تتجه أنظار العالم إلى المسارات التي تسلكها الخارجية الأمريكية في ظل القيادة الجديدة، وما إذا كانت ستحافظ على النهج الاندفاعي نفسه أم ستختار الانعزال والتقوقع والبحث عن مصالح الولايات المتحدة؛ بينما هناك طرح يميل إلى الاعتقاد بأن واشنطن “ستسلك طريقا معتدلا يأخذ في الاعتبار الأولويات الأمريكية الرئيسية، لاسيما في ظل أن عددًا متناميًا من الأمريكيين يرغبون في إنهاء الحروب الأبدية المنغمسة فيها الدولة الأمريكية للتركيز على الداخل الأمريكي”.

وفي هذا الشأن، نشرت مجلة “السياسة الخارجية” في عدد شتاء 2020-2021 مقالًا بعنوان “المسار الأوسط في السياسة الخارجية الأمريكية”، يبحث فيه تشارلز أ. كوبشان، عضو مجلس العلاقات الخارجية وأستاذ الشؤون الدولية بجامعة جورجتاون، وجود خيار ثالث للسياسة الخارجية الأمريكية بين الانعزالية والأممية.

تصاعد وتراجع

تشير ورقة بحثية منشورة في مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة إلى أن “الانعزالية شكلت نهج الولايات المتحدة منذ تأسيسها إلى عام 1941، وهو الأمر الذي لا ينفي أن تلك المدة شهدت فترات من انخراط أمريكي في الشؤون الدولية، إلى أن بدأت واشنطن المشاركة العالمية منذ الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربور 1941 حتى عهد الرئيس السابق دونالد ترامب”.

وقدم الرئيس جورج واشنطن رؤيته للسياسة الخارجية الأمريكية عام 1796 عندما أشار إلى ضرورة توسيع العلاقات التجارية مع الدول الأجنبية إلى الحد الذي يتضاءل بموجبه الارتباط السياسي إلى أقل درجة ممكنة، ليؤسس بذلك بداية نهج جديد يختلف عن الانعزالية الخالصة التي سيطرت على الولايات المتحدة منذ تأسيسها.

وأعقب ذلك إقبال الأمريكيين على التجارة الدولية، مع الحرص على عدم الاشتباك الإستراتيجي مع الدول البعيدة، إلى أن وقعت الحرب الأمريكية الإسبانية 1898 والحرب العالمية الأولى، لتعود واشنطن إلى التقوقع الداخلي مرة أخرى، الأمر الذي ساهم في تراجع الدور الإستراتيجي الأمريكي في فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، ليعود عصر الانفتاح والمشاركة العالمية الأمريكية منذ الهجوم على ميناء بيرل هاربور خلال الحرب العالمية الثانية، التي شكلت تحولًا في نهج واشنطن الانعزالي للاتجاه إلى الانخراط الأممي مع الدول لتحقيق مصالحها بالاعتماد على مزيج من القوة الأمريكية والمشاركة العالمية. ومثَّل هذا المسار نهج الولايات المتحدة المُتبع حتى عهد الرئيس السابق دونالد ترامب

ترامب والتأرجح نحو الانعزالية

الورقة البحثية ذاتها، التي أعدتها الدكتورة ياسمين محمود عثمان، أكدت أن الرئيس السابق ترامب عمد خلال فترة رئاسته إلى تقليل الالتزامات الأمريكية بالخارج من خلال تخفيض عدد القوات الأمريكية تمهيدًا لانسحابها من كل من أفغانستان وسوريا والعراق، وقلل عددها بألمانيا، وهاجم الدول التي لا تستطيع الوفاء بالتزاماتها داخل حلف الناتو لتغطية تكاليف الدفاع المشترك.

وعلى الرغم من الخلاف الحاد بين الديمقراطيين والجمهوريين حول الإستراتيجية الانعزالية، تورد الورقة البحثية، إلا أنهم اتفقوا على ضرورة الحد من بعض الأدوار الخارجية؛ بينما لاقت هذه الإستراتيجية ترحيب الأمريكيين الذين يؤمنون بضرورة إنهاء الحروب الأبدية التي تورطت فيها واشنطن للتفرغ للتعامل مع الأزمات الداخلية الملحة، كالركود الاقتصادي الناجم عن تفشي جائحة كوفيد-19.

ويتركز الجدل المثار راهنًا بشكل رئيسي حول كيفية تحقيق الانسحاب الأمريكي، لاسيما مع تبني الولايات المتحدة على مدار ما يقرب من 230 عامًا نهجًا يتأرجح بين طرفي نقيض، إما الكل أو لا شيء، مع عدم تبني حل وسطي بين المسارين.

وتؤمن مدرسة ضبط النفس باتجاه الولايات المتحدة إلى تحقيق التوازن في علاقاتها الخارجية من خلال تقليل الاندماج الخارجي، والاعتماد بشكل رئيسي على الحلفاء لمواجهة الخصوم وكبح جماحهم.

