قال حميد هيمة، أستاذ الثانوي التأهيلي ونائب رئيس “جمعية أساتذة الاجتماعيات” بسيدي سليمان، إن تموقع الخطاب المدرسي من المواقف من خطاب 16 ماي 1930، المعروف بالظهير البربري، “لا يزال، للأسف، وفيا للقراءة الذاكرية، وما تنطوي عليه من مواقف اختزالية للهوية الوطنية الغنية”.
جاء هذا في الحلقة الرابعة من برنامج “مناهل التاريخ”، الذي تنظمه جمعية “البحث التاريخي”، بشراكة مع المكتبة الوطنية للمملكة المغربية، حول موضوع “التاريخ المدرسي والتاريخ العالِم”، بتنسيق الأستاذين عبد العزيز الطاهري ونعيمة الحضري.
ويرى هيمة أن في الكتاب المدرسي التاريخي المغربي “إعادة اجترار منظور السرد الذاكري لأحداث ظهير 16 ماي”، وعدم استيعاب، من الناحية المعرفية، “استنتاجات القراءات التاريخية التركيبية للمؤسسات الرسمية”، وهو ما “يضمن من الجانب الثقافي استدامة منظور أحادي للهوية الوطنية، ويعيد، من الناحية التربوية، إنتاج المنظور الموروث عن البرامج الدراسية السابقة، التي باتت خارج السياق السياسي والدستوري في المغرب”.
وأضاف هيمة أن في الكتاب المدرسي التاريخي استمرارا لـ”فاعلية التملك الإقصائي للوطنية، الموروثة عن مرحلة الصراع السياسي”، مشيرا إلى أن هذا الكتاب خصص عددا محدودا من الصور لقادة الأحزاب الوطنية، اقتصرت غالبا على شخصيات وطنية من المنطقة السلطانية، ومحسوبة على حزب بعينه، فيما تم تغييب صور قادة الحركة الفدائية وجيش التحرير، وتضمين 28 صورة للسلطان محمد بن يوسف.
كما استحضر أستاذ مادة الاجتماعيات عدم حضور مبادرات ووثائق المطالبة بالاستقلال، إلا واحدة، في الكتاب المدرسي، وتغييب المكون اليهودي، رغم مشاركته في حركة التحرر الوطنية، وفي الحركة النقابية والحركة التحريرية في الريف وفي الحزب الشيوعي المغربي، إضافة إلى كون خطاب المقاومة “خطابا ذكوريا”، رغم مشاركة مغربيات في الحركة الفدائية والنضال السياسي الوطني.
كما سجل المتحدث ذاته “إقصاء الحركة النقابية” من التأليف المدرسي، على خلاف التأليف المدرسي التونسي، وإقصاء “الهامش” أيضا، رغم استقاء تصورات الخطاب المدرسي من التاريخ الجديد، الذي يدعو إلى دمقرطة التاريخ بإعادة الاعتبار لمختلف الفئات الاجتماعية؛ وهو ما دفعه إلى التشديد على “ضرورة انفتاح التاريخ المدرسي على مكتسبات التاريخ الجهوي، لتجاوز النزعة المركزية للذاكرة الوطنية، وإعطاء معنى للتعلمات المبنية في الفصل”.
وعقب شكير عكي، أستاذ ديداكتيك التاريخ، على عرض حميد هيمة، قائلا إن الكتابة التاريخية المدرسية “تتجاذبها مطالب إبستمولوجية، ومطالب سوسيوسياسية وثقافية، ومطالب إيديولوجية، ثم مطالب سيكوبيداغوجية لأننا أمام متعلمين”، مضيفا أن هناك “إكراهات وإرغامات في التعليم المدرسي لا يعرفها الكثيرون، فينتظرون من المنتوج المدرسي أن يلبي كل طلباتهم، بينما هو ليس وعاء تصب فيه جميع الطلبات، بل هناك مدرس ومتعلم ووسائل إعلام (…) ومجال المعركة هو تعايش التيارات داخل الفصل عن طريق المدرس للحفاظ على التوازن”.
