بعد مدة من الترقب والانتظار، أسـدل الستار يوم الثلاثاء 25 ماي 2021 على مهمة “اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي”، عقب ترؤس جلالة الملك محمد السادس مراسيم تقديم التقرير النهائي الذي أعدته اللجنة. وبالمناسبة ذاتها، استقبل جلالتـه السيد “شكيب بن موسى”، رئيــس هذه اللجنة، الذي قـدم بين يديه نسخة من التقريـر، على أن تتولى اللجنة نشـره، والانخراط في عملية واسعة “لتقديم أعمالها، وشرح خلاصاتها وتوصياتها للمواطنين ومختلف الفاعلين، بكل جهات المملكة”، تماشيا والتعليمات والتوجيهات الملكية السامية، حسب ما ورد في بــلاغ في الموضوع صادر عن الديوان الملكي. وهذا الحدث التنمـوي البارز في تاريخ مغرب ما بعد الاستقلال، يأتي في سياقات مختلفة، يمكن حصرها في ستة سياقات كبرى:
– أولا: ما أبانت عنه الممارسة التنموية طيلة عقود من الزمن، من مشكلات وأعطاب متعددة الزوايا مرتبطة أساسا بالتنمية الاجتماعية والبشرية والمجالية، مما فرض تجديد النموذج التنموي، بشكل يعطي نفسا جديدا للفعل التنموي الوطني في اتجاه تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية، والمضي قدما نحو مرحلة “المسؤولية” و”الإقلاع الشامل”.
– ثانيا: ما يعيشه المغرب منذ ما يزيد عن السنة من أزمة وبائية عالمية غير مسبوقة، أبانت عن حجم الأعطاب الاجتماعية ودرجة الخصاص التنموي. وفي هذا الصدد، نرى أن “لجنة بن موسى” كانت محظوظة، لأن جائحة كورونا منحتها فرصا أخرى للملاحظة والتفكير والتأمل لاستخلاص ما يمكن استخلاصه من دروس وعبــر ما كان لها أن تبـرز أو تظهر بهذه القـوة لولا الجائحة التي كشفت عنــوة عن الأعطاب الظاهرة والعيوب المستتـرة، ويفترض أن تكون هذه الدروس والعبر حاضرة بدرجات ومستويات مختلفة فيما توصلت إليه اللجنة التنموية من خلاصات ومقترحات.
– ثالثا: إقدام السلطات العمومية على إغلاق المعبرين الحدوديين المرتبطين بمدينتي سبتة ومليلية المحتلتين في إطار ما تم تنزيله من إجراءات وقائية وتدابير احترازية، وهذا الإغلاق، وإن فرضته الجائحة الكورونية من حيث الشكل، فمن حيث المضمون والأبعاد، هو رؤيـة استراتيجية متبصرة ترمي إلى تخليص الاقتصاد الوطني عموما، ومدن وأقاليم الشمال خصوصا، من ورم “التهريب المعيشي” الذي شكل طيلة عقود من الزمن حربا ناعمة وغير معلنة على الاقتصاد الوطني، وقد برزت بسرعة تداعيات الإغلاق على السكان الشماليين الذين خرجوا إلى الاحتجاج في أكثر من مناسبة مطالبين بالشغل والكرامة، ويفترض أن تكون اللجنة التنموية، قد انتبهت إلى جائحة هذ التهريب المعيشي، وتوصلت إلى بعض الحلول الناجعة القادرة ليس فقط على تخليص المنطقة من هذه الجائحة المقلقة، بل والارتقـاء بمستوى تنميتها وإشعاعها، تعزيزا لبعدها الأورومتوسطي.
– رابعا: ما حققه المغرب من مكتسبات دبلوماسية غير مسبوقة كرست مغربية الصحراء باعتراف أمريكي تاريخي، وبإقبال متواصل للأشقاء والأصدقاء على “دبلوماسية القنصليات”، مما رفع ويرفع من قدرات المغرب الاقتصادية والاستراتيجية، ويجعل من الصحراء المغربية منطقة جذابة للتجارة والاستثمار، ومنصة مينائية أطلسية رائدة متفتحة على إفريقيا وأوربا وأمريكا وباقي العالم.
