أصدر المجلس الأعلى للسلطة القضائية بالمملكة المغربية مدونة لـ “الأخلاقيات القضائية”، وتم نشرها بالجريدة الرسمية بتاريخ 08 مارس 2021. وقد تضمنت، هذه المدونة، جملة من القواعد التي يتعين على القضاة التقيد بها، مع التنصيص على بعض التطبيقات العملية الموضحة لها.

وقد أُفرغت كل هذه القواعد في مبادئ عامة كلية، وهي: الاستقلال، الحياد والتجرد، المساواة، النزاهة، الكفاءة والاجتهاد، الجرأة والشجاعة الأدبية، التحفظ، التعامل مع الإعلام، اللباقة مع حسن المظهر، التضامن.

ولا يخفى السياق الذي جاءت في إطاره هذه المدونة، إذ إن مَأتاها المباشر هو تنفيذ أمر المشرع المعبر عنه بمقتضى المادة 106 من القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، والتي نصت على ما يلي: “يضع المجلس، بعد استشارة الجمعيات المهنية للقضاة، مدونة للأخلاقيات القضائية تتضمن القيم والمبادئ والقواعد التي يتعين على القضاة الالتزام بها أثناء ممارستهم لمهامهم ومسؤولياتهم القضائية، وذلك من أجل: – الحفاظ على استقلالية القضاة، وتمكينهم من ممارسة مهامهم بكل نزاهة وتجرد ومسؤولية؛ – صيانة هيبة الهيئة القضائية التي ينتسبون إليها، والتقيد بالأخلاقيات النبيلة للعمل القضائي، والالتزام بحسن تطبيق قواعد سير العدالة؛ – حماية حقوق المتقاضين وسائر مرتفقي القضاء، والسهر على حسن معاملتهم في إطار الاحترام التام للقانون؛ – تأمين استمرارية مرفق القضاء، والعمل على ضمان حسن سيره؛ (..)”.

بيد أن أول ما قد يُجترح من تساؤل في خضم النقاش الذي أثاره صدور هذه المدونة، هو: مدى توافق إعدادها للمنهج التشريعي المُقرر في هذا الشأن ؟

وليس هناك من جدوى، في اعتقدنا، للإجابة عن هذا التساؤل، إلا بعد تحديد معالم المنهج التشريعي الواجب اعتماده في معالجته (أولا)، باعتباره مقدمةً لازمة لمناقشة مدى توافق مضمون مدونة “الأخلاقيات القضائية” لمضمونه (ثانيا).

أولا: معالم المنهج التشريعي المُوَجِّه لوضع المدونة

للحديث عن معالم المنهج التشريعي المُوَجِّه لوضع المدونة، لا بد من تحرير الغاية من سنِّ هذه الأخيرة كمحددٍ منهجي لذلك (1)، ثم إبراز نطاقها الموضوعي المنصوص عليه في القانون، والواجب اعتماده كعامل مُسَدِّد لوضعها (2).
الغاية من المدونة كمُحدِّدٍ منهجي لوضعها

لا يخفى على المشتغل بعلم المنطق ما للمقدمات من تأثير على النتيجة المترتبة عنها، وهذه المقدمات على فئتين: أولاهما كبرى، وتتركب من قضايا ذات طبيعة عامة وكلية. وثانيتهما صغرى، وتتشكل من بعض القضايا الجزئية المنضوية تحت قضايا المقدمة الأولى.

ولعل من أبرز المقدمات الكبرى الواجب اعتمادها في مقاربة الإشكال موضوع هذه الورقة، هو تحديد الغاية من إصدار مدونة “الأخلاقيات القضائية”، إذ إن لكل عمل تشريعي، مهما كانت مرتبته، مقاصد ومرامي على غرار ما هو مقرر في التداول المقاصدي من أن “النصوص بمقاصدها” ؛ ومفهوم النصوص هنا، قد يتأدى مُضَيَّقا في نص واحد فصلاً كان أو مادة أو بندا، كما قد يتخذ منحىً مُوَسَّعا في شكل مجموعة نصوص، وهو ما يصطلح عليه في عرف القانون بـ: “المدونة”.

