تعد سلسلة “مدن ومطارات وموانئ” نوعا مركبا يجمع بين نوع الكتابة الصحافية وصيغة السيرة الذاتية، وكتابة استرجاعية سردية ينجزها الكاتب المغربي عبد اللطيف هِسوفْ مازجا في ذلك بين الذاكرة والخيال. من خلال حلقات هذه السلسلة، سنسافر مع منصور من مدن الأجداد (دَمْناتْ وأزيلال ومراكش)، ثم من فْضالَة وكازابلانكا، إلى باريس، والعودة عبر الجنوب الإسباني إلى طنجة العالية، ثم إلى نيويورك وفرجينيا وكاليفورنيا بأمريكا.. في رحلة سجلها حافل، بحثا عن شيء لا يعرفه مسبقا، متسلحا بحب المغامرة.

ستبدأ رحلة معاناة صامتة دامت أكثر من ثلاثين سنة أحس فيها منصور في البداية بأنه يعيش الاغتراب في بلده، الإحساس بالعنصرية بفرنسا، ثم التوهم بأنه منبوذ من الحلم الأمريكي.. رحلة عاش فيها حياة المنفى، المنفى البدني والفكري والثقافي، وسط المجتمعين الفرنسي والأمريكي.

يحاول الكاتب اختراق عوالم مصغرة، بأفراحها وأحزانها وتناقضاتها ومغامراتها وأحلامها. خليط من الشخصيات والأماكن المختلفة.. تنقل بين مدن ومطارات وموانئ.. معركة منصور لم تكن سهلة في ديار الغربة، كانت معركة ضارية بلا هوادة ودون انقطاع.

التجارب والصراعات وخيبات الأمل والإهانات نادرا ما كانت انتصارات كاملة أو أفراحا مكتملة. ومع ذلك، كان بحاجة إلى التواصل مع الآخر خوفا من الغرق في الإقصاء أو الملل. انكسارات تبدد فكرة جنة عدن، حيث يتم إعطاء كل شيء دون جهد؛ ولكن، في الوقت نفسه، فإن هذا التواجد في بلد “العم سام” يعزز صورة بلد حيث كل شيء ممكن إذا كانت لديك قوة الإرادة وكثير من الصبر.

الحلقة 29

وصلت الخالة بارفين والزوج فراز كما كان مخططا له. ظل منصور يسمع نوروز مبارك هنا، نوروز مبارك هناك. بعد التقديم، ذهبت بارفين وأزيتا إلى واجباتهما في المطبخ، بينما حاول منصور وفراز، قدر الإمكان، إظهار بعض اللطف لبعضهما البعض.

فراز في السبعينيات من العمر، ضخم مع بطن بدين. حضر الشاي بنفسه وقدمه لمنصور. بعد ذلك، أخذ يبلغه عن أنشطته اليومية:

– أنا فقط أقتل الوقت بعد التقاعد.. كان ذلك قبل خمس سنوات.

– ما كان عملك سيد فراز؟

– سابقا في إيران أم هنا؟

– هنا.

– قمت بالتدريس في الجامعة.. لديّ شهادة دكتوراه في مجال الإدارة والأعمال.. كنت رئيس القسم لمدة ست سنوات قبل تقاعدي.

– جميل، هذا يدعو إلى الاعتزاز!

– نعم، لكن الآن… أنا أشعر بالملل بشكل رهيب.

كما هو الحال مع جميع الذين غادروا إيران بعد الثورة الإسلامية عام 1979، عرفت حياة فراز صعودًا وهبوطًا في المنفى القسري قبل حدوث نوع من الاستقرار أخيرا.