– خامسا: ما أطلقه جلالة الملك محمد السادس من خطط رائدة للنهوض بمستوى الاقتصاد الوطني، بما يضمن تعافيه من تداعيات أزمة كورونا، ومن مشاريع وازنة تروم الارتقاء بمستوى التنمية البشرية والاجتماعية، ونخص بالذكر إعطاء انطلاقة “مشروع الحماية الاجتماعية” الذي يعد ثورة اجتماعية حقيقية يقودها الجالـس على العرش بنجاعة وتبصـر.
– سادسا: ما تمر به العلاقات المغربية الإسبانية من خلاف وتوتر غير مسبوق، بسبب تورط الحكومة الإسبانية في مؤامرة وفضيحة “بن بطوش”، التي أبانت عن حجم ودرجة المشاكل والتحديات التي تهدد الوحدة الترابية للمملكة، خاصة من جهة جيران السوء بالشرق، مما يفرض اليقظة المستدامة والرهان على التعبئة الجماعية ووحدة الصف، للتصدي بحزم لكل أشكال المناورة والابتزاز ضد المصالح العليا للوطن، موازاة مـع تحصين دينامية الإصلاح والتحديث وضمان ديمومتها.
وإذا كان من المبكر النبش في حفريات ما توصلت إليه “اللجنـة التنموية” من خلاصات ومقترحات، أو الخــوض في تفاصيل هوية النموذج التنموي الجديد، فلا يمكـن لنا إلا تثمين الدينامية الإصلاحية والتنموية التي انخرط فيها المغرب منذ بدايـة العهد الجديد، والتنويه بالنفس التنموي الطويل والعميق للملك محمد السادس، الذي برزت معالمه الأولى بإطلاق “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية” سنة 2005، مرورا بعدد من المحطات التنموية الكبرى والرائدة، من قبيل بناء “ميناء طنجة المتوسط” و”مشروع بناء ميناء الناظور غرب المتوسط”، ومشروع “الحسيمة منارة المتوسط” وإعطاء الانطلاقة لمشروع “القطار فائق السرعة”، و”توسيع دائرة شبكة الطرق السيارة والطرق الوطنية”، وإعطاء انطلاقة واحد من أكبر المشاريع الطرقية في إفريقيا والعالم العربي، ويتعلق الأمر “بالطريق الرابط بين تزنيت والداخلة” الذي يعد بوابة المغرب وأوروبا نحو الأسواق الإفريقيـة الواعدة، و”المشاريع المرتبطة بالإقـلاع الصناعي” التي جعلت من المغرب منصة عالمية لعدد من الصناعات وعلى رأسها السيارات والطيران.
ينضاف على ذلك الخطط والاستراتيجيات المتعلقة بتثمين الموارد الطبيعية الوطنية، من قبيل برنامج “الجيل الأخضر” و”استراتيجية غابات المغرب” و”البرنامج الوطني للتزويد بالماء الشروب ومياه السقي”، واستراتيجية الارتقاء بقطاع التكوين المهني عبر “برنامج مدن المهـن والكفاءات”، والمشاريع المرتبطة بالنموذج التنموي للصحراء، ومنها مشاريع بناء موانئ “الداخلة” و”امهيريـز” و”لكويـرة” التي ستكرس المغرب قوة تجارية أطلسيـة ذات إشعاع إفريقي ودولي، والمشاريع الرائدة عالميا ذات الصلة بالطاقات البديلـة وعلى رأسها محطة “نور ورززات” للطاقة الشمسية، التي تعد واحدة من أكبر محطات إنتاج الطاقة الشمسية في العالم، دون إغفال عدد من المشاريـع التنموية المرتبطة بتجويـد البنيات التحتية وتأهيل المدن، وما تمت مباشرته على امتداد العقدين الأخيرين من إصلاحات مؤسساتية وقانونية، لايسـع المجال لاستعراضها، وعلى رأسها تبني “دستور جديد” شكل خطوة مهمة في مسلسل تدعيم البناء الديمقراطي والحداثي والحقوقي.
