لا يختلف اثنان عن أن أزمة جائحة كورونا غيرت حياة الملايين من الناس في جميع أنحاء المعمور، وخلفت ملايين الإصابات ومئات الآلاف من الوفيات، أصيب العالم بحالة من الشلل وصار جزرا منعزلة، وأصل لتغيرات جمة لم تشمل الجوانب المادية فقط، بل مست مفاهيم تغيرت أبعادها كمفهوم “أمن الدول”، وهنا باتت الحاجة ملحة إلى إعادة الإعتبار لدور البحث العلمي في المجتمع، من أجل التوصل إلى حلول ناجعة لوقف زحف الأوبئة والفيروسات العابرة للقارات، بل إن الإهتمام بالبحث العلمي صار جزءا من المجهودات الضرورية للحفاظ على الأمن القومي.
في رسالة للمديرة العامة لليونسكو أودري أزولاي بمناسبة اليوم العالمي للعلوم من أجل السلام، صرحت: “ينبغي للعلوم أن تساهم مساهمة كبيرة في تمكيننا من التغلب على الأزمة الراهنة الناجمة عن جائحة كورونا، وفي مساعدتنا على بناء مجتمعات أكثر عدلا وإنسانية واستدامة”، وتعمل اليونسكو حاليا على وضع توصية بشأن “العلم المفتوح”، وفقا للقرار الذي اعتمدته الدول الأعضاء في شهر نونبر 2019، وتسعى من وراء ذلك إلى إﺗﺎحة الانتفاع بكل إمكانيات العلوم وجعلها أكثر شمولية، إلا أن الواقع كشف في زمن كورونا عن أنانية الدول المتقدمة التي احتكرت ابتكاراتها ولقاحاتها لصالح شعوبها أولا، وهو أمر مفهوم في ظل سيادة النظام الرأسمالي المتوحش، مما يدعو الدول السائرة في طريق النمو إلى غرس بذور البحث العلمي في أفق فرض نفسها ضمن معادلة دولية صعبة في المستقبل.
لاشك أن البحث العلمي يلعب دورا في غاية الأهمية في بناء الحضارات وخلق الثروة وتحقيق الرفاه، ولا ريب أن الأمم التي تنتصر للبحث العلمي والتكنولوجي تتربع اليوم على عرش التقارير العالمية سواء التي تصنف الدول على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي، أما بالضفة الجنوبية، فبسبب تراجع مستوى التنمية، وفشل مخططات إصلاح التعليم وانتشار مافيات الفساد التي لا تعير أي اهتمام للإنسان، فإن برامج الحكومات والميزانيات التمويلية الخاصة بمجال البحث العلمي، تجعل مراكز الأبحاث والجامعات بشمال إفريقيا عموما، وبالمغرب خصوصا بعيدة جدا عن السباق العالمي الجديد الذي تفرضه الأوبئة والحروب البيولوجية.
ينفق المغرب على البحث العلمي ما يقل عن 0.8 في المائة من الناتج الداخلي الخام، رغم أن الميثاق الوطني للتربية والتكوين قد أوصى بأن تصل هذه النسبة إلى واحد في المائة سنة 2000، فهي نسبة مع ضعفها لم ندركها بعد، لتظل الحصيلة هزيلة جدا بالنظر إلى المعايير الدولية، فالبنك الدولي ومنظمة الأمم المتحدة يتفقان على أن نسبة الإنفاق المثالي على المجال هي تلك التي تتجاوز2 بالمائة، وإذا كانت تتراوح بين 2 و 1.6 بالمائة فهي جيدة عموما، ومن 1.6إلى 1 في المائة تعتير في وضع حرج، ودون ذلك ضعيفة وهزيلة، ومن أمثلة الدول الرائدة في مجال الميزانيات الضخمة المخصصة للبحث العلمي نجد إسرائيل التي تنفق ما يقارب 5 في المائة من إنتاجها القومي على المجال، ونتائج ذلك معروفة ولا تحتاج إلى تفصيل.
لتجاوز هذا المشكل ولإيجاد موطئ قدم لبلادنا في عالم الأوبئة و الاختلالات الإيكولوجية، لا بد من الرفع من ميزانية البحث العلمي، حتى لا نظل تحت رحمة الدول الصناعية الكبرى، كما وقع ويقع للكثير من الدول النامية التي لم تستطع الحصول على اللقاحات ضد الفيروس القاتل، وإن كان المغرب استثناء على مستوى الدول النامية فذلك راجع للاستراتيجيات الملكية العبقرية والحكيمة.
ولأن المغرب صار قوة إقليمية لا يستهان بها، و لأن المغاربة متألقون في مجال العلوم بشتى أنواعها، بل إن هناك علماء كبار من أبناء وطننا صار لهم صيت عالمي بفضل مساهمتهم الكبيرة في تطوير العلوم والإبتكارات خدمة للبشرية، و يكفي أن نذكر العالمين منصف السلاوي الذي أشرف على تطوير لقاح موديرنا بتكليف من رئيس أقوى دولة في العالم، و علال بوتجنكوت الخبير العالمي الذي يشرف حاليا على تطوير لقاحات ضد داء الزهايمر وباركينسون، وهما معا نموذجان فقط من بين علماء آخرين أبانوا عن علو كعبهم في مجال الإختراعات والإبتكارات والأبحاث العلمية.
