يرى الدكتور عبد الله بوصوف، الخبير في العلوم الإنسانية، أن من السهل جدا الانخراط في حفل “البكاء الجماعي” عندما يتعلق الأمر بالتفكير في مستقبل المغرب بكل رهاناته وتحدياته وإكراهاته.

لكننا في الوقت الراهن، يستدرك بوصوف في مقال جديد له، “نحتاج إلى الموضوعية، وأيضا إلى الكثير من الأمل والرفع من معنويات كل الفاعلين وكل الفرقاء في هذا البلد.. لأنه لا جدوى من الإفراط في النقد لدرجة جلد الذات. لكن النقد البناء مُرحب به لأنه ينقلنا إلى فُسحة التصحيح والتعديل والأمل”.

ويضيف بوصوف أن أي قراءة اليوم لواقع ومستقبل المغرب، مثلا، تغيب عنها تداعيات “كورونا”، تبقى “قراءة هشة وصورة تنقصها العديد من الأجزاء والمكونات”.

عن عالم ما بعد “كورونا”.. ما بعد “الترامبيزم”.. ومن الحروب التجارية إلى الثقافية.. يبحر بنا بوصوف في مقاله الجديد.

وهذا نص المقال:

يعكف العديد من المفكرين والمثقفين داخل الصالونات الثقافية أو مجموعات التفكير (تينك تانك) على محاولة استشراف المرحلة القادمة، وفك خيوط العديد من المعادلات، التي تتحكم في خرائط الاقتصاد والمال والتحالفات السياسية والعسكرية، وكشف أنماط جديدة للقوة الناعمة.

وليس غريبا أن نقف على اختلاف وجهات النظر في أغلب مُخرجات وخُلاصات تلك المجموعات، وهذا راجع بطبيعة الحال إلى اختلاف الخلفيات الأيديولوجية والقناعات الفكرية لتلك المجموعات أو الصالونات الثقافية. لكنها تشترك في قواسم موضوعية فرضتها الظرفية السياسية، والتحالفات الاستراتيجية، وإكراهات الأزمة الاقتصادية العالمية، وكذا جائحة “كوفيد- 19”.

إذ لا يمكن الادعاء بموضوعية أي قراءة استشرافية للمستقبل دون التوفر على قراءة واقعية لهذا المستقبل المحفوف بالتحديات والإكراهات، وفي الوقت نفسه ضرورة ضخ جرعة من الأمل، وتخصيص مساحات إيجابية في رقعة القراءة، رغم كل ما نعيشه ونقرؤه عن مآس هنا وهناك لأنه لا يمكننا الحديث عن المستقبل بدون إشراقات أمل.

فالقراءة الواقعية لما عليه العالم اليوم يطغى عليها مصطلح “الأزمة”، فهناك أزمة قيم أخلاقية، وأزمة أيديولوجيات تحتاج إلى مراجعات قوية، وأزمة تحالفات سياسية واقتصادية صِيغَت في سياقات مغايرة، وأزمة تدبير ملفات شائكة مثل الهجرة والإرهاب الدولي والإسلاموفوبيا.. ورغم ذلك، فإن العالم يحاول الانبعاث من جديد رغم كل أزماته.

لكن ونحن نحاول القيام بتلك القراءة تستوقفنا محطتين هامتين، أولاهما جائحة “كورونا”، وثانيتهما نهاية “الترامبيزم”، لما لهما من تداعيات عالمية جعلت أغلب الدول تعيد ترتيب بيتها الداخلي وأولوياتها، ومن بين تلك الدول طبعا وطننا المغرب.

فمن السهل جدا الانخراط في حفل “البكاء الجماعي” عندما يتعلق الأمر بالتفكير في مستقبل المغرب بكل رهاناته وتحدياته وإكراهاته. لكننا في الوقت الراهن نحتاج إلى الموضوعية، وأيضا إلى الكثير من الأمل، والرفع من معنويات كل الفاعلين وكل الفرقاء في هذا البلد. إننا نعتقد أنه لا جدوى من الإفراط في النقد لدرجة جلد الذات، لكن النقد البناء مُرحب به لأنه ينقلنا إلى فُسحة التصحيح والتعديل والأمل.

نعم فالواقعية تُلزمنا بالقول إن هناك خصاصا في العديد من القطاعات ببلادنا، وأن هناك أزمات في تدبير العديد من الملفات، والاعتراف بوجود الكثير من الانزلاقات والإخفاقات. لكن الواقعية نفسها تلزمنا بالقول إن المغرب كانت له الجرأة بالاعتراف بضرورة تغيير العجلة، وأن طرح تصور جديد للنموذج التنموي بمقاربة تشاركية ضرورة حتمية. كما استطاع تجاوز امتحان جائحة “كورونا” بأقل الخسائر مقارنة بدول قريبة جغرافيا أو متقاربة في الوضعية الاقتصادية.

لذلك فإن أي قراءة اليوم لواقع ومستقبل المغرب، مثلا، تغيب عنها تداعيات “كورونا”، تبقى قراءة هشة وصورة تنقصها العديد من الأجزاء والمكونات. وهذا ما يعلل تأخير تقديم تصور للنموذج التنموي الجديد، مثلا، حتى تُتَاح الفرصة للنموذج التنموي الجديد لاستيعاب ما عرت عنه الجائحة من أعطاب اقتصادية واجتماعية وثقافية.

