الأحد 14 فبراير 2021 – 02:50
لا يخفي المترجم السوري الشاب عبد المجيد معاوية أسراره وطقوسه في الكتابة والترجمة، فهو يذهب إلى نصوصه “عاريا” ومجردا من كل شيء، وعندما تسأله عن “حميميته”، يجيب بكل طلاقة وعفوية، إنه كائن “ليلي” لا يخضع لمزاج النهار، وفي المساءات الطويلة، يولد النص الأصلي وتُخلق عوالم جديدة من النصوص التي يترجمها وينقلها إلى القارئ العربي.
هو مترجم من اللغة الإيطالية برز اسمه بشكل كبير خلال الأعوام الأخيرة، صاحب ترجمة رباعية “مقبرة الكتب المنسية” للكاتب الإسباني المعروف كارلوس زافون، ورباعية نابولي للكاتبة الايطالية مجهولة الهوية إيلينا فيرانتي، صاحبة الرواية الجميلة “صديقتي المذهلة”، دون أن نغفل اهتمام المترجم بنصوص الكاتب السيميائي أمبرتو إيكو.
ترجم نصوصا كثيرة تتغنى بالحياة، والأسطورة، والمأساة، والحب الذي “ينير في صدورنا أعظم سجيّة لدى الإنسان: الرأفة، التي بفضلها تتبسم شفاه التعيس الذي تحتم عليه العويل. من خلالك تحيا في الكائنات متعة الإخصاب، فلولاها لاستحال كلّ شيء إلى عدم وفوضى. إن أنتَ هجرتنا يا حب، أمست الأرض بخيلةً، والأحياء أعداء متناحرين، والشمس نارا خبيثة، والدنيا بكاء وذعرا ودمارا كونيا. أما وقد أنرتَ روحي بشعاع واحدٍ منك نسيتُ الشقاء، وسخرت من وعيد القَدر، وتنزَّهتُ عن مغريات المصير”، كما نقل في الرسائل الأخيرة لياكوبو أورتس أوغو فوسكولو.
هنا نص الحوار:
أنت مترجم من اللغة الايطالية. هذه اللّغة المنسية لا تثير فضول المهتمّين والباحثين العرب رغم تاريخها وعراقتها وجماليتها في التّوصيف الدّقيق، هل تشعر لمّا تكون أمام النص الأصلي وتحوّله إلى نص جديد، أي بعد فعل التّرجمة مباشرة، بأنك ارتكبت “خطأ تاريخيا”، بمفهوم “دو سوسير”، بعدم نقل كل ما يمكن نقله إلى القارئ “المختلف” الذي لا يفكر فيه الكاتب الأصلي؟
إنّ الربط بين عدم الإقبال الهائل على اللغة الإيطالية وآدابها وبين عدم كفاءة المترجمين العرب من الإيطالية هو مجحف حقًّا، لأنّ المترجمين العرب قاموا بما يستطيعون فعله لنقل الأعمال الإيطالية إلى العربية، وقد تلقى اللائمة على المؤسسات الثقافية العربية التي لم تنفتح على الإيطالية إلا مؤخرا. وبإمكاننا أن نلقي اللوم أيضًا على الإيطاليين أيضًا، لأنهم لم يهتموا بتعميم أدبهم في منطقتنا بقدر اهتمامهم بتعميمه في أماكن أخرى. ولكننا اليوم نشهد إقبالًا ملحوظًا على إشباع النفس من قراءة هذا الأدب، يوازيه إقبال كبير من دور النشر لنقل ما يمكن نقله إلى العربية، وأخيرًا وليس آخرًا نشهد طفرة في عدد المهتمين والمترجمين من الإيطالية مباشرة، وهذا أمر جيد نسعى بكل إمكانياتنا لتطويره.
حقّقت “رباعية زافون” نجاحا مبهرا في العالم بأسره، وقد نقلتها أنت إلى اللغة العربية بدقّة فائقة وبفضلك استطاع القارئ العربي اكتشاف عوالم “كارلوس زافون” وما يريد أن يقول للعالم، هل تشعر بأنّك استطعت حقّا إيصال صوت زافون إلى جمهور لا يتقاسم معه البيئة نفسها ولا الثّقافة ولا التّاريخ والهوية؟
بات لزافون جمهور من القراء العرب، وكل يوم يولد قارئ جديد محب لروايات زافون. من جهتي فعلت ما بوسعي لفهم نصوصه وحرصت على التوفيق بين ما يقدّمه باللغة الأصل من رسم للشخصيات والزمان والمكان وبين قابلية اللغة العربية للترحيب بهذا القادم الجديد. وسأعمل هذا العام على نقل كافة أعماله لتكتمل الصورة لدى القارئ العربي، وسأترجم بقية أعماله بالشغف ذاته لأني أعرف أن القراء العرب يتلهفون لقراءة زافون كاملًا.