ومن هذا المنطلق، فإن المقصد الظاهر من سَن مدونة “الأخلاقيات القضائية”، بحسب ما نصت عليه الفقرة الأولى من المادة 106 أعلاه، هو: تحديد “القيم والمبادئ والقواعد التي يتعين على القضاة الالتزام بها أثناء ممارستهم لمهامهم ومسؤولياتهم القضائية”.

ولما كان هذا المقصد ثابتا من الناحية القانونية، فإن مما يستشف منه عن طريق دلالة الاستلزام، هو أن المقصد الخفي من المدونة المذكورة، يتبدى في طابعها التكميلي لمقتضيات القانون الذي ألقى على عاتق القضاة جملةً من الواجبات والالتزامات.

ومما يؤكد هذا المقصد، هو ما نصت عليه ديباجة “مبادئ بنغالور للسلوك القضائي”، باعتبارها وثيقة أممية تعتبر مرجعا لكل مدونة أخلاقية قضائية وطنية، بقولها: “تهدف [المبادئ التالية] إلى تكميل أحكام القانون وقواعد السلوك القائمة الملزمة للقاضي، وليس إلى الانتقاص منها”.

من هنا، يمكن القول بأن أبرز ضابطٍ يتعين الانضباط إليه عند إعداد مدونة “الأخلاقيات القضائية”، هو أن تكون قواعدُها مُكملة لما أقره القانون من التزامات عامة تُقيِّد سلوك القضاة، ولن تتحقق هذه التكملة إلا من وجوه ثلاثة:

أولها: توضيح وتفسير الالتزامات المنصوص عليها في القسم الثاني من الباب التمهيدي للقانون المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، والواردة بصيغ العموم.

ثانيها: عدم الاقتصار على توضيح وتفسير بعض تلك الالتزامات دون غيرها، وإنما يتعين توضيحها وتفسيرها جميعها دون أدنى انتقاص منها.

ثالثها: عدم إضافة التزامات أخرى لم ينص عليها القانون المذكور، وإلا شكل ذلك خروجا عن الفكرة الرئيسة لسن المدونة المذكورة، والمنحصرة في تكملة القانون لا غير.

وإذا عُلم هذا، فلا ريب أن اجتماع هذه الوجوه الثلاثة سينشأ عنه ضابط آخر يعضد سابقه، وهو: ضرورة انضباط مدونة “الأخلاقيات القضائية” إلى ما سَدَّدَّ به المشرع نفسه منهج وضع هذه المدونة من حيث نطاقها الموضوعي.

ثانيا: النطاق الموضوعي للمدونة كمُسَدِّد منهجي لوضعها

لما كانت مدونة “الأخلاقيات القضائية”، في عمقها القانوني، مُكملة لما قيَّد به المشرعُ سلوك القضاة من التزامات وفق ما حررناه آنفا، فلا مَساغ، منطقا وعقلا، لأن تكون بنودها مخالفة لهذه الالتزامات بأي حال من الأحوال.

وليس ثمة شك في أن هذا الحكم يعد نتيجة حتمية للمنهج الواجب اعتماده في إعداد المدونة، وتتبدى معالم هذا المنهج وفق مسلكين اثنتين:

أولهما: التقيد بالنطاق الموضوعي الذي حدده المشرع منهجا لإعداد مدونة “الأخلاقيات القضائية”، تطبيقا للمادة 106 المشار إليها آنفا، إذ حصر تدخلها في السلوكات المرتبطة بممارسة القضاة لمهامهم ومسؤولياتهم القضائية لا غير.

ولعل ما يترتب عن هذا المسلك، هو أن السلوكات ذات الصلة بالحياة الشخصية للقضاة تبقى خارجة عن دائرة اختصاص المدونة المذكورة. وبالتالي، لا يمكن اندراجها فيها إلا بشروط كما سيأتي توضيحه في حينه.

