الفنيدق ليس عنوانها الوحيد، فأطياف “كاستياخو الإسبانية” تجيد جدا حكمها على “حبال الوسط”، اسما وهوية، واقتصادا كذلك.. جانب جبال شمال المغرب، لم تلحق المدينة حظ ملامسة “حسم مطمئن”، لتتوقف معلقة على “سرير بروكرست”، كل يريدها على هواه، بين قرارات وطن ومرارة رغيف، حوصر السكان بعد إغلاق المعابر الحدودية مع سبتة، لتدفن “الحاجة” كل “السحر” المحيط بالمدينة، ويختبئ الرجال على شريط مقاه عتيقة تستقبل أمواجا سبتية متحسرة على زمن قد فات.
دخول المدينة المرتفعة ليس عاديا، بعد طريق انطلقت من العاصمة الرباط، فألوان الشمال تبدو مختلفة دائما، لكن رومانسية مشاهد المنعرجات، لم تخف وشايات جوار الفنيدق بأزمة خانقة تستبد بالبلاد، بدأت منذ سنة وأكثر قليلا، واستكان معها الجميع إلى وضع رتيب غابت معه بدائل التشغيل، وأعاد علامات “سؤال الضحية” في النفوس، بعد أن دامت المُهادنة عقودا من الزمن.
التجوال بالفنيدق لا يبدو مغريا لأحد على ما يبدو، منذ ساعات وصول فريق هسبريس إليها.. الأزقة خاوية تماما باستثناء حركية قليلة على “كورنيش”، ينتهي بوصول منطقة حدودية، يرابط جوارها رجال شرطة لصد متسللين، يعلمون جيدا طريق “الكلانديستينو”؛ فأمام انسداد أفق هروب بري كان يكلفهم 6 دراهم يوميا، بات الوصول الآن مليئا بأثواب الموت ورِفقة البحر والقمر، دال “الحاركين” على “أضواء بلاد سبتة”.
حصار في الواد
على هوامش أحياء الفنيدق المنظمة، تترامى أطراف “حومة الواد”، وهي مختلفة تماما عن باقي المدينة بناء وألوانا.. ملامح الفقر بادية على النساء اللواتي يضم بعضهن أطفالهن الصغار، فيما اكتفى الشباب بمراقبة السيارة ذات “الماتريكول 1″، منتظرين مَن الغريب القادم إلى حيهم رتيب الأيام دون عمل أو تمدرس أو “ديوانة”.
حي الواد يضم أكبر نسبة من “البراكديا” (نساء يشتغلن في التهريب المعيشي).. هكذا تقدم لطيفة نفسها لهسبريس، متحسرة على مدخول توقف، بعد 25 سنة من العمل في “الديوانة”.. “أنا الآن دون عمل بقيت دون معيل منذ إغلاق أبواب الحدود، لولا تمكيني من مسكن مجاني لبقيت حبيسة شوارع المدينة”.
تسعة أشهر دون دفع إيجار الكراء، بادية على سحنات أمّ ثلاثة أطفال يتامى، مُسترجعة أيام مجدها في باب سبتة وتقول: “كنا نغطي جميع احتياجاتنا، من خلال أعمال السخرة وتهريب الملابس أساسا، لم أتسول درهما من أحد؛ لكن الآن نحن “مكرفصين”، لا وجود لأي بديل اقتصادي يشغلنا”.
“فين غانمشي”.. عبارة قاسية تطلقها لطيفة مرارا وهي تكتم دموعها الحارة، فيما لم يكترث الأطفال كثيرا لما يجري حولهم، متجمعين في غرفة واحدة تأويهم رفقة أمهم، التي تؤكد أن المدينة تعيش تحت وقع حصار اقتصادي كبير؛ فلا عمل ولا مدخول يلوح في الأفق، الذي راحت به سبتة بعيدا جدا.