في حين يرغب الليبراليون في عودة الولايات المتحدة للقيادة العالمية بعد تراجع دورها في عهد ترامب، الذي ينظرون إليه باعتباره “منحرفًا ومدمرًا” ويشعرون بالارتياح من الكلمات التي يرددها الرئيس جو بايدن عن أن الولايات المتحدة عادت للقيادة العالمية مرة ثانية.

نهج جديد

وحسب الورقة البحثية ذاتها ففي فترة ما بعد ترامب لا تمتلك الولايات المتحدة رفاهية الانسحاب من التفاعل مع النظام العالمي، ولكن لا تتوافر لديها كذلك الأدوات الكافية واللازمة لتتمكن من قيادة العالم مرة أخرى، لذلك من المنطقي أن تتبنى نهجًا وسطيًا بين العزلة والانفتاح من خلال الابتعاد عن الانخراط المجهد، مع العودة في الوقت نفسه لكي تصبح مركزًا للاستقرار الإستراتيجي في العالم. ولتحقيق ذلك تحتاج الولايات المتحدة إلى ما أطلقت عليه المقالة “التموضع الحكيم” للانفتاح الأمريكي العالمي بدلًا من الانعزالية الخالصة التي ستتطلب ثلاث خطوات هي:

1- تخلي الولايات المتحدة عن عملها كشرطي عالمي مع الاستمرار في كونها القوة العالمية، إذ إن أحد الأسباب الرئيسية التي أفضت إلى خطأ إستراتيجي في تعامل واشنطن مع النظام العالمي منذ نهاية الحرب الباردة تمثل في عدم رؤية الأولويات بشكل صحيح، والانخراط في حروب غير ضرورية في منطقة الشرق الأوسط، والتسبب في مقتل وإصابة عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين، وإهدار الأموال الأمريكية مع عدم الحصول على الفوائد المرجوة.

وبناءً على ما سبق، تستطيع الولايات المتحدة الحفاظ على مصالحها في الشرق الأوسط، التي من بينها مواجهة التهديدات الإيرانية، والحفاظ على تدفق النفط في منطقة الخليج العربي، والالتزام بأمن إسرائيل، ومواجهة التنظيمات الإرهابية، من خلال الاعتماد على الدبلوماسية أو الاعتماد على العمليات العسكرية التي تقوم بها القوات البحرية، واستخدام “أسلحة المواجهة” إذا لزم الأمر كبديل عن القوات البرية.

وعلى الرغم من أن مدرسة ضبط النفس لا تدعو فقط إلى الانسحاب من الشرق الأوسط، بل من أوروبا وآسيا، إذ يعتقد عدد من أنصارها بضرورة انسحاب الولايات المتحدة من حلف الناتو لتترك للأوروبيين مسؤولية الدفاع العسكري عن أنفسهم؛ إلا أن المقالة تجادل بأنه ليس من المنطقي أن تقوم الولايات المتحدة بذلك لتترك المجال لكل من روسيا والصين للسيطرة على أوراسيا، وتشجع خصومها على السيطرة عليهم، وهو الهدف نفسه الذي دفع واشنطن إلى الانخراط في الحرب العالمية الثانية؛ فضلًا عن أن الإستراتيجية الأمريكية في أوراسيا تميزت بنجاحها مع قلة التكاليف مقارنة بالإستراتيجية المتبعة في الشرق الأوسط، فخطورة البقاء في هذه المناطق لحمايتها من الخصوم الدوليين ستكون أقل تكلفة في حالة تخلي الولايات المتحدة عنها والاعتماد على التواجد الاقتصادي والدبلوماسي، ثم عودتها لكي تمحو آثار غيابها وتصحح الأوضاع القائمة.

وبناءً على ما سبق، من الممكن توفير أرضية مشتركة وحل وسطي من خلال الانسحاب الأمريكي المصحوب بالتمسك بـ”الجوهر الإستراتيجي”، لاسيما أن عددًا متزايدًا من الليبراليين باتوا مقتنعين بضرورة انسحاب وتقليص الدور الأمريكي في الشرق الأوسط. وفي هذا السياق، يعتقد مستشار الأمن القومي لبايدن “جيك سوليفان”، وهو أحد المدافعين عن الأممية الليبرالية؛ أن الولايات المتحدة يجب أن تنهي مشاركتها في الحروب الأبدية في الشرق الأوسط إلى الأبد.

2- الحفاظ على الاستقرار في النظام العالمي من خلال تبني نهج أكثر مرونة وواقعية بالتراجع عن “النظام الليبرالي التوسعي” الذي أشرفت عليه الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية. ولكن في ضوء ذلك تؤمن مدرسة ضبط النفس بضرورة التخلي عن “الهيمنة الليبرالية” بشكل تام باعتبارها بمثابة “وهم كبير”، وأي حديث عن دور الليبرالية في ترسيخ استقرار النظام الدولي هو ضرب من ضروب الخيال.

وفي المقابل، يرفض الليبراليون التراجع والتخلي عن الهيمنة الليبرالية ولو بمقدار محدود، إذ يدعو الباحث الليبرالي “جون إيكينبيري” الولايات المتحدة إلى بناء نظام مفتوح ومتعدد الأطراف من خلال استعادة المشروع الليبرالي الدولي عن طريق التحالف مع الدول الديمقراطية الرائدة ذات التوجه الليبرالي.

