تعد سلسلة “مدن ومطارات وموانئ” نوعا مركبا يجمع بين نوع الكتابة الصحافية وصيغة السيرة الذاتية، وكتابة استرجاعية سردية ينجزها الكاتب المغربي عبد اللطيف هِسوفْ مازجا في ذلك بين الذاكرة والخيال. من خلال حلقات هذه السلسلة، سنسافر مع منصور من مدن الأجداد (دَمْناتْ وأزيلال ومراكش)، ثم من فْضالَة وكازابلانكا، إلى باريس، والعودة عبر الجنوب الإسباني إلى طنجة العالية، ثم إلى نيويورك وفرجينيا وكاليفورنيا بأمريكا.. في رحلة سجلها حافل، بحثا عن شيء لا يعرفه مسبقا، متسلحا بحب المغامرة.

ستبدأ رحلة معاناة صامتة دامت أكثر من ثلاثين سنة أحس فيها منصور في البداية بأنه يعيش الاغتراب في بلده، الإحساس بالعنصرية بفرنسا، ثم التوهم بأنه منبوذ من الحلم الأمريكي.. رحلة عاش فيها حياة المنفى، المنفى البدني والفكري والثقافي، وسط المجتمعين الفرنسي والأمريكي.

يحاول الكاتب اختراق عوالم مصغرة، بأفراحها وأحزانها وتناقضاتها ومغامراتها وأحلامها. خليط من الشخصيات والأماكن المختلفة.. تنقل بين مدن ومطارات وموانئ.. معركة منصور لم تكن سهلة في ديار الغربة، كانت معركة ضارية بلا هوادة ودون انقطاع.

التجارب والصراعات وخيبات الأمل والإهانات نادرا ما كانت انتصارات كاملة أو أفراحا مكتملة. ومع ذلك، كان بحاجة إلى التواصل مع الآخر خوفا من الغرق في الإقصاء أو الملل. انكسارات تبدد فكرة جنة عدن، حيث يتم إعطاء كل شيء دون جهد؛ ولكن، في الوقت نفسه، فإن هذا التواجد في بلد “العم سام” يعزز صورة بلد حيث كل شيء ممكن إذا كانت لديك قوة الإرادة وكثير من الصبر.

الحلقة 20

أخذته سِنَة من النوم. حين انتبه، كان الجمع قد انفض من حوله. حان الوقت لركوب الباخرة. في عرض البحر الأبيض المتوسط، توجه منصور إلى مكتب شرطة الحدود المغربية الموجود على ظهر الباخرة ليعبئ بطاقة الإركاب. وهو يقوم بذلك، مال إليه سرب من الشباب المغربي الأُمّي القادم من إيطاليا يطلبون منه تعبئة بطاقات إركابهم. كان يستعين بجوازات سفرهم لاستخلاص المعلومات المطلوبة. كلها جوازات سُلِّمَتْ بقنصليات المغرب في إيطاليا، عوض أن تُسَلَّم من الجهات الإدارية المختصة بالمغرب. استغرب منصور لذلك. سأل أحدهم:

– ما بال هذه الجوازات مختومة التسليم بإيطاليا؟

أبلغه الشاب وهو يضحك مبديا عن أسنان صدئة:

ـ كل هؤلاء “حَرّاكَة”، هاجروا بطريقة سرية إلى إيطاليا؛ منهم من بقي هناك خمسة أعوام قبل أن تُسَوّى وضعيته إقامته القانونية ويتمكن من الرجوع إلى أهله في المغرب.

لاحظ منصور أن معظمهم ينتمون إلى مناطق خريبكة وابن أحمد ووادي زم وقلعة السراغنة والبروج وبني مسكين بالمغرب. شباب في عشرينيات عمرهم..

شباب أُمّي هرب من الفقر والحاجة والبطالة القاتلة.. شباب هاجر سرا بواسطة زوارق العار التي تخبط فيها المنايا خبط عشواء، لتقتل من تقتل وترمي بهم طعاما للحيتان، وتُبقي من تُبقي وترمي بهم إلى براثن الغربة القاسية. تذكر سفرته السابقة برا في الاتجاه المعاكس من المغرب إلى فرنسا.

