رفضا للانحياز إلى الغياب والتواطؤ مع التغييب، يجمع الأكاديمي والشاعر المغربي محمد بنيس، في كتاب جديد، مقتطفات عديدة من كتب، ونصوص سردية وشعرية، ومقالات، وأبحاث، بأقلام خطتها في القرنين الماضي والحالي من مختلف أنحاء العالم، تتحدث عن فلسطين، وتبرز عمق “القضية الفلسطينية”، والتغلب الذي سلب حقوق الشعب الفلسطيني والشعوب المرتبطة به، ومسار “الظلم والحرب المستمرة” الذي سلكه المجتمع الإنساني باختياره “القوة والمصلحة” بدل “المبدأ”، بالانحياز إلى الاحتلال.
وعنون بنيس كتابه الجديد، الصادر في 424 صفحة عن المركز الثقافي للكتاب للنشر والتوزيع، بـ”فلسطين ذاكرة المقاومات”، وأهداه “إلى عبد الكبير الخطيبي… الأنثروبولوجي والروائي المغربي الراحل، الذي هو |المفكر المغربي الذي خص فلسطين في السبعينيات بكتاب”.
ويسترسل بنيس في حديثه عن كاتب “الصهيونية واليسار الغربي” قائلا: “بل إن كتابه، الذي صدر سنة 1974 وواجه فيه دموع الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر على إسرائيل، ترك أثرا استثنائيا في الأوساط الفرنسية والغربية، إلى حد أن دور النشر الفرنسية امتنعت عن نشر طبعة ثانية منه”، وبالتالي “يستحق مني إهداء الكتاب إليه، تقديرا لعمل يظل حتى اليوم متفردا في محاكمته للإيديولوجية الصهيونية وموقفه الصريح من الانتصار للقضية الفلسطينية”.
ويتضمن كتاب “فلسطين ذاكرة المقاومات” اقتباسات ونصوصا، مما نشره مفكرون وكتاب، من بينهم: عبد الكبير الخطيبي، جاك دريدا، محمود درويش، إدموند عمران المالح، إدوارد سعيد، عبد الله العروي، مكسيم رودنسون، جيل دولوز، فدوى طوقان، قسطنطين زريق، غسان كنفاني، شلومو صاند، جيمس بالدوين، مريد البرغوثي، أشيل مبيمبي، إميل حبيبي، معين بسيسو، إيلان بابي، إلياس خوري، نعوم تشومسكي، وغيرهم.
ويكتب محمد بنيس أن أهمية المقاطع الواردة في المؤلف تكمن “في ما تزودنا به من معلومات أو حقائق أو مواقف، تتحول في الكتاب إلى كوكبة نجوم تدل المسافر، في ليل الدعاية الصهيونية المتوارثة، على فضح الأكاذيب الإسرائيلية وجرائمها العنصرية، مثلما تدل على فلسطين التاريخية، الواقعية، التي صنعها أبناؤها وقاوموا من أجلها”، في ذاكرة مقاومات متعددة “تمتد عبر الأزمنة مثلما هي منفتحة على المستقبل”.
ويذكر بنيس، في مدخل كتابه، أنه قد اعتمد في اختيار النصوص على “كتابات مؤلفين ومثقفين لهم مكانتهم الاستثنائية في الدفاع عن رؤية منفتحة وعادلة للحق الفلسطيني”، ثم يزيد: “وإذا كنت أعطيت مكانا موسعا لكتاب يضيئون مقاومات الشعب الفلسطيني، وهو القصد من تأليف هذا الكتاب، فإن ما تعبر عنه النصوص المختارة لبعض الكتاب اليهود، غربيين وإسرائيليين، من الداعمين للحق الفلسطيني، طاقة إضافية للإيمان ببقاء اسم فلسطين حاضرا في الضمير الإنساني”، مذكرا في الآن ذاته بدأب حركة اليسار العربي منذ السبعينيات على “التحذير من الخلط بين اليهودي والصهيوني، أو بين حق الفلسطينيين ورفض الإسرائيليين”.
