نحن لم نعش الحياة، الحياة هي التي عاشتنا، بنفس الطريقة التي يرشف فيها النحل الرحيق، نرى، نتكلم، ونحيا. الأشجار تنمو، بينما نحن ننام. (فرناندو بيسوا)
ظُهْرَ الجمعة الثانية من شهر أبريل الجاري سِرتُ إلى مقبرة الشهداء، كمشّاء نحو المستقبل. نزلتُ من شارع المقاومة، بحيّ المُحيط، إلى باب لَعْلُو. من بعيد، لمحتُ امرأة تكفكف الدّموع ورجالاً يحملون نعشاً، عند قوسٍ محفورٍ في حائط. كانت تلك الكوّة، المُطلّة على الأطلسيّ، بوابةً خلفيّة للمقبرة، وكان الحفّارون يُقعِّرون في التّراب ويحفرون. والمتسوّلون والسقّاؤُون، رفقة بعض الكحوليين المتشرّدين، يتناولون الكسكس من قصعة فخّاريّة، فوق لَحْدٍ شاحب، عند جَدَثٍ متهالك. كنتُ قد قضيتُ أسبوعين بمرّاكش، في ضيافة الصديق الفنان التشكيلي عبد الرّحيم إقبي، رفقة أخيه الثائر الفوضويّ إبراهيم.
وخُضنا، من بين ما خضنا فيه، في حياة فرانشيسكو دي غويا وأعماله، في «طوّافة قنديل البحر» لثيودور جيريكو، وفي آلام محمّد خير الدّين المريرة قبل الدّفن. كان منتصف النهار، عندما وصلتُ الرّباط بالقطار، وتلاسنتُ مع شرطيّ منعني من دخول العاصمة بداعي حلول موجة كورونا الثالثة ولانتفاء السّبب. تلك قصّة أخرى. لكني دخلت.
أمّا زيارة المقبرة فقد بَيّتُ لها عشيّة السفر، وكان طَيْفُ الأديب المغربي محمّد خير الدّين (1941-1995) يتربّص بي. نعم، هذا الذي قال عنه سارتر إنه واحد من أفضل مُؤلّفي الفرنسية في المعمور، وقال عنه شكري إنه طائر، وقالوا عنه الطفل الرّهيب للأدب المغربي الفرانكفونيّ، دُفِنَ في المقبرة البحريّة بالرباط، المُسمّاة اليوم مدافن الشهداء، حيث رحتُ أفتّش عنه، عن شاهد قبر يتقطر القيء والقيح من على رخامته: هنا يرقد صاحب الفكّ المتورّم.
في الرباط، التي أصبحت عاصمة المغرب الحديث، بعدما نقل الاستعمار الإدارة من فاس درءاً للوثة التراث، هناك قعّر الحفّار هَوْتَةَ الشاعر..الرباط أكثر المدن التي كره العيش فيها؛ يكتب في يوميّاته الأخيرة: “(…) إنّ الحياة في الرباط تافهة جدا وباهتة، ومن الأفضل اجتناب الحديث عنها (…) وأنا لا أفكر بتاتاً في وضع أحداث روايتي في الرباط أو الدار البيضاء (…) وشالّة رغم أنها خربة فهي تنبض بالحياة أكثر من الرباط، وفي أرجائها تحوم روح الرّومان والمرينيّين بين القبور والجنبات المزهرة”*. فما الذي يضمره خير الدين، ابن تافراوت الجنوب، وراء هذه السّجالات المدينيّة الجذريّة، وهو القادم من مواضع “تمتزج فيها الجيولوجيا بالميتافيزيقا” في ألف صورة وصورة؟.
جغرافية الموت
تنتمي المقابر إلى تلك الفضاءات النّادرة التي يعمُّها الهدوء، داخل العواصم البيروقراطية الرّتيبة، وفي الحواضر الفخمة التي تغري اليافعين المتحذلقين، وهم يجترّون بأبّهةٍ بعض كلام بودلير وبنيامين عن المتسكع: الدّانْدِيُّ المعاصر والمبتذل، البارع في شتم الغائبين، لتضميد حداثته المخصيّة. فتمنّوا الموت إنْ كنتم صادقين.