ثانيهما: التقيد بمعيار “إرادة المشرع” عند تحديد المبادئ العامة للأخلاقيات القضائية الواجب معالجتها بمقتضى هذه المدونة، ولا يتحصل هذا إلا باستلهام تلك المبادئ من القانون ذاته وليس من خارجه.

وإعمالا لهذه القاعدة المنهجية، نتوصل إلى أن المشرع قد حدد المبادئ المذكورة بموجب المادة 96 من القانون المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، وهي التي رتب على خرقها قيام الخطأ التأديبي، وقد عبرت هذه المادة عن ذلك بقولها: “يكون كل إخلال من القاضي بواجباته المهنية أو بالشرف أو الوقار أو الكرامة، خطأ من شأنه أن يكون محل عقوبة تأديبية”.

ومما يؤخذ من هذا المسلك، هو أن كل استدعاء لمبادئ عامةٍ أخرى غير منصوص عليها في المادة 96 أعلاه، هو استدراك على إرادة المشرع وخروج على المنهج الذي اختطه لإعداد مدونة “الأخلاقيات القضائية”.

ولاستيضاح بعض هذه المبادئ، فلا ملتحد من الاهتداء بصيغة القسم الواجب أداؤه من طرف القضاة، والتي حاولت تفكيك بعضها إلى قواعد فرعية، حيث نصت عليها المادة 40 من ذات القانون كما يلي: “أقسم بالله العظيم أن أمارس مهامي بحياد وتجرد وإخلاص وتفان، وأن أحافظ على صفات الوقار والكرامة، وعلى سر المداولات، بما يصون هيبة القضاء واستقلاله، وأن ألتزم بالتطبيق العادل للقانون، وأن أسلك في ذلك مسلك القاضي النزيه”.

وإذا كان المنهج التشريعي المُسَدِّد لعملية إعداد مدونة “الأخلاقيات القضائية”، منحصرا في ضرورة تقيد هذه الأخيرة بالنطاق الموضوعي المحدد لها بمقتضى القانون من جهة، وفي مراعاة إرادة المشرع عند تحديد المبادئ العامة الواجب معالجتها فيها من جهة أخرى، فإن إثارة الإشكال موضوع هذه المقاربة يكون أكثر دقة عند مساءلة مضمون المدونة في ضوء المنهج المشار إليه.

ثانيا: مضمون المدونة في محك المنهج التشريعي المُوَجِّه لوضعها

لئن أضحت معالم المنهج التشريعي الواجب اعتماده في إعداد مدونة “الأخلاقيات القضائية” واضحا، وفق ما تم تحقيقه أعلاه، فلا بد من مساءلة مضمون هذه الأخيرة في ضوئه بهدف التأكد مما إذا كان موافقا (1) أو مخالفا له (2).
المضمون الموافق للمنهج التشريعي الموجه للمدونة

قمين بالتذكير هنا، أن الغاية من مدونة “الأخلاقيات القضائية”، كما حررناها سالفا، تتمثل في دورها التكميلي لما أقره القانون من التزامات عامة تُقيِّد سلوك القضاة، مفوضاً لها أمر تفسيرها وتوضيحها.

وإذا كان الأمر كذلك، فإن مما ينبغي تسجيله في هذا المقام، هو أن الكثير من تفريعات المدونة موضوع هذه القراءة، والتي صِيغَت على شكل “نماذج تأديبية استرشادية”، جاءت موافقة للمنهج التشريعي الواجب اعتماده في تحديد لائحة الأخلاقيات القضائية.

وبالقراءة المتأنية لتلك التفريعات والنماذج، يتبين أنها تتوزع على ثلاثة قضايا ومسائل:

الأولى: وهي التي سبق للدستور أن أقرها، وأعادت المدونة صياغتها وتخريجها، من قبيل ما نصت عليه بعض بنود المادة 3 من المدونة بخصوص مبدأ “الاستقلال”، وبعض بنود المادة 9 بخصوص مبدأ “المساواة”.