وستبلغ الاستراتيجية التنمويـة للملك محمد السادس مداها من خلال إحداث “صندوق محمد السادس للاستثمار” الذي يعول عليه للنهوض بمستوى وقدرات الاقتصاد الوطني في ظل ما تعرض له من هزات بسبب جائحة كورونا، وخاصة فيما يتعلق بإطلاق مشروع “الحماية الاجتماعية” الذي يعـد “ثــورة ملكية اجتماعية بامتياز رائدة في إفريقيا والعالم العربي”، ترمي إلى المضي قدما في اتجاه تمتيـع جميع المغاربة بالحق في التغطية الصحية والحماية الاجتماعية في أفق سنـة 2025، بكل ما لهذه المنجزات والمشاريع الآنية والمستقبلية من تأثيرات مباشرة على مستوى التنميـة البشرية التي يرتقب أن تتحسن مؤشراتها في ظل هذه الدينامية الإصلاحيـة والتنموية، ليتواصل قطـار التنمية الشاملة بالدخول في صلب “نموذج تنمــوي جديد” جاء بناء على رؤيـة ملكية متبصـرة، تحكمت فيها الرغبة في تجـاوز ما أبانت عنه الممارسة التنموية طيلـة عقـود من اختلالات وأعطاب ومشكلات اجتماعية عمقت بــؤر التباينات المجالية والتفاوتات الاجتماعيـة بشكل توسعـت معه دائرة الفقر واليأس والإحبـاط والإقصاء وسط فئات اجتماعيـة عريضـة، وبشكل يقلل من قيمة وشأن ما تـم تحقيقه من إصلاحات ومشاريع تنموية كبـرى يعترف بها الأعداء قبل الأصدقاء، مما جعل من التجديد التنموي “ضـرورة قصـوى” أطلق الملك “محمد السـادس” عنانهـا بحكمة وتبصر.
ومهما كانت القيمة الاقتصادية أو الاجتماعية أو التنموية أو الاستراتيجية لهـذا “النموذج التنموي الجديد”، فلا يمكن أن يحقق ما رسم له من أهداف وما وضع له من مقاصد وغايات، ما لم تتم إحاطته بتربة خصبة وبمناخ مناسب وآمن يمنح له فرص الاستمرارية والحياة. وبعبارة أوضح، فهذا النموذج الذي يعول عليه لكسب رهان التنمية الشاملة، يتطلب عدة شــروط موضوعية متعددة الزوايا، نلخص بعض عناوينها فيما يلي:
– ضرورة توفـر الإرادة الحقيقية في محاربة كل أشكال العبث والفسـاد الإداري والاقتصادي والسياسي، وتطهير البيت السياسي، وتحديدا البيت الحزبي، من كل الممارسـات المكرسة للعبث والانحطاط والنفـور السياسي والعزوف الانتخابي.
– الرهان على ما تزخر به الدولة من خبرات وكفـاءات في الداخل كما في الخـارج، لأن مغرب الغد أو “مغرب النموذج التنموي”، يقتضي القطـع مع واقع الولاءات والترضيات والتزكيات وجبر الخواطر والعلاقات في إسنـاد المسؤوليات والمناصب العليا.
– تكريس ثقافـة ربط المسؤولية بالمحاسبـة، وتفعيل آليـات عدم الإفــلات من العقاب، والمضي قدما في اتجاه تحصين القضاء وكسب رهان استقلاليته، بما يضمن إدراك دولة الحق والقانون والمساواة والعدالة الاجتماعية.
– تفعيل أدوار مختلف الأجهزة المعنية بالحكامة الجيدة ومحاربة الفسـاد، التي لا بد أن تتحمل مسؤولياتها الدستوريـة في تعقب الفاسدين والعابثين، في ظل قضاء حر ومستقل ونزيـه وعـادل.
– الرهان على التطوير والتجويـد المستدام للمنظومة التربوية بكل مستوياتها، التي تعد مدخلا وحيدا وأوحدا لصناعة الإنسـان/المواطن، الذي يتفاعل إيجابـا مع ما يعرفه البلد من دينامية تنمويـة وما يواجهه من رهانات وتحديات، بما يلزم من المسؤولية والتضحية والوفـاء والالتزام والتضامن والجاهزية والاستعداد والمبـادرة.