ومن بين ما يجده القارئ، في هذا المؤلف، اقتباس من نص للأكاديمي مكسيم رودنسون، يقول: “أعتقد أن أي ذهن متحرر من التعميمات الإيديولوجية لا يستطيع أن ينكر (…) أن النزعة القومية الصهيونية، مهما كان رأي المرء في شرعية فكرة الدولة اليهودية، قد تجسمت في خيارات عملية تؤدي بالضرورة إلى اضطهاد شعب آخر”، ويضيف: “ولذلك، يجب الاعتراف بأن مقاومة الفلسطينيين لهذا المسار التاريخي تندرج في عداد الحركات القومية للشعوب المقهورة، ويجب أن يؤيدها جميع الذين آلوا على أنفسهم أن يجابهوا الاضطهاد القومي، وإلا لكان موقفهم متهافتا على المستوى الفكري، ومنحرفا على المستوى الأخلاقي”.
ويتذكر المستشرق لويس ماسينيون آخر مقابلة له مع يهودا ليون مانيس، الرئيس الأول للجامعة العبرية في القدس، ورغبته في “عدالة الله، وعن تفتت قلبه أمام التوله المادي للصهيونية الاستعمارية، وعن اعتقاده الراسخ بالكوارث المحدقة، لأن شريعة إسرائيل عاقبت على الدوام الرؤساء المخلين بقواعدها عندما عملوا على أن يعبد شعب الله معبودات من الذهب والدم”، ويزيد: “كان يطالب للإسلام والعرب بالمساواة، وكان ينكر التقسيم الظالم للأرض المقدسة، التي هي مقدسة لدى الأديان الثلاثة الكبرى”.
ومن بين ما يتضمنه الكتاب “صرخة”، تصلح بيانا للاتصال بين الأقطار عربية اللسان ونموذجا للاعتبار لغاضي طرفهم عن “المأساة الفلسطينية”. هذا النص خطه للأديب والمربي خليل السكاكيني، سنة 1925، وتحدث فيها عما يقال عن تفتق القرائح عقب “الحوادث الكبرى” وخلقها الشعراء والأدباء والموسيقيين، وأن “أجمل الأغاني وأبلغ الشعراء، وأحسن فصول الأدب ظهرت في الحوادث الكبرى”.
ويسترسل الكاتب قائلا: “جاهد ابن عبد الكريم بطل الريف ست سنوات نازل فيها أربعمائة ألف جندي من جنود فرنسا وإسبانيا في سبيل حرية بلاده، وأبلى فيها البلاء الحسن، فكنا نكتفي من قراءة أخباره بإمرار النظر كأن أمره لا يعنينا، بل ما أردنا أن يقوم فينا اليوم من يعتب عليه لأنه استنفد قواه فعجز فسلم”، ثم يجمل قائلا: “أيها الشعراء أيها الأدباء أيها الموسيقيون، إذا لم تؤثر فيكم هذه الحوادث الكبرى فتفتق قرائحكم وترهب ألسنتكم وأقلامكم فتؤثروا على الأمة، فأنتم والأمة أموات في أموات، وما لجرح بميت إيلام”.
ومن هذا التحذير لأصحاب الأقلام ومن لهم قدرة على الإفهام، إلى تأريخ المؤرخين مثل البريطاني الإسرائيلي إيلان بابي، الذي تحدث عن “البيت الأحمر” في تل أبيب، واجتماعات مليشيا “الهاجاناه” الصهيونية به، وخطة التطهير العرقي التي وضعت لمساتها الأخيرة داخله، لترسل بعد ذلك “أوامر إلى الوحدات على الأرض لتهيئ الطرد المنهجي للفلسطينيين من أنحاء واسعة من البلاد. (…) مرفقة بوصف مفصل للطرائق التي يجب استعمالها لإفراغ السكان بالقوة: الإهانة الساحقة، محاصرة ونهب القرى والأحياء، إحراق البيوت، الممتلكات، السلع، الطرد، الهدم ووضع كمائن في الأنقاض لمنع المطرودين من العودة”.
أما الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز فيقول في “فلسطين ذاكرة المقاومات” إن “الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا أرادوا أن يكفروا عن الخطأ لليهود”، وهو تكفير “فرضوا أداءه على شعب أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه لم تكن له أي صلة بما حصل لليهود، فهو على الخصوص بريء من أي محرقة بل هو لم يسمع حتى بها”.