يُسمِّي العبرانيّون المقبرة، حرفيّاً، بيت الحيّين (בית קברות)، أي منزل الأحياء الذين انقلبوا أخيراً إلى السكينة الربانية (שכינה). والمقبرة فضاءٌ أثير داخل عالم خير الدين، خاصة روايته النبّاش (1973)، هذا التخييل الهذيانيّ حيث يتغذى الراوي على لحم المقبورين..يكتب: “النباش الحقيقي هو الذي ينبش في كل ما يوجد من مقدس داخل مجتمع ما، حتى يُفجّره لعموم الناس، وينتقده. إنّ المقبرة بالنسبة لي هي البلد، وهي جميع بلدان العالم. كلّ الثائرين، في نظري، نبّاشو قبور.
إنّ النباش لإنسانٌ مُتمرّد”. بذلك لا يكون نبّاش خير الدين، الذي يقتات على جثث الموتى، سوى نقيض الدانديّ المُهندم، ذلك المقبل على الشوارع المضيئة والمحلاّت التجارية والمعارض الفنية، بُغية إطلاق ضرطات منكرة تُفصح عن ضخامة بومته. بل إنّ خير الدين يُصرّح بأن هذا النباش، في موضع من النص، يتلبّس بأنطونين آرتو ويصرخ بصوته الذي هو صوت كلّ الحانقين والمنفيّين والمنبوذين.
في لوحة «طوّافة قنديل البحر»، يُقدّم ثيودور جيريكو مشهداً لناجين من الغرق، انتهى بهم المطاف إلى أكل بعضهم للبقاء. ولا بُدّ لنا، ونحن ننظر إلى جوعهم المأساويّ، أن نتذكّر الرّعب المُتصلّب في «مُنجز عظيم صحبة الموتى» للإسباني دي غويا. إنّ مدوّنة خير الدين ضاجّةٌ بالنصوص المُركبّة والمعقدة، الجليلة في بشاعتها، وهي تشبه هذين العملين الفنيين المذكورين سلفاً؛ كما أنّ حياته ديوان كامل تصير فيه الرواية قصيدة، وتصبح الأتوبيوغرافيا تراجيديا تبلبل راحة الكائن، كما هو حالُ جُلِّ ما نشره: بدءً بـأڭادير (1967)، الذي كتبه بعد زلزال مدمّر دكّ المدينة، مروراً بـ جسم سالب، يليه قصة إله طيّب(1968) وأنا الحامض (1970) وهذا المغرب (1975) ورائحة شحم مُعتّق (1976)، وحتى نُصب تذكاري (1991).
ينبش خير الدين في الأسطورة المحلية، في جسد المغرب، بمشراط حادّ، بل يشقّ جمجمته بفأس، ويفتح كلّ جراحاته (الاستبداد السياسي والعائلي والديني) بلغة قاسية وشاقّة.. إنّه لا يؤمن بغير الكتابة، ولا يكترث للأجناس الأدبية وتصنيفاتها، فما كانت تُصدّره دار نشر لوسوي الفرنسية على أنه رواية كان خير الدين يُلغّمه بالشّعر والمسرح والتخييل الذاتي والهذيان اللذيذ، على شكل مُعلّقات احتجاجيّة جُهوريّة، محشوّة بالحنق على السياسيين الفاسدين والأكاديميين المتملّقين، وعلى حفنة من تُجار النعوش والقتلة المأجورين.
كمن مزّقه الوجد
إذا كانت للموت جغرافيّة جارفة، ترمي رُكّابَ طوّافة جيريكو على سواحل موريتانيا القاحلة، أوتفتك بعوليس عند شط أرض اليمبوس المُسيّجة بالأسَل، فإنّ الحياة طوبوغرافيا للشجن لا يعرفها غير الشّعراء الوحيدين. بالعودة إلى النبّاش (Le déterreur)، يمكننا أن نسمع كلمة أرض (terre)، وضلال (erreur) وتيه (errer).. بين المغرب وفرنسا، جرّب خير الدين الهجرة والعودة، الاتحاد والانفصال، وكثيراً ما تأسّف للهوة الشاسعة بينه وبين الشرق.
لقد أحبّ خير الدين رامبو، ورأى في شعره “ناراً ممزوجة بالدّم”، كما أنه لم يُخْفِ إعجابه، وربما تبجيله، لآندري مالرو.. في تصريح صحفي العام 1989، فيما يشبه الافتخار، يقول: “أعتقد أنّ آخر رسالة كتبها قبل موته كانت تلك التي وجّهها إليّ. لقد كتبها فور خروجه من المصحّة، وكان خطّه مرتعداً”.