– ضرورة الرهان على إرساء منظومة إعلامية وطنية مهنية وأخلاقيـة تساهم في الارتقاء بمستوى الأذواق والقيم، وتتحمل مسؤولياتها المواطنة في مواكبة مختلف المشاريع التنموية التي ستعطى انطلاقتها بمناسبة هذا النموذج التنموي الجديد، وتوجيه البوصلة نحو ما قد يعتريها من مشكلات أو تعثرات، موازاة مع الانخراط الفعلي في الإشعاع الدبلوماسي الخارجي، وما يفرضه من يقظة ومن مواكبة وحضور مسؤول ووازن، بشكل يسمـح بالتصدي لكل المناورات والمؤامرات التي تحاك ضد الوطن.
هذه الشروط وغيرها، نشـدد على ضـرورة حضورها من أجل ضمان حمايـة هذا المشروع التنموي غير المسبوق في تاريخ المغرب، استحضارا لما نعيشه اليـوم من مشكلات اجتماعية وتنموية عويصـة، تقوي مشاعر اليأس والسخط والإحباط، وأحاسيس الهروب والنفور من الوطن كما حدث في مشاهد سبتة المحتلة، وحرصا على ألا نقـع في أيـة انتكاسة تنمويـة، تستدعي بعد سنـوات التفكير في نموذج تنموي بديل، بكل ما لذلك من تداعيات اجتماعية واقتصادية، ومن هـدر لزمن الإصـلاح، وخاصة من هدر للمال العـام، الذي لا بد أن تتم إحاطتـه بما يلزم من الحمايـة، وأن يتم تسخيـره واستثمـاره بما يخدم المغاربـة ويقوي من قدرات الوطن.
وإذا كان الإفراج عن النموذج التنموي الجديد يتزامن مع ما يسود العلاقات المغربية الإسبانية من خلاف وتوتر غير مسبـوق، فنـرى أن أحسن رد على الأعداء وخصوم الوحدة الترابية وعلى من مازال وفيا لخطة “ازدواجيـة المواقف”، هو إشهار “سـلاح التنمية” في وجه كل الحاسدين والطامعين والمتربصين والمشوشين والمترددين، وهذا يضعنا أمام أربـع رسائل معبرة:
– رسالة أولى مربكـة للأعداء الخالدين في الشرق، الذين يستنزفون الطاقات والخيرات الذاتيـة لاستهداف مصالح ووحدة وأمن واستقـرار بلد جار عربي إسلامي، ولا يجدون حرجا أو حيـاء وهم يضعون اليد في يد دول أخرى كإسبانيا، ويتورطون معها في مؤامرة حقيرة ومفضوحة لإشباع حقدهم وكراهيتهم للمغرب، بدل أن “يلعنوا الشيطان” ويحتكمون إلى سلطة العقل وعين الحكمة، بالتخلص من وهم الانفصال، وتسخيـر الإمكانيات المتاحـة لوضع الشعب الذي خرج إلى الشوارع في صلب التنمية والرخاء والازهـار، ولمد اليد بسخاء وبحسـن نية نحـو بلد جار شقيق، لن يكون إلا أخا شقيقا وفيـا ومخلصا ومتعـاونا لما فيه خيـر الشعبين الشقيقين المغربي والجزائري. وفي ظل غباء وتهـور النظام القائم، نتمنى أن يظهر في الجارة الشرقية حكماء وعقلاء، يحفظون ماء الوجـه ويصوبون الرؤية ويصححون المسار.
– رسالة ثانيـة موجهة إلى الإسبـان، مفادها أن المغرب ماض بثقة وسداد وتبصـر في استراتيجيته التنمويـة، بما يضمن تقوية قدراته الاقتصادية والاجتماعية والبشريـة، كما هو ماض في نهـج دبلوماسية حكيمة ومسؤولة ومتبصرة مع الأشقاء والأصدقاء مبنيـة على قيم الأخوة والصداقة والوحدة والاستقرار والسلام والتعاون المشترك، وعلى قواعد المكاسب والمصالح المتبادلة وفق قاعدة “رابح-رابح”، وفي إطار الاحترام التام للوحدة الترابيـة للمملكة، ولم يعد قادرا على تحمل المزيد من الابتزاز أو الاستفزاز. والجيران الإسبان، لا مناص لهم من التخلص من عقد التاريـخ المفعم بمفردات الحقد والعنصريـة والكراهية والأنانية، واستيعاب أن “مغرب اليوم ليس كمغرب الأمس”، وأن “الصحراء المغربيـة” باتت القاعدة الصلبة التي تتأسس عليها أيـة رؤيـة للشراكة سواء مع إسبانيا أو مع غيرها.