بدوره، أقر مصطفى حسني إدريسي، أستاذ الديداكتيك، بوجود “التهميش في الكتاب المدرسي”. قبل أن يستطرد متسائلا “لكن أليس هذا التهميش موجودا في التاريخ الأكاديمي فيما يتعلق بيهود المغرب والمرأة؟”، على سبيل المثال لا الحصر.
وأضاف أستاذ الديداكتيك أنه سبق له أن اشتغل على مقال مع الأكاديمي عبد العزيز الطاهري حول “الظهير البربري”، ولاحظا أن “خطاب التاريخ المدرسي يقترب جدا في خطابه من الخطاب التاريخي، ويقترب الخطاب التاريخي من خطاب الحركة الوطنية”، قبل أن يزيد “هناك أحيانا في خطاب الحركة الأمازيغية تعابير فيها نوع من التشدد، وتُعَارِض ما يوجد في التاريخ الأكاديمي”.
وفي الجلسة ذاتها، قال مسيرها مصطفى حسني إدريسي، أستاذ ديداكتيك التاريخ بكلية علوم التربية- جامعة محمد الخامس بالرباط إن بإمكان التاريخ العالم “توفير طريقة للتفكير في تجديد مفهوم تدريس التاريخ، بعيدا عن سؤال دمج المواضيع والمعرفة الجديد”. وأضاف “هنا يمكن تجاوز التعارض العقيم بين المقاربة المعرفية والمقاربة الديداكتيكية بالتفكير المشترك بين ديداكتيك التاريخ وعمل المؤرخ لوضع مسألة بناء المعرفة التاريخية وتعلم البحث التاريخي كأفق عمل مشترك”.
هذا العمل المشترك يقتضي، وفق المتحدث ذاته، “الوعي بأن تدريس التاريخ بالمغرب انتقل من تصور كان محوره الهوية والقيم الوطنية والدينية إلى تصور آخر يركز أكثر على تكوين مواطن مستنير يُقبل على الفكر أكثر من الحفظ والاستظهار، وهو تصور يجب أن يصير واقعا في المدرسة المغربية، كما يجب العمل على أن تكون الغلبة في الجامعة المغربية لبناء المعرفة التاريخية على تلقينها، فطلبة اليوم أساتذة الغد، وتكوين مواطن مستنير ذي فكر مستقل يقتضي تعويض ديداكتيك المضمون بديداكتيك الفكر التاريخي، وبدلا من تفسير شيء للتلميذ والطالب فلنضعه في وضعية يفسر بها شيئا بنفسه لنفسه”.
من جهتها، قالت لطيفة الكندوز، رئيسة “الجمعية المغربية للبحث التاريخي”، إن دراسة الصلة بين التاريخ العالِم، وهو التاريخ الجامعي، والتاريخ المدرسي، “من الإشكاليات التي لا تزال مطروحة على البحث التاريخي والبيداغوجي والديداكتيكي”، عكس ما كان سائدا في التعليم المغربي قبل الإصلاح الذي انطلق في بداية هذا القرن، حيث “لَم يكن يتم الفصل بين هذين التاريخين”، تضيف الكندوز، قبل أن تعرّج في مداخلتها على اختلاف التاريخ المدرسي عن التاريخ العالم أو الجامعي، لكونه “مادة دراسية موجهة إلى فئة المتعلمين في سلكي التعليم المدرسي الابتدائي والثانوي، تستهدف المساهمة في التكوين التربوي والمعرفي والمنهجي للمتعلمين، وتنمية ذكائهم الاجتماعي وحسهم النقدي، وتزويدهم بالأدوات والكفايات المعرفية والمنهجية لوعي أهمية دراسة التاريخ وفهمه”. وأضافت موضحة “لا ينتج التاريخ المدرسي المعرفة التاريخية، بل هو ناقل لها (…) يشكل التاريخ العالِم المرجعية التاريخية التي يعتمد عليها التاريخ المدرسي، غير أنه يرمي إلى تبسيطها وتحليلها لجعلها في متناول الفئة العمرية المستهدفة”.