هل تستطيع الرواية أن تخدش الحياء العام؟ هذا السّؤال شغل بال العديد من الكتّاب والقرّاء، وأنت تقول بأنّها لا تستطيع، لأنها (أي الرّواية) مخصصة لقراءة فردانية انعزالية عميقة. لا وجود للحياء بين الإنسان ونفسه. هل من توضيح أكثر لهذه الفكرة؟
المضمون الفني محكوم بالشكل، فإذا اختار الكاتب لمضمونه شكل الرواية فهذا لأنه يعرف مسبقا أنها ستقرأ في حالة انعزالية. والحياء العام واضح من اسمه أنه موجود ضمن اجتماع البشر ببعضهم: قد يقرأ الرواية آلاف القراء لكنهم لن يقرؤوها مجتمعين، إنما كل قارئ سيقرأها بمفرده، فأين الحياء العام في هذا؟ نحن هنا لا نتحدث عن الأفلام الإباحية التي تتجاوز الحياء العام وتتخطاه، إنما عن شكل فني يهدف في صميمه إلى تفكُّر الإنسان وتنشيط مخيلته، وهذا لا يمكن أن يتم إلا بكل قارئ على حدة. هنا تسقط نظرية الحياء العام برمّتها. قد نتحدث عن طهرانية تمنع المرء حتى من تخيل المشهد الحميمي، لكنها ليست حياء، بل طهرانية. وهؤلاء لديهم أشياء أهم وأسمى من الرواية ليقرؤوها. كما أن السياق هو الذي يحدد مسار المشهد الخادش للحياء في الرواية: فحين نتحدث عن بيت دعارة لا يمكن لنا إلا أن نستخدم التوصيفات السائدة داخل بيت الدعارة. هذا لا يعني أن الرواية تحرض على ترخيص بيوت الدعارة، بل على العكس هي تتسلح بكل ملامح ذلك المكان لتصل إلى درجة إقناع القارئ بأنه أمام مشهد متكامل حبّذا ألّا يكون جزءا فيه. وقد نتفق مع الكاتب أو نختلف معه، لكن الحكم الأخلاقي الذي هو من وظيفة القارئ لا يمكن أن يبنى إلا على أساسات قوية ومقنعة. الكلام يطول في هذا الجانب بالطبع.
أريد أن أعود معك إلى طقسك الحميمي في الكتابة والتّرجمة. كيف يكتب معاوية عبد المجيد نصوصه ويترجمها؟ في أي ظروف مكانية وزمنية؟
المكان يتراوح بين البيت والمكتبة العامة. ولكن بعد تفشي جائحة كورونا صار البيت هو الملاذ الوحيد لسوء الحظ. الزمان يتراوح أيضا بفعل الطقس وما ينجم عنه من تقلّب بالمزاج، فأنا في بحث متواصل عن معادلة مزاجية تسمح لي بالترجمة بشغف واحترافية في آن واحد. أترجم في المساء حاليا، في الصيف كنت أترجم في الصباح وبعد الظهر. وأحيانا يمتد العمل إلى الليل، لكني بتّ أرفض العمل في ساعة متأخرة لأنه يخلّ التوازن ويضرب المزاج لأيام عديدة. أقرأ قبل النوم كتابًا سأترجمه، أو كتبًا أخرى لغاية شخصية. في كل الأحوال، الوقت دائمًا ضيّق على المترجم.
انطلاقا من تجربتك الطويلة في مجال التّرجمة من اللغة الإيطالية. بماذا يختلف الكتاب الإيطاليون عن باقي نظرائهم الإسبان والرّوس؟ هل يمكن الحديث عن طبعة خاصة تميٍز الإيطاليين في ما يخصّ اللغة والفهم التّاريخي للذات والطّبيعة والموت والجنس؟
أعتقد أن الآداب الأوروبية خرجت من هذا التنميط وباتت تتيح مجالا واسعا لكل أشكال الفهم التاريخي ومزجه بالبحث عن الذات ومجاراة الطبيعة والتساؤل حول الموت والدوران في مدار الجنس. انفتحت الآداب الأوروبية على بعضها وعلى نماذج أدبية غربية وشرقية، وصار من الصعب تحديد مسار كل أدب على حدة، لأن الكاتب يمثل نفسه في طرح تلك التساؤلات، ويسعى دائما إلى كسب تأييد إنساني خارج نطاق اللغة التي يكتبها أيضا. كما أن الأدب الإيطالي هو أدب عتيق ومتجدد، وهناك مدارس تأويلية متعددة للإحاطة بالتراث وتلقي الموجات الخارجية والتأثر بها. ناهيك عن أن الموضوعات الإيطالية في الأدب لا حصر لها، لديك استحضار العصر الفاشي، وتقبُّل الآخر، وتفكك المجتمع وغيرها كثير.