الثانية: وهي التي سبق للقانون أن كرسها، واقتبستها المدونة وأوردتها ضمن بنودها، من قبيل ما نصت عليه بعض بنود المادة 6 بخصوص مبدأ “الحياد والتجرد”.

الثالثة: وهي التي كانت جزءً من الأعراف والتقاليد القضائية، واحتوتها المدونة وأَلبستها لباس القانون، من قبيل ما نص عليه البند 6 من المادة 8 المتعلق بـ: “منع القاضي من الاتصال بأطراف النزاع أو ممثليهم القانونيين أو الشهود إلا عن طريق كتابة الضبط أو كتابة النيابة العامة”.

ولعل اللافت في هذا الشق من المدونة، هو أنها لم تتردد في الإقدام على استلهام بعض ما ذهبت إليه “مبادئ بانغلور للسلوك القضائي” في جملة يسيرة من المسائل والقضايا التي عالجتها، وهذا ملحظ إيجابي يستدعي التنويه به من هذه الزاوية ولو على قلته.

وتأسيسا على ذلك، فلا مندوحة من الجزم بأن جزءً يسيرا من تفريعات مدونة “الأخلاقيات القضائية”، وبعض نماذجها “التأديبية الاسترشادية”، جاء متناغما مع الغاية من وضعها، ومُكملا لما نص عليه القانون في هذا المجال.
المضمون المخالف للمنهج التشريعي المُوَجِّه للمدونة

ينقسم مضمون المدونة المخالف للمنهج التشريعي المُوَجِّه لإعدادها إلى صنفين اثنين: يتجلى، أولهما، في مظاهر عدم احترام مبدأ “الشرعية التأديبية” (أ)، بينما يتجلى، ثانيهما، في مظاهر إضافة التزامات أخرى تقيد سلوك القضاة لم ينص عليها القانون (ب).

مظاهر عدم احترام المدونة لـ “مبدأ الشرعية التأديبية”

معلوم أن مبدأ الشرعية في المادة التأديبية القضائية، يتأدى، أساسا، في أن أي تصرف أو سلوك صادر عن أحد القضاة، ولو كان غير مقبول من الناحية المجتمعية، لا يعتبر مخالفة إلا إذا اعتبره القانون كذلك. فلا غرو، إذن، من أن نجد هذا المبدأ من الأصول الكلية الثاوية في كل التشريعات المقارنة بمختلف دول العالم.

ولعل أهم ما يترتب عن تكريس هذا المبدأ، هو أن يتقيد المشرع التأديبي بضرورة تبيان حدود المخالفات التأديبية وعقوباتها، وذلك بتحرِّيه الدقة في صياغة “النماذج الاسترشادية” عند إضفائه لوصف المخالفة التأديبية على سلوك معين.

ومراعاة لهذه النتيجة، يمكن الجزم بأن مدونة الأخلاقيات القضائية الصادرة عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية، لم تستلهم هذا المبدأ الفلسفي كمرجع لبنودها، وإنما انتهجت منهجا غارقا في مخالفته، وذلك بنصها في الديباجة على ما يلي: “وباعتبار أن ما تتضمنه هذه المدونة من مبادئ لا يمكن حصرها في تطبيقات معدودة، فإنها تبقى واردة على سبيل المثال لا الحصر”.

وإمعانا في هذا المنهج المخالف لـ “مبدأ الشرعية التأديبية”، نصت المدونة المذكورة على جملةٍ وافرة من النماذج الاسترشادية الضَّاوية تحت المبادئ الأخلاقية العامة، جاءت مُنطبعة بعدم الوضوح والاستغراق في صيغ العموم، وذلك بالإحجام عن وضع معيار موضوعي لتحديد المقصود من ألفاظها بدقة، وسد باب العَسف في التأويلات والتفسيرات التي غالبا ما تكون مُمتحةً من ثقافة المؤول والمفسر لها، وأمثلة ذلك كما يلي:

منع التعبير عن الآراء بشكل يضعف الثقة في حياد القضاء (البند 12 من المادة 8 من المدونة).