ألف درهم ربح يومي
في عمق حي الواد كذلك.. تطلب الوصول إلى عبد السلام صعود أدراج نصبت بشكل عشوائي وسط التلال.. دخول منزل الرجل الطاعن في السن لا يبدو في متناول الجميع، بعد أن حاصرت جدرانه رطوبة قاسية، استطاع تحملها لسنوات؛ لكنه في المقابل ينهزم أمام إغلاق “الديوانة” التي يعتبرها مصدر رزقه الوحيد منذ عقود.
“اشتغلت في الديوانة منذ 1969 إلى غاية آخر يوم إغلاق، وعشت معها أياما ميسورة ماليا؛ لكن بعد الجائحة انتهى كل شيء، لا أشتغل في سبتة وهنا كذلك.. كل الأبواب التي أطرقها تقول إن عمري تجاوز المسموح به؛ لكن مرارة الواقع تفرض علي الاشتغال لتغطية مصاريف العيش والتطبيب”، يقول عبد السلام.
هذا الرجل الطاعن في السن، والذي يكابد قساوة العيش في منزل غير مجهز والذي يسهر على رعاية ابن مختل عقليا، يستعيد مشوار عمله داخل سبتة؛ فقد كانت منتوجات فلاحية (خضر وفواكه) يحملها من الفنيدق إلى أسواق المدينة المحتلة وأخرى يخرجها صوب الفنيدق (ملابس – معلبات) كافية لربح ألف درهم تغنيه عن كل شيء.. الكل يربح من سبتة يسرد عبد السلام، وأقل مبلغ يكون هو مائتي درهم في اليوم.
عبد السلام، الذي لم يعد بأي طموح سوى الرغيف، لا يخفي أن الحياة قست كثيرا بعد إغلاق السلطات للمعابر الحدودية وأن الزمن عبث بحالته الجسدية؛ فلم يعد الرجل قادرا على تحمل مزيد من الأتعاب المضنية، التي كانت تغني عنها بعض من عائدات سبتة.
معاناة عاملات قانونيات
خرجنا من حي الواد بمعاينات قاسية تخفف حدتها مشاهد سحب هاربة تميل بدورها نحو سبتة، واتجهنا صوب قلب الفنيدق، للقاء بعائشة، عاملة قانونية بسبتة لأزيد من 30 سنة.
تحكي المرأة الخمسينية عن مرارة تعيشها المدينة، بعد إغلاق المعابر الحدودية، قائلة: “لم أتخيل يوما أن أتابع قسوة عيش أكثر من التي يكابدها الناس الآن”.
أزمة سبتة لم تؤثر فقط على “عاملات التهريب المعيشي”، فالحدود أغلقت كذلك في وجه “عاملات قانونيات”؛ منهن عائشة، التي لا تخفي تأثرها بما تعيشه المدينة: “الرجال يذرفون الدموع هنا”.. تقول بمرارة، وتعتبر الكل منهكا بواقع الفنيدق ونفاد كل المدخرات، ليظل الملجأ الوحيد هو “مال الإحسان”، والذي سينتهي هو الآخر في حال طول أمد الأزمة.
“البديل غائب وفرص الشغل إلى حدود اللحظة محدودة، ألتقي يوميا نساء أصبحن متسولات” تسرد عائشة لهسبريس، قبل أن تحكي عن معاناة العاملات القانونيات بدورهن، حيث فقد أغلبهن عملهن القانوني داخل سبتة، كما تعانين من مصاريف كثيرة بالمغرب؛ أولها التطبيب، الذي يمكَّن منه مجانا في المدينة المحتلة، في حين أنه يتطلب دفعا هنا.
وتواصل العاملة القانونية السابقة بسبتة سرد “مأساة مدينة”: “راعيو وحسو بالناس”، هناك عائلات كثيرة تعيش من المعابر فقط. أخرى لا تعيلها سوى النساء فيما الأزواج مقعدون أو معطلون.. “كلشي مات في المدينة”، يجب على المسؤولين إيجاد حلول حقيقية لإنقاذ الناس من التسول و”الحريك”.. الفنيدق صارت منكوبة تعاني العوز.
