرأ بين السطور. قرر أن يقوم بهذا التشريح للمجتمع الأمريكي بمفرده، ولم يكن بمقدور أي شيء أن يحيد به عن هذه المهمة: فهم الناس هنا.. فهم بعض جوانب هذه الأميركا التي لا تتوقف عن إيقاد دهشته. ومع ذلك، بعد أن أمضى بضعة أشهر في المطاعم والمقاهي، لم يعد يشعر بالحماس نفسه، والرغبة نفسها، والانجذاب ذاته، والسرور والسعادة في داخله مع هؤلاء الأمريكيين المثيرين للاهتمام غالبا، ولكن أحيانا غير مبالين أو متكبرين. حاول إقناع نفسه بالبقاء في شقته لقراءة الروايات الأمريكية أو القيام بخربشات على أوراقه. في بعض الأحيان كانت المهمة ناجحة، وفي كثير من الأحيان كان يشعر أن كل شيء ينهار من حوله.

hespress.com