والشيء نفسه يقال عن أي قراءة لا تستحضر الاستحقاقات القادمة، وما حمله القانون التنظيمي الجديد من بشائر التخليق والمساهمة في صناعة جيل جديد من الفاعلين السياسيين والحزبيين، والانتصار للنوع من خلال التمييز الإيجابي بالرفع من تواجد نون النسوة في كل المجالس المحلية والجهوية والبرلمان لأن المشهد الحزبي بالمغرب وتجديده وتدعيمه بمراكز التفكير وقنوات التواصل وضخ دماء جديدة ووجوه جديدة فيه هو أحد الرهانات المستقبلية للمغرب.

وكل قراءة تُهْمِل هندسة الثورة الاجتماعية في الأفق القريب والمتوسط، سواء على مستوى توسيع التغطية الصحية أو التغطية الاجتماعية، تجعلها قراءة مجانبة للواقعية ولا تقف على أرضية صلبة.

كما أنه لا يمكننا قراءة مستقبل المغرب بدون استحضار مستجدات ملف الوحدة الترابية والوطنية، أي الصحراء المغربية، سواء من خلال قراءة كل قرارات مجلس الأمن الدولي، خاصة في السنوات الأخيرة التي تدعم مبادرة الحكم الذاتي كحل واقعي وسياسي توافقي وسلمي، أو من خلال افتتاح القنصليات بمدينتيْ الداخلة والعيون بالصحراء المغربية، أو أخيرا من خلال اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بمغربية الصحراء إلى الحدود الموريتانية، وضم أوراق هذا الاعتراف إلى الأوراق الرسمية للقضية داخل مجلس الأمن الدولي المكلف حصريا بملف الصحراء المغربية.

ومن شأن هذه الاعترافات وتدشين القنصليات أن يُساهم في جعل المناطق الجنوبية المغربية أكثر “جذبا” للاستثمارات الأجنبية، وبالتالي المساهمة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وربط المغرب بعمقه الإفريقي.

وهي قراءات في مُجملها، شِئنا أم أبينا، تغلب عليها كفة الأمل في مغرب يجتهد من أجل التصحيح والتعديل والبناء. مغرب مراكز التفكير والطاقات الشابة، سواء بالمغرب أو من قبل مغاربة العالم، الذين يشكلون خزانا كبيرا من الكفاءات والخبرات الواعدة، ويساهمون في دعم عناصر التنمية الاجتماعية والمجالية بالمغرب. إذ لا يمكن قراءة مستقبل المغرب بدون إشراك مغاربة العالم.

وبطبيعة الحال، فإن قراءة المستقبل، بتحدياته ورهاناته، تعني أيضا ما يقع خارج المغرب، سواء في البيت الإفريقي أو بالمتوسط أو بالدول الأوربية، وكذلك بالولايات الأمريكية. وهنا أيضا أثرت جائحة “كورونا” في تغيير الكثير من الميكانيزمات التي كانت تحكم العلاقات الدولية، وتصدرت آليات جديدة في مجالات التحالف أو التفاوض كديبلوماسية الكمامات مثلا أو الديبلوماسية الصحية كنوع جديد من القوة الناعمة، وسباق المختبرات العالمية من أجل التوصل إلى لقاح فعال لـ”كوفيد- 19″.

كما عرت “كورونا” عن أزمة غير مسبوقة للعلمانية في الدول الغربية، عندما تم إغلاق الفضاءات العمومية للعبادة بأوامر السلطات الحكومية وليس رجال الدين، وهو ما أثار حفيظة بعض رجال الكنيسة، وخففت من حدته وتداعياته فقط بعض قرارات وتصريحات الفاتيكان.

كما أثرت نهاية “الترامبيزم” بإعلان تغييرات في معالم العالم بعد زمن “كورونا” وفي تكتلاته وأحلافه، وتغيير بوصلة العالم والأيديولوجيات من ترويج فكرة “الحروب التجارية” إلى تبني فكرة جديدة، أي “الحروب الثقافية”.

وهكذا فإن أغلب المحللين ينحازون إلى فكرة إحياء نقاشات التاريخ والإرث التاريخي للدول الاستعمارية، والتاريخ المشترك للدول المُستعمَرة والاستعمارية بين الجاليات في الدول الغربية، بالإضافة إلى مواضيع الإسلام والعلمانية والانعزالية الإسلامية والمسلمين في البدان الغربية، وإشكالية الرموز الدينية، وطرح إشكاليات معرفية وتاريخية تتعلق بإشكالية المقابر، مثلا، في الديانات المختلفة، وكذا الدعوة إلى إعادة قراءة التراث. دون إغفال الإشارة إلى ما يُعرف الآن بـ cancel culture أو “ثقافة الإلغاء” بالدول الغربية، التي انتشرت بقوة، خاصة بعد مقتل الأفروأمريكي جورج فلويد في ماي 2020، وما تبعه من موجة استنكار ومسيرات عارمة وتدمير تماثيل شخصيات عالمية اشتهرت في مجالات الاكتشافات الجغرافية وكذا الفلسفة والفكر والفن، اتهمها أنصار هذا التيار بالعنصرية والتمييز الجنسي.

لذلك فإن الاعتقاد السائد الآن هو أن المرحلة القادمة بعد نهاية فترة ترامب أو “الترامبيزم” سيغلب عليها العنصر الثقافي والحقوقي والتاريخي.. وهو ما يعني الاتجاه من ساحة الحروب التجارية إلى ساحة الحروب الثقافية.

hespress.com