رجعت إلى ذاكرته وجوه أطفال ومراهقين كانوا يصطفون على السور المحاذي لميناء مدينة طنجة. كانوا ينتظرون غفلة الحراس ليدخلوا تحت إحدى الحافلات الواقفة بجانب الرصيف، ويتسللوا بعد ذلك إلى الباخرة المتوجهة إلى الجزيرة الخضراء. كان جزاء من يقبض عليه حراس الأمن بالميناء تجريده من حذائه وملابسه، ثم تركه يرتجف تحت بلل المطر في ذلك الصباح البارد. هؤلاء الذين يراهم منصور أمامه الآن كلهم محظوظون أفلتوا من الموت المحقق، وهم اليوم يأملون في غنيمة ستظل أبدا تُسَوَّف.

أي وطن هذا الذي يهرب منه أبناؤه إلى الخارج مستقلين قوارب الموت؟

يعودون اليوم إلى وطنهم الذي لفظهم قبل سنوات ورمى بهم إلى البحر. لا يدرون أهم يحبون هذا الوطن أم يكرهونه؟ سيفتح الأهل أذرعهم لاستقبال هداياهم، بعد أن أظهروا تضايقهم منهم من قبل لمجرد أنهم كانوا عاطلين عن العمل. ستفتح البنوك لهم أبوابها هي الأخرى، وتسمح لهم بالدخول هذه المرة لاستقبال ما حملوه من عملة صعبة بعد أن كان الحراس يطردونهم من قبل لمجرد المرور من أمام أبوابها.

أهلا وسهلا بكم، بعد أن أفلتم من حيتان البحر وأصبحتم تتوفرون الآن على أوراق الإقامة الرسمية بإيطاليا.

فكر منصور في أن الحياة هدية من السماء؛ لكنها مشوشة المعالم. كل واحد يحياها كما يستطيع، أو لنقل كما تُقدم له. هذا الشباب المهاجر في قوارب الموت جرب التيه والفشل والبؤس والحزن والوحدة والخوف قبل أن يهاجر. كان المسؤولون يخاطبونهم بلغة الكذب والخداع والنفاق. لم يقدموا لهم شيئا عدا الوعود الكاذبة المحبوكة بخيوط التسويف.

حضرت فكر منصور قولة للكاتب الفرنسي أندريه جيد: إن البيض لا يُمْلَأ، بل يولد ممتلئا. هؤلاء ولدوا فارغين من الأمل لأنهم رؤوا آباءهم وأمهاتهم بعد أن أمضوا أربعين سنة بعد الاستقلال لا يفعلون شيئا سوى الانتظار وتعزية النفس بالتمني. لم يُقدم لهم أي شيء؛ كل ما قيل لهم هو: أنتم المغاربة، أسود الأطلس، يجب اقتيادكم بمجدول يلف حول أعناقكم. فرحوا لنعتهم بأسود الأطلس، ولم ينتبهوا إلى الحبل الملفوف حول رقابهم.

حين انتهى منصور من ملء جميع بطاقات الإركاب، خرج إلى سقيفة الباخرة وجلس تحت أشعة شمس خافتة. أخذ ينظر أمامه إلى الأمواج التي كانت تتكسر على هيكل وجؤجؤ السفينة. كانت الحركة بطيئة جدا. بعد ساعتين ونصف الساعة من الإبحار، وصلت الباخرة إلى ميناء طنجة. نزل الركاب يهرعون. صعدوا الحافلة من جديد لتقلهم إلى حاجز الجمارك.