من إصدار تصريحات مهينة وغير لائقة اتجاه السلطة القضائية والمحاكم والإدارة القضائية، والخارجة عن حدود النقد البناء والحق في حرية التعبير (البند 13 من المادة 8 من المدونة).

منع المجاملة التي تجعل الأطراف يتملكهم شعور بعدم المساواة (البند 4 من المادة 11 من المدونة).

ضرورة الابتعاد عن أي سلوك مشين (المادة 12 من المدونة).

الحث على تحصين الحياة الخاصة لتكون فوق الظنون والشبهات (البند 5 من المادة 14 من المدونة).

ضرورة الحرص على الاتزان والرصانة في التعبير والسلوك (المادة 21 من المدونة).

الحث على الالتزام بدرجة عالية من الحذر عند التعبير عن الآراء والمواقف عبر وسائل التواصل الاجتماعي (البند 2 من الفقرة الثالثة من المادة 23 من المدونة).

ضرورة مراعاة المكانة الاعتبارية للقضاة في الكتابات أو التعليقات أو الردود (البند 3 من الفقرة الثالثة من المادة 23 من المدونة).

الالتزام باحترام الشرف والوقار والكرامة في استعمال وسائل التواصل الاجتماعي (البند 4 من الفقرة الثالثة من المادة 23 من المدونة).

ضرورة استعمال لغة واضحة في التعليقات والأفكار المنشورة، والابتعاد عن العبارات الغامضة والمستفزة والتلميحات (البند 5 من الفقرة الثالثة من المادة 23 من المدونة).

الحرص على الظهور الدائم بمظهر لائق (المادة 24 من المدونة).

وتأسيسا على ما سلف، يتوضح، جليا، مدى انفلات “مدونة الأخلاقيات القضائية” من عِقال مبدأ “الشرعية التأديبية”، بما يستلزمه من تحري الدقة والوضوح في وضع “النموذج التأديبي الاسترشادي”، الأمر الذي قد تُشْرَع معه أبواب التأثير على استقلالية القضاة واسعا، من خلال استغلال ما سيوفره هذا المنهج من تمطيط بنود المدونة وشمولها لكل سلوكاتهم.

وإذا كان هذا عن مخالفة المدونة لمبدأ “الشرعية التأديبية”، فهل نحت هذه الأخيرة مناحي أخرى خالفت فيها المنهج التشريعي الواجب اعتماده في إعدادها وفق حررناه آنفا ؟

مظاهر إضافة المدونة لالتزامات لم ينص عليها القانون

تتوزع هذه المظاهر على نوعين اثنين: يتعلق، أولهما، بتجاوز المدونة لنطاقها الموضوعي المحدد في القانون (ب-أ)، بينما يرتبط، ثانيهما، بتجاوزها للمبادئ الأخلاقية العامة المنصوص عليها في ذات القانون (ب-ب).

ب-أ- تجاوز النطاق الموضوعي المحدد في القانون

لعل المتأمل الحصيف في “مدونة الأخلاقيات القضائية” سيقف، لا محالة، على ملامح المنهج المعتمد في إعدادها، خصوصا على مستوى تحديد نطاقها الموضوعي.

ويتبدى ملمحُ منهج المدونة من هذه الجهة، أساسا، في الخروج الواضح على المنهج التشريعي المحدد سلفا بهذا الخصوص، والذي حددته المادة 106 المشار إليها أعلاه بنصها في الفقرة الأولى على ما يلي: “يضع المجلس، بعد استشارة الجمعيات المهنية للقضاة، مدونة للأخلاقيات القضائية تتضمن القيم والمبادئ والقواعد التي يتعين على القضاة الالتزام بها أثناء ممارستهم لمهامهم ومسؤولياتهم القضائية”.

وأبرز ما يتكشف عنه خروج المدونة على منهج المشرع، هو تَعدِّيها في صياغة “النماذج التأديبية الاسترشادية” لسلوكات القضاة المرتبطة بممارسة مهامهم ومسؤولياتهم القضائية إلى السلوكات المرتبطة بحياتهم الشخصية والخاصة. وبيان ذلك من خلال المقتضياتها التالية:

البند 5 من المادة 14، ونصه كما يلي: “يحصن القاضي حياته الخاصة لتكون فوق الظنون والشبهات، من خلال إعطاء المثال والقدوة الحسنة في التعامل مع المحيط العائلي ومع العموم”.