“هنا تبدأ البشاعة، بقدر ما يبدأ العنف”، يزيد دولوز، حيث إن “الصهيونية، منذ قيام إسرائيل، لا تكف عن نكران حتى واقع وجود الشعب الفلسطيني. لم يتم الحديث أبدا عن الفلسطينيين، بل عن الفلسطيني، كما لو أنهم وجدوا بالمصادفة أو عن طريق الخطأ (…) هنا تبدأ قصة خيالية ستنتشر أكثر فأكثر، وستضغط على كل من كانوا يدافعون عن القضية الفلسطينية (…) هذا الرهان الذي اعتمدته إسرائيل، كان القصد منه هو أن تصف بالمعادين للسامية كل الذين قد يعترضون على أوضاع الواقع وعلى أفعال الدولة الصهيونية”.
في الحين ذاته، يسجل دولوز، في اقتباس آخر أورده الكتاب، أنه كلما كانت جميع الفرص أو الحل، أو عناصر للحل، في الإمكان، عمل “الإسرائيليون بعزم، على تدميرها عمدا. كانوا يتشبثون بموقفهم الديني الرافض، ليس فقط للحق، بل للواقع الفلسطيني”، و”كانوا يغسلون إرهابهم الذي قاموا به بمعاملة الفلسطينيين بأنهم إرهابيون قدموا من الخارج”.
مثل هذا “المنطق الصهيوني”، يشرح خطابه عالم الاجتماع والإناسة عبد الكبير الخطيبي في اقتباس بكتاب بنيس، يذكر فيه أن الصهيونية في مواقفها الأساسية “تقترح أحد اختيارين”؛ فـ”الصهيوني يخاطبنا (نحن القراء): إما أن تكونوا متفقين معي، وفي هاته الحال ترفع عنكم كل شبهة، أو تكونوا غير متفقين، وفي هذه الحال إما أن تجاهروا بعداوتكم لليهودية أو تضمروها”، إلى أن يقول: “الصهيونية تصر على إخفاء الآخر كي تخرج من المنفى الذي توجد فيه، حتى ولو أدى بها الأمر إلى أن تمحو وجه الفلسطينيين وتنزع عنهم اسمهم الخاص”.
ومن بين مناحي هذا الخطاب ما يسلط عليه الضوء الروائي والناقد المغربي إدمون عمران المالح، مبرزا كون “سوء استعمال اللغة” راجعا أساسا إلى “الأوساط القيادية الإسرائيلية، وعلى رأسها مناحيم بيغن”، حيث “يشبه منظمة التحرير الفلسطينية، والشعب الفلسطيني، وقادته، بهتلر وزبانيته النازيين (…) كما يشبه الأعمال التي تتم في إطار مقاومة مشروعة بالأوصاف والنعوت نفسها”.
ويسمي إدمون عمران المالح السياسة الإسرائيلية من “فعل طرد الفلسطينيين من أراضيهم، وتحطيم مئات القرى من أجل إيواء المعمرين الإسرائيليين، وإبعاد سكان بكاملهم، وزرْبهم في الحظائر، والحكم عليهم بالعيش في المخيمات”، بكلمة واحدة، هي: “تصفية الشعب الفلسطيني باعتباره هوية وطنية، واختزال ما تبقى منه إلى كتلة لاجئين دون أرض ولا روح ولا وجه”. كما يتحدث عن “سياسة الإرهاب البوليسي المتبعة في الأراضي المحتلة، التي تجمع بين السجن والحرمان من الحقوق والتعذيب، وأخيرا تدخل الجيش ضد المتظاهرين، والمراهقين، والأطفال، والمؤمنين المجتمعين في المساجد”.
هذه السياسة الإسرائيلية، أو هذا “المشروع الإسرائيلي للميز”، يرى المفكر الكاميروني أشيل مبيمبي أن مقارنته باستعارة “الأبارتايد” (نظام الميز العنصري بجنوب إفريقيا) غير كاف؛ لأن هذا المشروع يرتكز، أولا، على “قاعدة ميتافيزيقية ووجودية خاصة جدا. والمصادر القيامية والكارثية التي يتضمنها أعقد بكثير وأكثر تجذرا في زمن أطول من جميع الأزمنة”.