– رسالة ثالثة إلى “الاتحاد الأوربي” الذي لا بد له أن يستوعب المتغيرات الإقليمية التي تشكلت معالمها بقوة بعد “أزمة الكركرات”، وخاصة بعد الاعتــراف الأمريكي بمغربية الصحراء، وهو مدعو إلى التنازل عن خطاب الكبرياء والابتزاز “الناعم”، والانخراط الذي لا محيد عنه في “دبلوماسية القنصليات” بدون قيد أو شـرط، وإعطاء نفـس جديد لما يربطه مع الرباط من علاقة تاريخية واقتصادية وأمنية واستراتيجية في إطار من الاحترام والتقدير والوضوح والشفافية والتــوازن.
– رسالة رابعة وأخيرة إلى الجارة الجنوبيـة الشقيقة موريتانيا، التي لا بد لها أن تستوعب بدورها المتغيرات الجديدة التي فرضتها الدبلوماسية المغربية المتبصرة، وتتأمل بحكمة وواقعية “القوة المتنامية للمغرب في إفريقيا”، وما يمكن أن تجنيـه نواكشوط من خلال تقاربها وتعاونها مع جار شقيق ومسؤول من حجم المغرب من مكاسب اقتصادية وثقافية وأمنيـة واستراتيجية وتنمويـة تعزز إشعاعها الإفريقي، خاصة في الغرب الإفريقي، ولها أن تدرك ضريبـة التعويل على نظام “آل بطوش” المفلـس، الذي انكشفت سـوءته أمام أنظار العالم، وهو يتورط في فضيحـة كبرى بكل المقاييس، غابت فيها الدولة المسؤولة والرصينة والمتزنـة، وعوضها واقع العصابات الإجرامية وقطـاع الطرق. ويبدو أن الجارة الشقيقة موريتانيا بدأ يتجلى لها الخيط الأبيض من الخيط الأسود في علاقاتها مع جيـران السوء، واستوعبت ما بات عليه المغرب من قوة وهو يجابه دولا أوروبية من حجم ألمانيـا وإسبانيا دفاعا عن مصالحه الاستراتيجية، ونـرى أن زيارة وزير الخارجية الموريتاني إسماعيل ولد الشيخ أحمد إلى المغرب يوم 24 ماي الجاري، في سياق أزمة الرباط مع مدريد، ولقائه بنظيره المغربي “ناصر بوريطة” محملا برسالة من الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني إلى جلالة الملك محمد السادس، هي خطوة رصينـة يستشف من خلالها أن “نواكشوط” اقتنعت أو بدأت تقتنـع بأن مصالحها الاقتصادية والأمنية والاستراتيجية مع الرباط. وباستقراء كلمة الوزيرين أمام وسائل الإعـلام، يبـدو أن هناك طموحا مشتركا بين الطرفين في تقوية العلاقات السياسية بينهما، والارتقاء بها إلى آفاق أخرى من التعاون، خاصة على مستوى المبادلات التجاريـة والاستثمارات والتعاون الثقافي وغيرها، في أفق بناء شراكة استراتيجية بين البلدين الجارين تتحقق معها أهداف التنمية والازدهـار، ومقاصد الوحدة والأمن والاستقرار والسلام. ويرتقب في قادم الأيام أن تخطو نواكشوط خطوات إيجابية بخصوص الموقف من قضية الوحدة الترابية للمملكة، انسجاما ومصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، واعتبارا للمتغيرات الإقليمية القائمة، وإدراكا منها أن أية شراكة استراتيجية مع الرباط، لن تخرج إلى حيز التفعيل والتنزيل إلا عبر “التعبير عن موقف موريتاني صريح بخصوص مغربية الصحراء”، يعبد لها طريق الانضمام إلى قطار “دبلوماسية القنصليات”.