قال أحدهم بعد أن نسق مع السائقين المتناوبين: أيها الإخوان، أنتم تعلمون أن رجال الجمارك لا يرحمون.. سنجمع ”بركة” من الدراهم ننفحهم بها ونمر من غير تفتيش. “ادهن السير يسير”، أليس كذلك؟

أصيب منصور بالذهول. كيف يمكن لرجال الجمارك أن يغضوا البصر ولا يفتشون الحافلة؟ ماذا لو هرب أحدهم سلاحا أو متفجرات أو دواء فاسدا وعرضه للبيع؟

ظل ينظر إلى المتطوع يجمع الرشوة المأمولة. من يعطيه ومن يخبره بأنه لا يخفي أي شيء، ولا يهم إن فتش رجال الجمارك في متاعه أم لا. تحول ذهول منصور إلى غيظ مستشيط. هذه مأساة، هذه مشكلة كبيرة. مهاجرون لا يهمهم من الغرب سوى أموال يربحونها من شقائهم اليومي. لم يتعلموا قِيَما مجتمعاتهم في أمس الحاجة إليها. الرشوة ما زالت تنخر ذاكرتهم.. الخوف من كل لابس بذلة رسمية ما زال يسكنهم.

متى يستقيم المعوج؟

فكر: مشكلتنا ليست مشكلة دخول عهد جديد كما يدعون، بل هي تربية منذ الصغر تتلقنها أجيال بعد أجيال. الطريق ما زالت طويلة، طويلة هي الطريق.. لن تتغير شعوبنا بجرة قلم، فقط لأن الملك أو الرئيس أو الزعيم أو الحاكم قال ذلك. المشكلة مشكلة حضارة، والحضارة تبنيها الجماهير الواعية. المشكلة تكمن في الأفكار، واستيعابها يحتاج إلى وقت. الديمقراطية تنبثق من رحم الجماهير ولا تنزل كوحي من السماء، من فوق.

الطريق ما زالت طويلة، طويلة جدا هي الطريق..

وصلت الحافلة إلى حاجز الجمارك. أنزل المساعدون جميع الأمتعة، رغم ما جمعه السمسار والسائقان المتناوبان من نقود مدهم بها بعض المسافرين. الظاهر أن المبلغ الذي جُمِع لم يكن ليكفي أو أن مسؤول الجمارك في النقطة رجل شريف لا يمكن إرشاؤه.

بدأ منصور يفهم لماذا لم تهدأ لبعضهم ثائرة منذ أن اقتربوا من محطة المراقبة الجمركية. كان السمسار الذي تكلف بجمع الرشوة يُهَرِّب دراجة نارية. نعم هكذا، دراجة نارية كاملة، ربما حتى من غير أوراق ملكية.. السائقان يهربان سلعا غذائية، ربما كانت فاسدة تجاوزت تاريخ الصلاحية.. أخرى تهرب كمية كبيرة من العطر الباريسي وأدوات التجميل، ربما مسروقة.. آخر يهرب محرك سيارة مرسيديس. نعم، محرك سيارة مرسيديس.. آخر يهرب قطع غيار سيارات.. بقي أن يهرب أحدهم جثة محنطة أو دَبّابة حربية.

قطعت الحافلة مدينة طنجة.. إيه يا طنجة يا العالية.. نعم، عالية برجالاتها.

تحسر منصور في سريرته: أينك يا محمد شكري لتدافع عن صومعتك؟ أينك أنت وشلة رفاق الدرب: الأمريكي بول بولز، الفرنسي جان جنيه وآخرون. منذ غادرت طنجة يا شكري خبا ضوؤها، نصلت ألوانها.

تذكر تاريخ هذه المدينة العظيمة ورجالها العظماء: الأسطورة هرقل؛ الملك جوبا الثاني الذي تربى في روما وتزوج كليوباترا سيليني ابنة ملكة مصر؛ المجاهد طارق بن زياد الذي فتح الأندلس بعد أن أحرق السفن التي أوصلته إليها وصاح في الجند: أيها الناس البحر من ورائكم والعدو أمامكم، فليس لكم والله سوى الصبر؛ الرحالة ابن بطوطة المغربي صاحب ”تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”، وآخرين.