كما أن الطابع العالي لتقنية المشروع الإسرائيلي على الجسد الفلسطيني، يزيد مْبيمْبي، هو “بكل وضوح أشرس من العمليات شبه البدائية التي اتخذها نظام الأبرتايد في جنوب إفريقيا بين 1948 وبداية 1980. والشيء نفسه ينطبق على ضآلة عنف الأبارتايد، بنظام سجنه وتحجيمه بل وتقنياته للمحو المادي والرمزي على السواء”؛ بينما يعمل المشروع الإسرائيلي لـ”هدم كل شيء تقريبا: البنيات التحتية، البيوت، الطرق، المناظر الطبيعية. وميزة دينامية الهدم الإجباري هي تحويل الفلسطينيين إلى ركام من الخرائب وكومة من النفايات، محكوم عليها بالتطهير”، في حين “لم تصل أبدا أكداس الخرائب في جنوب إفريقيا إلى مثل هذا الحجم”.
أمام هذا الواقع الفلسطيني، يتساءل الشاعر محمود درويش، بعد زيارته “غزة (التي) هي العزة”، والتي هي الحاضرة الفلسطينية المحاصرة التي نعتها بـ”مدينة البؤس والبأس”: “أي داهية قانوني أو لغوي يستطيع صوغ معاهدة سلام وحسن جوار بين قصر وكوخ، بين حارس وأسير؟”.
ويقف الشاعر محمد بنيس، في نص من نصوصه المقتبسة بالكتاب، عند فلسطين التي لم يعشها “كمكان، أو كذكرى، أو كتشرد دائم، أو كعذاب يومي”، بل عاشها “كجرح علني”؛ فـ”حرب الإبادة التي تعرض لها الفلسطينيون، تعني تجريدهم من الحق في الوجود، فيما الجرح إما أنه يوحي بما يتهدد المصير العربي ذاته وما يتعرض له من مخاطر الدمار، أو أنه من المحتمل أن يتحول إلى لطخة مضيئة في مسار الحياة. فلا السؤال يغيب ولا الجرح”.
أمام هذا الواقع الجرح، يكتب بنيس في مؤلفه، الذي خصصه لـ”ترسيخ ذاكرة المقاومات، من أجل فلسطين والفلسطينيين”، أن إسرائيل إذا كانت “غير معنية باستشارة أحد في إبادة الفلسطينيين، فإن المقاومة بدورها حرة في الوقوف ضد سياسة إسرائيلية تتحدى، منذ نشأتها، الضمير العالمي”.
ويقف بنيس عند الوعود السماوية التي تسلب حقوق الناس على الأرض، كاتبا: “أتى الإسرائيليون بوعْد سماوي، ومنه عادوا ليوزعوا الأرض من جديد. ما الذي كان سيحدث لو أن كل شعب من الشعوب قام اليوم بإعادة بناء الدولة وفق ما كانت عليه في التاريخ القديم؟”، ليجمل قائلا: “بين الفلسطينيين الآن وبين الأزمنة الماضية هذا التاريخ الذي لم يغادروا فيه فلسطين ولا غابوا عنها”.
واختتم بنيس كتابه “فلسطين ذاكرة المقاومات” بأبيات درويشية عن العزم على قطع الطريق الطويل إلى آخره “إلى آخر القلب أقطع هذا الطريق الطويل الطويل الطويلْ… / فما عدت أخسر غير الغبار وما مات مني، وصف النخيل”، إلى أن تصدح الكلمات التي أوقظت عاطفتها وحسها: “أقول: سأقطع هذا الطريق الطويل الطويل إلى آخره… وإلى آخره”، أو بتعبير آخر، خطه بنيس في مدخل الكتاب حول “صفقة القرن” وما بعدها: “لن تزيل اسم فلسطين؛ لأن الشعب الفلسطيني موجود. واعتراضه بكلمة. لا. على كل ما يهيئه المعرض، تأكيد على أن المقاومة باقية، وفلسطين، رغم عزلتها اليوم، حاضرة ستبقى، اسما، شعبا، تاريخا، مصيرا”.