سيكون مفيدا جدا أن يفكر المغرب في إنشاء أكبر مركز للأبحاث العلمية في المنطقة، مركز يشرف عليه خيرة علمائنا داخل وخارج الوطن، من خلال تقديم تحفيزات مهمة لهم، على شاكلة المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي وجمعية ماكس بلانك الألمانية والأكاديمية الصينية للعلوم ومراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها الأمريكية ومجلس البحوث الطبية ببريطانيا، لا يمكن أبدا أن نكون طوباويين لنسعى إلى مجابهة معاهد كبرى في ظروفنا الحالية وإمكانياتنا البسيطة، فهذه المعاهد راكمت تجارب كبيرة في المجال وتخصص لها ميزانيات ضخمة جدا، لكننا نستطيع أن نخطو خطواتنا الأولى على هذا الدرب خدمة لمستقبل المغرب و الإنسانية، وأول الغيث قطرة.
مركز بإمكانه أن يشرف على إنشاء مختبرات للبحث العلمي تقوم بإنتاج اللقاحات والأدوية و القيام بأبحاث في مجالات متعددة كالطب والطاقات المتجددة و البحث الزراعي، و إنشاء وتطوير مختبرات داخل معاهد الطب والهندسة وغيرهما، كما يمكنه الإشراف على تدريب الباحثين الشباب الراغبين في ولوج المجال البحثي و اختيار المتفوقين منهم، والإشراف على أبحاث الدكتوراه لصالحهم مع استفادتهم من منح تحفيزية، وذلك من شأنه أيضا أن يساهم في حماية وطننا من نزيف هجرة الأدمغة.
يمكن للمركز في البداية أن يركز فقط على الأبحاث الطبية بكل تخصصاتها، وعلى رأسها محاربة الأوبئة والبيولوجيا والنانوتكنولوجيا، هكذا يمكن للمغرب أن يتوفر على مختبر خاص بالأبحاث حول استغلال النباتات الطبية ومنها القنب الهندي الذي تمت المصادقة مؤخرا على تقنين استعمالاته، وحتى لا يصير معهدا في مهب تغير الحكومات وتناوب الأحزاب على تدبير الشأن العام، من الأفضل أن يكون مستقلا يحظى برعاية ملك البلاد، أما بخصوص اللوجستيك وأدوات البحث العلمي فيمكن اقتناؤها أو الحصول عليها من خلال اتفاقيات للتعاون مع عدد من الدول قد تكون إسرائيل من بينها، بعدما تحسنت العلاقات بين البلدين، وفتح الباب أمام شراكات اقتصادية وتكنولوجية مهمة بينهما.
ذكرت سابقا نماذج لمراكز عالمية في مجال البحث العلمي استطاعت المساهمة في إشعاع العالم الغربي وتحقيق الإكتفاء الذاتي والتقدم التكنولوجي، لكن هناك من سيتساءل على إيقاع بعض المبررات الواهية التي تقدم دوما، هل المغرب يتوفر على إمكانيات هذه الدول لبلوغ نفس النتائج؟ الجواب هنا سيكون من خلال عرض تجربة دولة من دول الجنوب، دولة فقيرة عانت من حصار مأساوي على مدى عقود، يمكن أن نستلهم منها انجازاتها المبهرة، إنها كوبا التي استطاعت بفضل استثمارها في التعليم والبحث العلمي أن تصير أكبر مصدر للأطباء في العالم، لعل الحصار الذي أطبق عليها كان حاسما في انغماسها في استراتيجية علمية بفوائد كبرى ليس لفائدتها فقط بل لصالح الإنسانية جمعاء، حيث أنشأت المركز الوطني للبحث العلمي (el Centro Nacional de la Investigacion Cientifica) مبكرا سنة 1965، و استفادت بعد ذلك من مساعدة منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية لبناء مصنع لإنتاج الأدوية، واليوم صارت BioCubaFarma (الشركة الصيدلانية 8 مارس سابقا) المملوكة للدولة، تضم أكثر من 30 شركة ومعهدا صناعيا ينتج أكثر من نصف الأدوية الأساسية في البلاد، ويصدر الكثير منها إلى ما يناهز 50 دولة في العالم، كما تمكن مركز علم المناعة الجزيئية من إنتاج علاج واعد للسرطان، كنتاج للإستثمار الكبير للدولة الاشتراكية في قطاع التكنولوجيا الحيوية، دون أن نذكر دخول اللقاحين الكوبيين ضد كورونا “سوبيرانا 2” و “أبدالا” تجارب المرحلة الثالثة كخطوة هامة تجعل الجزيرة أقرب من إنتاج أول لقاح في أمريكا اللاتينية ضد الفيروس.
كوبا الفقيرة صارت معروفة باسم “الجنة العلاجية” رغم تواضع إمكانياتها، لكن ذلك النجاح لم يكن وليد الصدفة، بل نتاجا لعمل دؤوب ركز فيه صانعوا القرار على القطاعين الحيويين التعليم والصحة، وهو ما يؤكد إمكانية خوض المغرب لتجربة نموذجية في مجال البحث العلمي على مستوى القارة الإفريقية، مشروع طموح سيتطلب وقتا معينا و إصلاحا جذريا لمنظومة التربية والتكوين، وعبر سن مقاربة “الاستثمار الإجتماعي” المؤدية حتما إلى التقدم و الرفاه.