تابع منصور مع نفسه: هذه المدينة الملآى بعبق التاريخ ورنين الأحداث المثيرة، هي الآن تحكي أن كل شيء مآله الضياع. لا تحكي باللسان، بل بواقع الحال. مدينة السلع المهربة وقوارب الموت التي تنقل المهاجرين السريين إلى أوروبا، مدينة تسرب المخدرات.. مدينة تتثاءب الآن بعد أن خف عبؤها، تاريخها الثقيل. لكن، ومع ذلك لا يزال سحر طنجة يأسر النفوس، ما زالت ملفوفة بهالة من نور أسطوري لا يمكن إطفاؤه.

توقفت الحافلة في إحدى محطات الاستراحة، بعد ساعة من مغادرة طنجة. نزل الجميع لتناول عشاء متأخر. تناول اللحم المشوي طقس من طقوس أكل السفر عند المغاربة.

وإن كان الوقت ليلا، وإن كانت الساعة تشير إلى الثانية صباحا، رائحة ودخان الشواء يملآن المكان، والمسافرون جلوس حول صحونهم. كان منصور يسمع صوت المضغ والبلع من حوله متبوعا بصوت الرشف من الكؤوس الطويلة الطافحة برائحة الشاي الأخضر المُلَقَّم بالنعناع. هو الآخر أحس بلسعات الجوع، فطلب صحنا من الكفتة المشوية وكأس شاي وراح يقضم تارة من رغيف الخبز الذي حشاه بالكفتة على شكل سندويتش ويرشف طورا من كأس الشاي. بعد أن انتهى من الأكل، قام ليغسل يديه، ثم بلل وجهه بالماء البارد ليهزم هجوم النوم عليه. طلب قهوة سوداء من دون سكر. لا يحب أن ينام وهو مسافر. السفر بالنسبة إليه اكتشاف للطريق والبلدان التي يمر بها والناس الذين يجلسون بالقرب منه.

واصلت الحافلة طريقها نحو مدينة كازابْلانْكا. تلحف الخلق بالليل الأسود البارد وناموا جميعهم، عدا السائق ومنصور الذي ظل ينظر عبر النافذة إلى إشارات الأمكنة التي كان ينعكس عليها ضوء الحافلة. عندما انبلج الصبح وبدأت السماء تنفض الطل، قام المسافرون يتثاءبون وهم يسألون عن الوقت المتبقي قبل الوصول النهائي.

وصلت الحافلة، أخيرا، إلى مدينة كازابْلانْكا مع بزوغ الأشعة الأولى للشمس. سفرة شاقة ومتعبة دامت ما يقارب ثماني وأربعين ساعة.

أحس منصور وهو يودع بعض المسافرين بالحرارة تشيع في جسده. هذه مدينته التي تعرفه ويعرفها، التي ازداد بها وترعرع وشب في أحضانها. نقر باب بيت الوالدين. هرعت أمه وأبوه وإخوته وأخواته لاستقباله. تهالك على فراش الجلوس منهكا. لا ضير، أمه هيأت الفطور باكرا وجلست تنتظر وصوله. أعدت أواني الشاي وجاءت بالرغيف الساخن المدهون بالزبدة والعسل الحر. أكل الجميع وتوالت تهانيهم بمناسبة حصوله على الشهادة التي هاجر من أجلها إلى فرنسا.

بعد ساعة زمن، ودعهم وقصد غرفته التي وجدها على حالها لم تتغير. الكتب مصفوفة كما تركها في مكتبته العامرة، السرير الخشبي والمكتب في مكانهما.. استرعت انتباهه رسالة مختومة من وزارة التربية والتعليم فوق طاولة صغيرة. فتحها وكله ريبة. أخرج الورقة ليقرأ محتواها: “يؤسفني إخباركم أنه تقرر اتخاذ قرار الإعفاء في حقكم.. وذلك طبقا لمقتضيات الفصل… من القانون الأساسي العام للوظيفة العمومية كما تم تغييره وتتميمه… والسلام”.

فكر باستخفاف وتهكم: حصلت، يا منصور، على شهادة البطالة من السوربون وليس شهادة الدكتوراه!

hespress.com