وما جنته هذه الدبلوماسية المغربية، خاصة بعد أزمة الكركرات، من مكاسب ترابيـة كرست مغربيـة الصحراء، ومن علاقات اقتصادية واستراتيجية وازنـة، منـح الرباط ما يكفي من الحزم والجرأة والقـوة لمواجهة ومجابهـة بعض الدول الأوروبيـة كإسبانيا وألمانيا التي تمادت في أعمال العداء والاستفزاز، وما أحدثه المغرب من زوبعـة سياسية وإعلامية في الداخل الإسباني وصل صداها إلى البيت الأوروبي بسبب فضيحـة “بن بطـوش”، هو مؤشر من ضمن مؤشرات أخرى تمت الإشارة إلى بعضها سلفا، يتقاطع فيها التاريخي بالدبلوماسي والاقتصادي بالتنموي والأمني بالاستراتيجي، تضعنا أمام “قــوة إقليمية مغربيـة إفريقية”. هذه القوة لم يتم إدراكها بالصدفة، بل هي نتـاج ما حققه المغرب بقيادة جلالة الملك محمد السادس خلال العقدين الأخيرين من دينامية اقتصادية وتنمويـة، ومن إصلاحات وأوراش كبـرى، ومن سياسة إفريقية وازنة كرست المغرب كثاني مستثمر في إفريقيـا، ومن نجاعة دبلوماسية متبصرة غيرت المعادلات والأرقـام في المنطقة، وسحبت البساط من تحت أقـدام بعض الدول الأوروبيـة كإسبانيا، التي استيقظت على جـار بات أكثر قوة وأكثر عنادا وأكثر إزعـاجا، وهذا الواقع الجديد يفرض تغيير اللهجة والخطاب والتعامل مع الرباط بما يليق بها من الاحترام والوقار والمسؤوليـة والتــوازن، بعيدا عن “أوهام ابتـزاز” لم يعد له مكان ولا زمان.
هي إذن هندسة ملكية متبصرة، جمعت وتجمع بشكل أنيق ورصين بين ثنائيـة “التنمية الشاملة” و”الدبلوماسية الناجعة”. وبهذه الثنائية، تحول مغرب اليوم إلى “قوة إقليمية” بعمق إفريقي وحضور عربي وإشعاع واحترام دولي في ظل اعتراف أمريكي تاريخي بمغربية الصحـراء، وهذا التموقع الجديد المزعج للجيران يقتضي التعبئة الجماعية وتوحيد الجبهة الداخلية والالتفاف حول ثوابت الأمـة المغربية ذات التاريخ العريق والحضارة الضاربة في القدم، في معركة تعزيز الوحدة الترابية وإدراك السمعة والكرامة والعزة والقرار السيادي الاقتصادي والتنمية الشاملة، وحماية الخيرات الوطنية والدفاع عن المصالح العليا والاستراتيجية للوطن، في ظل إصرار الأعداء والخصوم على التمادي في سياسة الاستفزاز والابتزاز والاستعلاء، ونحن نثمن القوة المتنامية للمغرب، ندرك في الآن ذاته، ما نعيشـه من مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية وتنموية، لكن لما يتعلق الأمر بالوطن وقضايانا الاستراتيجية، فنحن، أفرادا وجماعات، نتحمل مسؤولية التصدي لكل المناورات والدسائـس والمؤامرات التي تحاك ضد الوطن، ونــرى أن الفرصة مواتية أكثر من أي وقت مضى من أجل حسن استثمار ما وقعت فيه الجارة الشمالية من خطأ استراتيجي وهي تورط نفسها في مؤامرة “بن بطــوش”، من أجل انتزاع المزيـد من المكاسب الدبلوماسية التي من شأنها تحصين الوحدة الترابيـة وتعزيـز المصالح العليا للوطن، وتكريس المغرب قوة إقليمية قـادرة على فرض علاقات شراكـة متـوازنة مع الشركاء الأوروبييـن مبنية على قيـم التعاون البناء والاحتـرام المتبـادل وحسـن الجوار، كما نتحمل المسؤوليـة الفردية والجماعية في كسب الرهانات والاختيارات الاستراتيجية للنموذج التنمــوي الجديد، الذي يعـد طريقـا سيـارا نحـو “مغرب جديد” قوامه المسؤولية والإقلاع الشامـل، و”ثــورة تنمويـة كبرى” من شأنها ترصيـع قـلادة منجـزات جلالة الملك محمد السادس .. مهنـدس التنمية والدبلوماسيـة. ونختم بأن نتمنى من الله عز وجل أن يقي الوطن شر الأعـداء الحاسدين والمتربصيـن والمشوشيـن، وكل عام والوطن بألف خيـر.