التقى فراز بارفين الممرضة لأول مرة في المستشفى العسكري في طهران. في أحد تلك الأيام، اقتحم فراز مكتب الطبيب، مرتديا بذلته العسكرية المزينة بالنياشين من درجة ضابط، لإجراء فحص روتيني. شاب قوي، في بداية الثلاثين، رسم على وجهه جدية مبالغا فيها؛ أما هي، في الثامنة والعشرين من عمرها، جميلة جدًا، رفيعة، جذابة، شعرها أسود مرتب بشكل جيد، كانت الابتسامة تسبقها. طلب الطبيب، وهو رجل متقدم في العمر، من بارفين إحضار السجلات الطبية للملازم فراز وإجراء الاستعدادات اللازمة. وبمجرد وصوله إلى غرفة الفحص، أزال فراز بذلته وظل شبه عار في ملابسه الداخلية؛ ثم وصلت بارفين بعد بضع دقائق، حيته بشكل عادي وطلبت منه أن يصعد على الميزان لتسجل وزنه؛ ثم قامت بإدخال ميزان الحرارة في فمه أسفل لسانه وأخذت درجة حرارة جسمه؛ أدارت مقياس ضغط الدم حول ذراعه الأيسر بعد أن شمر كُم قميصه؛ ثم أخذت سماعة الطبيب وبدأت في سماع دقات القلب والتمييز بين القياس الانقباضي والانبساطي عند فك الضغط. لكل من هذه المهام، كتبت النتائج على ورقة ثم انسحبت وتركته ممددا على سرير الفحص.

عادت مرة أخرى لتجده ساهما يبحلق ببلادة في السقف. سألته:

– هل أكلت شيئا هذا الصباح، سيدي الملازم؟

– أجاب بطريقة فضة:

– لا.

طلبت منه أن يمد ذراعه ويحكم شد قبضة يده.

– يمكنك اختيار الوريد لأدخل الإبرة.

هز كتفيه دون إضافة كلمة. رصدت هي الوريد، ووضعت أصبعها عليه. عندما لاحظت انتفاخ الوريد، وضعت قطن الكحول على النقطة، أدخلت بلطف الإبرة من الأسفل إلى الأعلى وملأت أنبوبين بدم فراز ثم أزالت الإبرة. فعلت كل شيء بمهارة واحترافية، حتى دون أن يشعر الملازم بذلك. اختفت، في النهاية، قبل وصول الطبيب.

بمجرد انتهائه من الفحص الطبي، ذهب فراز إلى الكافيتريا لتناول الطعام. لمحها في القاعة تمشي مثل نحلة، سعيدة. اقترب منها وهي تمر غير بعيد عنه، ابتسم هذه المرة وشكرها على كل شيء. أعادت له الابتسامة وكانت مستعدة للمغادرة حين تجرأ ودعاها لتقبل دعوته للعشاء مساء. فوجئت، خجلت، ووقفت أمامه دون أن تنبس ببنت شفة.

– كما يقولون عندنا: الصمت علامة الرضا.. لا بأس إذن.

– أوه!

– في أي وقت تتركين العمل؟

– عند الساعة الخامسة، سيدي الملازم.

– سآتي لاصطحابك حال تنتهين.. سأنتظرك في سيارتي ميرسيديس سوداء أمام البوابة.. إلى اللقاء بارفين.

– وداعا، سيدي الملازم.

– فراز فقط.

كانت ترتجف حين تركها.

في منتصف يومها في العمل، اعتقدت أنه من غير المناسب الذهاب لتناول العشاء وهي في زي الممرضات. شعرت بالذعر للحظة، ثم فكرت أن تطلب منه التوقف لفترة قصيرة قبالة شقتها قبل أن يذهبا لتناول العشاء. سارت الأمور كما خططت لها. أمام شقتها، طلبت منه أن ينتظر في سيارته:

– لن أتأخر، خمس عشرة دقيقة على الأكثر فراز.

ابتسم بلؤم قبل أن يقول:

– لم أكن أقصد أن أتبعك إلى شقتك.. ليس الليلة على أي حال.

ردت عليه بحزم وهي تغلق الباب بقوة:

– لا الليلة ولا ليلة أخرى، يا ملازم.