البند 4 من المادة 23، ونصه كما يلي: “يتقبل القاضي القيود المفروضة على الحياة الخاصة للقضاة، والتي قد تبدو عبئا بالنسبة للمواطن العادي، ويتصرف ويتماشى مع كرامة وشرف رسالة القضاء”.

البند 2 من فقرة “التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي”، ونصه كما يلي: “يلتزم القاضي بدرجة عالية من الحذر عند التعبير عن آرائه ومواقفه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، سواء أفصح عن صفته القضائية أم لا، وسواء تعلق الأمر بالشأن القضائي أو بحياته الخاصة أو بأي شيء آخر”.

فمن خلال هذه المقتضيات، نستشف أن المدونة لم تحترم المنهج التشريعي المأمور به قانونا، طالما أنها لم تلتزم بالضابط الموضوعي المنصوص عليه في المادة 106 أعلاه، وقامت بجرد الالتزامات الملقاة على سلوك القضاة خارج حدود اختصاصها القانوني المحدد في: “السلوكات المرتبطة بممارسة مهامهم ومسؤولياتهم القضائية”.

رُب معترضٍ على هذا الحكم يعلل اعتراضه بدعوى أن المدونة قد نحت، في هذه المسألة، منحى “مبادئ بنغالور للسلوك القضائي” التي تعتبر وثيقة أممية معتمدَة في هذا الشأن، وهو ما لا يستقيم مع فلسفة هذه الأخيرة ألبتة، ذلك أن تقييد الحياة الخاصة للقضاة وفقها مرهون بمدى انعكاس سلوكهم الشخصي على ممارسة المهام المنوطة بهم، إذ جاء تقرير ذلك في التعليق على الوثيقة المذكورة الصادر عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، كما يلي: “يجب أن ينعكس تصرف القاضي على المكونات الأساسية لقدرته على أداء العمل المخول إليه، وهي: العدل، والاستقلالية، واحترام عامة الناس، بالإضافة إلى انعكاسه على وجهة نظر الناس في مدى أهليته للقيام بعمله”.

ومن هذا المنطلق، يتبين عدم صواب ما ذهبت إليه مدونة الأخلاقيات القضائية بخصوص معالجتها للحياة الخاصة للقضاة، حيث قيدتها ببعض الالتزامات دون أي موجب من القانون، خصوصا وأن منهج هذا الأخير كان واضحا في حصر تدخلها في السلوكات المرتبطة بممارستهم لمهامهم ومسؤولياتهم القضائية لا غير، ومعلوم أن “السكوت في معرض البيان يفيد الحصر” كما هو مقرر في محله من علم الأصول.

وإذا كان ثابتا مما سبق، أن مدونة “الأخلاقية القضائية” قد تجاوزت حدود ما رسم لها المشرع من موضوعات وقضايا، فهل ينطبق نفس الحكم على باقي الالتزامات المقيدة لسلوك القضاة ؟

ب-ب- تجاوز الالتزامات المنصوص عليها في القانون

تقدمت الإشارة إلى أن “مدونة الأخلاقيات القضائية” قد تضمنت مجموعة من المبادئ العامة التي يتعين على القضاة التقيد بها وبما ينضوي تحتها من نماذج استرشادية، وهي: الاستقلال، والحياد والتجرد، والمساواة، والنزاهة، والكفاءة والاجتهاد، والجرأة والشجاعة الأدبية، والتحفظ، والتعامل مع الإعلام، واللباقة مع حسن المظهر، والتضامن.

غير أن اللافت في هذا التصفيف، هو ما نصت عليها المادة 96 من النظام الأساسي للقضاة، والتي طوَّق من خلالها المشرع سلوك القضاة بمجموعة من الالتزامات، حيث حددها حصرا في المبادئ العامة التالية: الواجبات المهنية، والشرف، والوقار، والكرامة.