كان هؤلاء أقاربه الحقيقيون، فقد رثى آندري بورتون في قصيدة عنوانها رفضُ الدّفن، ترجم منها مبارك وسّاط: “(…) أحيّي هذا الحصان الذي هوى من حالق /آندري بروتون/ الذي تنبجسُ منه القصيدة كالجنّية…”. يعلن خير الدّين في لقاء إذاعيّ عن إلحاده، متنكّراً لأيّ ليبيرالية دينية، ويتحدث عن حضور الرّوح والأديان باعتباره كلام الأجداد القدامى، ليس إلاّ.
ثمة في يوميّات خير الدّين، التي ترجمها المسرحيّ عزيز الحاكم، واقتبسنا منها ثلاثة مقاطع*؛ ما قد يكشف أنين طائر أڭادير الجريح، ومرارة التجربة التي عاشها، وكذلك تحوّلاته من شاعر يهذي إلى عابد يتنسّك.. يكتب منتصف نهار الأحد 13 غشت 1995: “لا أستطيع أن أصبر أكثر. الألم ينقضّ عليّ بدون سابق إنذار. لقد ابتلعتُ أقراصاً مضادّة للالتهاب، لكن بدون جدوى. والألم يعاودني (…) ولو كان مكاني شخص آخر، مهما بلغ من الزهد الهندي وممارسة اليوغا، لما استطاع مقاومة هذه الأفكار الكئيبة (…) لا جدوى من استباق مشيئة الله. تأمّلوا حالة أيوب فوق كومة الزبل (…) لولا العناية الإلهية لكنت انقرضتُ منذ أمد بعيد، لأنه لولا وجود الله لما كان للحياة وللكون أصلاً أي معنى. وتبّاً لتلك الميتافيزيقا الحقيرة التي تنكر وجود الله كي تعلي من شأن الشيطان”*. تُلخّص هذه الفقرة، وفقرات أخرى تشبهها في اليوميّات، صُلح النهايات الجاثية: فها هو يتضرّع شِعْراً إلى إله المسلمين الذي مازحه وتنابز معه، ويَقبل العلاج على نفقة ملك اعتبره مُستبدّاً، ثم يستقبل والده، التارك له ولأمه، يستقبله داخل المستشفى أشهراً قبل الرحيل.
في نهاية حياته، كان خير الدّين يحاور الطيور..يمتدح الحجل، ينقم على البلبل ويهجو البلشون الأبيض، يكتب قصيدة إلى الصفارية وينتظر مجيء الشحرور. أمّا الهدهد فقد كان يضمّه إليه، وهو يُداعب عنقه. لقد أحبّ الطيور، كلّ الطيور، باستثناء عقابٍ افترسَ طفلةً في رواندا، وبقي يُرَدّدُ أنّ في الهدهد جمالاً وإشعاعاً بسرّ مقدّس لم يُدركْ كنهه… كان وقت الظهيرة، وبدت عَليّ علامات إرهاق الرّطوبة والشمس الحارقة، فاستوقفني حفّارٌ سبعينيٌّ: هل تبحث عن قريب؟ لقد كان استفساره دليلاً على بديهية الحياة داخل المقبرة، فهؤلاء القاطنون بين الأتربة والحفر أحياء لا تُكبّلهم قوانين الزمن. أجبتُ الحفّار: أجل، لكني عاجز عن إيجاد موضعه، ولا أحد من العائلة يتذكّره، لقد جاء للإقامة هنا منذ 26سنة. دلّني الحفّار على حيّ التسعينيات، حيث بقيت مُتسمّراً تحت نخلة، أنتظر أن يأتيني الهدهد من سبإٍ بنبإٍ يقين.
——————————–
“في 18 نوفمبر 1995 توفي محمّد خير الدين في الرباط بمرض السرطان. هذا الموت السابق لأوانه – لم يكن عمره قد تجاوز 54 سنة – وضع على عاتقي مهمة غير منتظرة. وفي غشت 1997، بعد مرور 21 شهراً على وفاته، التي لم أعلم بها إلا بفضل مجلّة Esprit (عدد يناير/فبراير 1996)، سافرتُ إلى المغرب، حيث استقبلني عمّي أحمد في الدار البيضاء. كانت يحتفظ ببعض الأغراض التي تركها أبي: وثائق، مؤلفات، كتب، أوراق وأشياء متنوّعة. كل ذلك كان موضوعا في حقيبة عادية تضم مقاطع مادية من حياة التيه”*. ألكسندر خير الدين.