ظل فراز هناك في الشارع يتأمل في حين كانت أغنية ”شوهريح سلاطي” تنبعث من شريط تسجيل سيارته. حين عادت أخيرًا، بعد عشرين دقيقة، مرتدية فستانا قصيرًا من الحرير، نزل ليفتح الباب رغبة منه في إظهار لطفه. خفض صوت الموسيقى وانطلقت السيارة دون أن يجرؤ على النظر إلى ساقيها الطويلة الناصعة البياض. حنطه عطرها ليململ أشياء كامنه في أعماق دواخله.. أدرك أنه بصحبة امرأة جميلة جذابة..

في المطعم، كان الجو ممتعا للغاية؛ ضوء خافت، موسيقى هادئة كانت تضيف على المكان سحرا ما. تحدثا عن عائلاتهما، أين عاشا من قبل، عن المهنة وأشياء أخرى كثيرة. أبلغها أنه عاد لتوه من الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أربع سنوات قضاها في جامعة ميشيغان حيث حصل على الدكتوراه، وأنه يتوقع ترقيته إلى نقيب في غضون شهرين وأنه سينتقل إلى منزل وظيفي كبير.

كان يتعمد رسم كل شيء باللون الوردي. أغراها بذكائه وتصميمه على النجاح في عمله. ثم استقرت الحميمية وسط تخوفاتها من أن يكون زير نساء يتقن دوره ببراعة متناهية. بعد كأس أو كأسين، سقطت درجة اليقظة عندها واندهشت حين وعت بأنه يمسك يدها وأن عينيها تغرق في عينيه.

شهران من المواعيد هنا وهناك كانا كافيين لإعلان الزواج، وتنظيم حفلة كبيرة والذهاب إلى باريس لقضاء شهر العسل. ثم أخذت الحياة مجراها الطبيعي، ليثمر الحب توأمين، فتاة وصبي بعد أقل من سنة. تمت ترقية فراز إلى رتبة عقيد بعد خمس سنوات من العمل في حراسة الشاه ليعين ممثلا لجيش بلاده في المؤتمرات والتداريب التي كانت تعقد في الصين واليابان وأوروبا وأمريكا الشمالية.

في مساء 11 فبراير 1979، تولى آية الله الخميني السلطة ليصبح مهدي بازركان رئيس وزرائه. شهد هذا التاريخ نهاية إمبراطورية إيران بسقوط الشاه الذي أجبر على الفرار. في الوقت نفسه، استولت القوات الثورية على أجهزة التلفزيون وأجهزة الراديو وكل وسائل التواصل. قتل الوافدون الإسلاميون الجدد بعض الجنرالات الموالين للشاه واحدًا تلو آخر. بقي فراز في الثكنة يراقب ما كان يجري من حوله، مدعيا دعمه للثورة الإسلامية. بعد ستة أشهر، شعر بأنه تم تهميشه وأنه ربما لن يتأخر دوره ليؤدي ثمن خدماته للشاه. تظاهر بأنه أصيب بالجنون: كان يأخذ مسدسًا بلاستيكيًا، ويدور حول فيلته كما لو كان شخص ما يهدده بالقتل. أحيل على التقاعد ولم يعد أحد يعير له أي اهتمام. وسط اضطراب الوضع في إيران أخذ أسرته وفر بمساعدة أصدقائه عبر الحدود التركية. وبمجرد وصوله إلى إسطنبول، تقدم إلى القنصلية الأمريكية وطلب اللجوء السياسي. دون مشاكل كبيرة، استقبله الأمريكيون بأذرع مفتوحة. عند وصوله إلى سان فرانسيسكو، جاء الأصدقاء الإيرانيون الهاربون مثله لاستقباله في المطار والترحيب به. بعد بضعة أشهر، حصل فراز على وظيفة أستاذ مساعد في جامعة سان فرانسيسكو.

hespress.com