ووفقًا للمقالة لا يمكن للولايات المتحدة وحلفائها العودة إلى تبني النظام الليبرالي الذي بدأ في التشكل في الأربعينيات لإعادة استخدامه في القرن العشرين، وإنما لا بد من إدخال بعض التعديلات لكي يتمكن من التكيف مع معطيات الوضع الراهن، الذي يشير إلى اتجاه كل من روسيا والصين لمحاولة تأسيس نظام جديد كبديل عن النظام الليبرالي في ظل عدم استعدادهما للعمل وفقًا للمبادئ والأعراف الغربية، ومحاولة تقويض النظام الحالي وإصابة الديمقراطية في مختلف أنحاء العالم بحالة من الركود.

وتزداد الأمور صعوبة في الوقت الحالي للخلاف القائم بين الجمهوريين والديمقراطيين حول حاجة الولايات المتحدة إلى العزلة أو الشراكة العالمية، فعلى الرغم من أن الديمقراطيين يبدون أكثر انفتاحًا للشراكة العالمية، إلا أن الجمهوريين في عهد ترامب فقدوا شغفهم في هذا الإطار، وهو ما سيمثل تحديًا لقدرة إدارة “بايدن” على إبرام الاتفاقيات والمعاهدات في المستقبل، التي تحتاج إلى موافقة مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الديمقراطيون بأغلبية ضئيلة. ولا ينفي إعاقة الجمهوريين المحتملة لتحول الولايات المتحدة نحو التعددية مرة أخرى من حقيقة أن واشنطن لا تستطيع مواجهة التحديات العالمية بمفردها، ولكنها تحتاج إلى التعاون مع الشركاء والحلفاء ذوي التفكير المماثل.

ومن هذا المنطلق تتطلب إستراتيجية “التموضع الحكيم” التأكيد على أهمية الاتفاقيات غير الرسمية والعهود الطوعية كبديل عن المؤسسات الدائمة، ومن ثم هناك حاجة إلى تجاوز الانقسامات الداخلية والدولية بمختلف الدول، والعمل على صياغة إجماع للوصول إلى عالم متعدد الأقطاب يقبل بتنوع الأيديولوجيات. ووفقًا للمقالة، هناك حاجة إلى اتباع الولايات المتحدة النظرية التي تدعو الدول الليبرالية للعمل مع تلك غير الليبرالية لكي تتمكن من تحقيق الأهداف.

3- إعادة تجديد الخطاب المتعلق بكون الولايات المتحدة دولة استثنائية في النظام الدولي، ولكن مع تأكيد أنه لا غنى عنها. فعلى مر التاريخ استخدمت الولايات المتحدة فكرة التفرد الأمريكي لتكون بوصلة الكثير من التحركات الخارجية، ومحاولة إعادة ترتيب العالم لكي يتماشى مع صورتها الخاصة، وهو الأمر الذي يتطلب إعادة تجديد الخطاب المتعلق بالتفرد الأمريكي واستعادة المفهوم الأصلي بين الأمريكيين. ومن ثم فإن هناك حاجة للولايات المتحدة للتعامل مع العالم كما هو وليس كما ترغب هي أن يكون، مع العمل على إصلاح الداخل الأمريكي لكي تتمكن من إقناع العالم بكونها النموذج الأجدر أن يُتبع في ظل الاستقطاب السياسي الشديد في الآونة الأخيرة الذي عمل على تقويض النموذج الأمريكي. وتتمثل أولى الخطوات في سبيل تحقيق ذلك في معالجة التحديات الداخلية، ومنها -على سبيل المثال- عدم المساواة العرقية، وعدم العدالة الاجتماعية، وانعدام الشعور بالأمن الاقتصادي.

إمكانية التوافق حول الأولويات

وتوصلت المقالة إلى أن إستراتيجية “التموضع الحكيم” للمشاركة الأمريكية والانخراط في النظام الدولي تتيح أرضية مشتركة لإمكانية التوافق بين الحزبين الرئيسيين الديمقراطي والجمهوري، واتباع سياسة خارجية مشتركة، لاسيما في ظل رغبة عدد كبير من الأمريكيين، وفقًا لاستطلاعات الرأي، في إنهاء الحروب الأبدية.

وهناك مجال آخر لتوافق الحزبين، ألا وهو الحفاظ على الالتزامات الأمريكية بحلف الناتو وفي منطقة أوراسيا؛ كما أنه من الممكن أن يتفق الديمقراطيون الساعون إلى التعددية مع الجمهوريين الذين يرغبون في تشارك الأعباء العالمية.

وقد تحققت نبوءة الكاتب “والتر ليبمان”، التي ذكرها عقب الحرب العالمية الثانية، والمتعلقة بأن الولايات المتحدة قد يأتي عليها وقت تشهد فيه انقسامًا حادًّا إلى درجة عدم قدرتها على اتباع سياسة خارجية متماسكة، وهي في الوقت الحالي لم تعد قادرة على الحفاظ على إستراتيجية ثابتة، إذ إنها تتأرجح مع كل تغير للسلطة.

hespress.com