وإذا كانت مبادئ: الاستقلال، والحياد والتجرد، والمساواة، والنزاهة، واللباقة مع حسن المظهر، والتحفظ، والتعامل مع الإعلام، التي جاءت بها “مدونة الأخلاقيات القضائية” لا تثير كبير إشكال من حيث اندراج بعضها ضمن مبدأ “الواجبات المهنية”، والبعض الآخر ضمن مبدأ “الشرف” أو “الوقار”، فإن الأمر خلافه بالنسبة لباقي المبادئ التي نصت عليها، إذ لا وجود في القانون لمبادئ: التضامن، والكفاءة والاجتهاد، والجرأة والشجاعة الأدبية.

وليس ثمة شك، في أن منهج مدونة “الأخلاقيات القضائية”، من هذه الجهة، فيه تجاوز لما نص عليه القانون واستدراك على إرادة المشرع، وذلك بإضافتها لمبادئ أخلاقية أخرى إلى قائمة القيود الواردة على سلوك القضاة غير تلك التي نص عليها المشرع صاحب الاختصاص الأصلي بمقتضى الفصل 70 من الدستور، خصوصا في الشق المتعلق بقيمة التضامن، ذلك أن المدونة في البند 2 من مادتها 29 قيدت تضامن القضاة فيما بينهم بعدم “تنظيم وقفات احتجاجية”، بينما أجاز القانون المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة ذلك لما اقتصر في مادته 96 على حظر “وقف أو عرقلة عقد الجلسات أو السير العادي للمحاكم”، ليظل الاحتجاج مستصحبا لأصل الإباحة المقررة في الفصل 29 من الدستور، والذي خول للتشريع وحده تحديد شروط ممارسته.

ولم يقتصر هذا المنهج على تجاوز ما نص عليه القانون فحسب، وإنما حتى على معاكسة ما أقره لفائدة القضاة صراحة، ذلك أن الفقرة الثانية من المادة 47 من القانون المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة قد منحتهم الحق في إصدار مختلف المصنفات دون تقييد ذلك بإذن من أي جهة كانت شريطة عدم ذكرهم لصفاتهم كقضاة، بقولها: “لا يشمل هذا المنع إنتاج المصنفات الأدبية أو العلمية أو الفنية، غير أنه لا يجوز لأصحابها أن يذكروا صفاتهم كقضاة إلا بإذن من الرئيس المنتدب للمجلس”، وهو الحق الذي قيدت المدونةُ ممارسته بضرورة الإشعار المسبق للرئيس المنتدب بالنسبة لقضاة الأحكام، أو لرئيس النيابة العامة بالنسبة لقضاة النيابة العامة، فيما يتعلق بـ “إجراء المقابلات الإعلامية والإدلاء بالتصريحات الصحفية”، وذلك في البند 1 من فقرة “التعامل مع الإعلام”.

وإذا عُلم هذا، وتأكدنا من أن المقابلات الإعلامية والتصريحات الصحفية تندرج ضمن مفهوم المصنفات الأدبية والعلمية والفنية المنصوص عليها في المادة 47 أعلاه، بدليل ما نص عليه البند “ج” من المادة 3 من القانون المتعلق بحقوق المؤلف والحقوق المجاورة، والذي اعتبر مصنفا أدبيا وفنيا: “المحاضرات والكلمات والخطب والمواعظ والمصنفات الأخرى المكتوبة بكلمات أو المعبر عنها شفاهيا” ؛ فلا يسع المُتَمعن فيما ذهبت إليه مدونة “الأخلاقيات القضائية” بهذا الشأن إلا أن يقف على مدى تجاوز هذه المدونة لإرادة المشرع ومنهجه بخصوص الالتزامات المُقَيِّدة لسلوك القضاة، بغض النظر عن بعض مظاهر الانتقاص منها.