فيما أوضح محمد صهود، أستاذ ديداكتيك التاريخ بكلية علوم التربية- جامعة محمد الخامس بالرباط، أن التاريخين المدرسي والعالم يكادان ينتميان إلى براديغمَين، لكل منهما شروطه في بناء المعرفة ونقلها، لكنهما يلتقيان ولهما علاقة. وأضاف شارحا أن التاريخ العالم هو معرفة من المعارف الإنسانية، وعلاقته بالتاريخ المدرسي في غائيته، فالأول يتغير بالبحث، ويبحث عن حقيقة ما، ويحاول التموقع بالنسبة للذاكرة الجماعية، فيما غائية التاريخ المدرسي هي وظائف فكرية بتعليم المتعلم نهجا تاريخيا، ومجتمعية بربطه بمجتمعه وقيمه وثقافته، ودوره في المواطنة.
وأبرز أستاذ ديداكتيك التاريخ أن التاريخين معا “ينتميان إلى براديغم تحكمه غايات ومسارات منهجية وطبيعة خاصة للمعرفة، لكن عملية النقل الديداكتيكي تأتي لتحافظ على بنية التاريخ العالم”.
أما شكير عكي، أستاذ ديداكتيك التاريخ بمركز تكوين مفتشي التعليم بالرباط، فأوضح أن المعرفة التاريخية المدرسية “صيغة مبسطة ومكيفة مع شروط متعددة”، مضيفا “لا نسطح المعرفة العلمية في المدرسة، بل نتعاطى مع أحداث ومفاهيم تاريخية، وطريقة في التفكير والبرهنة، وتساؤلات وإشكالات مبسطة، دون أن تكون معرفة ناقلة، بل معرفة علمية مكيفة”، لها شروط ونصوص رسمية، وإرغامات مؤسسية، وثقل الامتحانات، وإكراهات تتعلق بتمثلات المدرس لمهنته.
وأكد المتحدث ذاته أنه “لا يمكن الحديث عن تراتبية بين المعرفتين”، مشيرا إلى أن “المعرفة المدرسية تبسيط وإعادة بناء للمعرفة العلمية لأهداف وغايات أخرى، وبالتالي مرجعيات المعرفة المدرسية هي المعرفة العلمية، ثم المتطلبات المؤسساتية”.
بدوره، تحدث محمد زرنين، أستاذ علم الاجتماع بمركز التوجيه والتخطيط التربوي، عن العلاقة بين التاريخين المدرسي والعالم، قائلا إنها جزء من “إشكالية كبرى” هي علاقة المعرفة الأكاديمية بالمعرفة المدرسية، علما أن “المعرفة التاريخية المدرسية نتاج لنظام معرفة وسلطة، ونتيجة سيرورات وتحكيمات وميزان قوى”.
وأضاف أن “المعرفة التاريخية المدرسية معرفة أكاديمية”، وأن المدارس تقدم “معارف أكاديمية محوَّلة ديداكتيكيا ومؤطرة منهاجيا، دون أن يكون هناك غياب للمعرفة الأكاديمية فيها”.
وقدم زرنين مفاتيح من أجل فهم العلاقة بين المعرفة الأكاديمية والمعرفة المدرسية، قائلا إن “المعرفة الأكاديمية لا تمر بسهولة إلى عالم البرامج”، بل إن المنهاج “محكوم بالسلطة التنفيذية، التي تجسد ميزان توازن القوى الاجتماعي، ومستوى النقاش العام السياسي والمجتمعي، والنقاش التشريعي عبر ممثلي الأمة”. قبل أن يؤكد في ختام كلمته على أن “التاريخ المدرسي مبني وليس سهلا”.