طرد من العمل
على منوال حديث كل “الفنيدقيات”، لم تخف سميرة، وهي عاملة قانونية بسبتة، حسرتها على ضياع “استقرار في المتناول”، مؤكدة أن واقع حال ثلاثة آلاف عامل مرخص له يُبرز يأسا حادا جراء غياب أفق للحل وضعف البدائل التي قد تقترحها الدولة مستقبلا، خصوصا أمام الأجور التي كان يتقاضاها العاملون بسبتة، مقارنة بالرائج هنا.
سميرة، التي التقتها هسبريس في “كورنيش’ شبه فارغ، ترفض فكرة “التوظيف بالسميك” هنا. كما ترى عديد الامتيازات التي يستفيد منها المشتغلون بسبتة قد تمضي في مهب الريح، والبداية من الضمان الاجتماعي والتطبيب المجاني، خاتمة بنبرتها الحادة: “حنا الدولة كانت هازا يديها علينا”.
“عملنا على بعد أمتار قليلة من الفنيدق؛ لكن زيارته الآن تقتضي الذهاب عبر مالقا”، تضيف المتحدثة، التي تذكّر بدينامية اقتصادية تمكن العاملون بسبتة من خلقها، ولم ينالوا سوى التهميش، ومنهم دكاترة وحرفيون وصانعون، يعانون البطالة الآن، بعد إغلاق المغرب لحدود سبتة، واضطرار الطرف المشغل لفسخ العقود مع الموظفين جراء الغياب.
غرق مدينة
“موسم الهجرة إلى الشمال” لم تكن فقط عبارة مدهشة على صدر رواية، بل واقعا يحمل فقراء الفنيدق صوب “موت مشتهى”؛ فالعديد من شباب هذه المدينة راح ضحية طموحات الضفة الأخرى على امتداد فترة إغلاق الحدود البرية.
هسبريس التقت سعيدة، في منزلها المتواضع الأنيق، وتحكي جرح ابنها الغائر بدموع حارة ولكنة شمالية بادية: “تسدات الديوانة ومشا ولدي حرك ومرجعشي”.
سعيدة، التي لم تتمالك دموعها طوال لحظات اللقاء، تتذكر بحسرة الآلام ابنها المسؤول عن عائلة والأب لطفل صغير، وهو لا يجد ما يسد به رمقه بعد إغلاق “الديوانة”، وغياب بدائل تشغيل أخرى.. مضى الابن عوما صوب سبتة في ظلام الليل الحالك لأزيد من 10 ساعات فوصل المدينة، التي أرادها أن تكون نقطة انطلاقة جديدة نحو الاستقرار بإسبانيا عبر “الخزيرات”.
السادسة صباحا دخل سبتة، تواصل مع أمه التي لم تعلم قط بالعملية، أخبرها بوصوله وانطلاقه صوب إسبانيا عبر زورق، لم يكن يدري أنه سيحمل أخبارا دونه بعد أن غاب التجاوب مع رسائل الأم التي تتذكر التاسعة و18 دقيقة من صباح مشؤوم سقط فيها ابنها إلى المياه وضاعت جثته إلى حدود كتابة هذه الأسطر.
ثلاثة تمكنوا من العبور فيما ضاع أربعة منهم، عثر على جثث بعضهم على الشط؛ فيما غاب “ابن سعيدة”، التي بقيت على تلال “سيدي بوغابة”، أعلى أحياء الفنيدق ارتفاعا، منتظرة نهاية لقصة أنهكت شمالا يرمق الضفة الأخرى بحنو طفولي راغب؛ لكنه يكتنز كل كدمات “معابر العار” أو “معابر الرغيف”، لكل منا زاوية نظر.