مظاهر انتقاص المدونة من الالتزامات التي نص عليه القانون

لما كان ثابتا من منهج مدونة “الأخلاقيات القضائية”، المحقق آنفا، أنها تجاوزت إرادة المشرع عند إضافتها للالتزامات أخرى لم ينص عليها، فإن ذلك لا يعني أنها لم تنتقص مما أوجبه هذا الأخير على القضاة من مبادئ أخلاقية.

فقد مر بنا، أن المشرع، من خلال المادة 96 من القانون المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، قد حدد المبادئ العامة الواجب على القضاة التقيد بها، وهي: الواجبات المهنية، والشرف، والوقار، والكرامة. إلا أن اللافت من مقتضيات مدونة “الأخلاقيات القضائية”، أنها جاءت خلوا من تنظيم مبادئ: الشرف، والوقار، والكرامة ؛ إن على مستوى التعريف أو التطبيق.

وحقيق بالذكر هنا، أن تنظيم هذه المبادئ الثلاثة يحتل أهمية قصوى في النظام التأديبي القضائي، ذلك أن المادة 96 المشار إليها، وتجسيدا لمبدأ “الشرعية التأديبية” الآنف تحريره، هي التي تكلفت بتحديد أنواع المخالفات التي تستوجب متابعة القضاة تأديبيا من أجلها. وبالتالي، لا يمكن قبول أي متابعة بناء على تكييف أو وصف خارج عن هذه المخالفات، فحتى وإن ارتكب قاض مخالفة مما تنضوي، مثلا، تحت قيمة “الشرف”، فلا يمكن متابعته إلا بوصف: “الإخلال بالشرف الواجب على القضاة”. وهكذا دواليك بالنسبة لمبدأي: الوقار، والكرامة.

ولا يخفى، في هذا الصدد، الدور الحقيقي الذي تلعبه مدونة “الأخلاقيات القضائية”؛ فهي، وإن كانت مُكملة لما أقره القانون من التزامات عامة تُقيِّد سلوك القضاة، فذلك عن طريق تفسير وتوضيح ما شَكُل أو غمُض من هذه الالتزامات، وهو ما لم تضطلع به بخصوص المبادئ الثلاثة المذكورة.

وأمام هذا الوضع، لا يسع المتأمل الحصيف إلا القول بأن المنهج المعتمد في مدونة “الأخلاقيات القضائية”، من هذه الزاوية، كان منتقصا مما أقره القانون من التزامات عامة تُقيِّد سلوك القضاة، وظلت مبادئ: الشرف، والوقار، والكرامة، على إطلاقها من غير تعريف ولا تحديد ولا تطبيق. وبالتالي، سيظل اللَّبس والغموض قائما بخصوص هذه الواجبات لا سيما على مستوى الممارسة.

على سبيل الختم

نخلص مما تقدم إلى أمرين أساسيين: يرتبط أولهما بالمنهج التشريعي الواجب اعتماده في إعداد مدونة “الأخلاقيات القضائية” (1)، وثانيهما بمدى تقيُّد مضمون هذه المدونة بالمنهج المذكور (2).

يتحصل هذا الأمر، أساسا، في أن المشرع قد حدد منهج إعداد مدونة “الأخلاقيات القضائية” بشكل دقيق، حيث حصر نطاقه في تفسير وتوضيح الالتزامات العامة المنصوص عليها في القانون المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، وذلك بوضع نماذج “تأديبية استرشادية” مما يندرج تحت تلك الالتزامات، وكل مخالفة لهذا المنهج يعد مخالفةً لصريح القانون ولا شك.

يتمثل هذا الأمر في أن المدونة المذكورة، وإن وافق بعض بنودها للمنهج التشريعي المشار إليه، فإنها قد اصطدمت معه في الكثير من المسائل والقضايا التي عالجتها، لا سيما على مستوى مخالفتها لمبدأ “الشرعية التأديبية”، فضلا عن إضافتها لقيود أخرى خارج دائرة اختصاصها، ثم انتقاصها مما أقره القانون من التزامات عامة تُقيِّد سلوك القضاة.

الكاتب العام لـ “نادي قضاة المغرب”

hespress.com