ينبه الكاتب فؤاد بنعلي إلى ضرورة تجنب خلط الأمازيغية، هوية وثقافة، بحسابات المتحدثين باسمها، “فإن كان هناك استغلال للأمازيغية في مشاريع لا وطنية مناقضة للثوابت المؤسسة للدولة، فالأكيد أن أي عنصر هوياتي أو مكون من مكونات الذات يمكن أن يغدو وسيلة للبشاعة الهوياتية، حسب تعبير جميل لأحد الأساتذة، كما يمكنه أن يكون عامل وحدة وانتماء”.
فالعربية التي كانت على الدوام عنصرا جامعا ولغة عالمة وعنصر ارتكاز في بناء الدولة، من وجهة نظر الكاتب التي أوردها في مقال جديد بعنوان “الأمازيغية.. سوء الفهم الكبير”، “ارتكبت باسمها، أو باسم الدفاع عنها، مجازر ودمرت دول وأهينت كرامات المواطنين واستبيحت الأعراض. والتاريخ الحديث مليء بأمثلة أنظمة اختارت العروبة عنوانا لممارسة استبدادها والحجر على رغبات شعوبها”.
وهذا نص المقال:
مازالت فضاءات التواصل الاجتماعي تعتمل بنقاشات موسمية، ودائمة أحيانا، حول الأمازيغية وموقعها في الخريطة اللغوية والهوياتية المغربية. ففي كل مرة يثار فيها حدث أو مسألة مرتبطة بالأمازيغية، تُنصب مقصلة التخوين والتجزيء وتعميم الأحكام واجترار المواقف في حرب الاصطفافات الهوياتية التي تنخر المجتمع المغربي. فهل سنظل على الدوام نكرر أنفسنا؟ ألم يئن للفاعلين في الشأنين الثقافي واللغوي الإنصات إلى صوت الانتماء المشترك بدل الصراع والتجاذب؟ هل مازلنا نحتاج إلى تعريف أنفسنا وهويتنا ولغاتنا؟ أليس هذا أوان الابتعاد عن المتاجرة بالهوية وقضاياها؟
ليس من باب المصادفة التاريخية أنني ابن رجل نزح من منطقة تعيش حاليا صورة من الاستغلال السياسوي والاجتماعي للأمازيغية لأترعرع في منطقة كانت شاهدة في الماضي على صورة أخرى من هذا التوظيف. هي نفس الصورة تتكرر مع اختلاف الزمان والمكان. فحين كنا في شبابنا نزور بعض أعيان المنطقة، لحشد الدعم للفعاليات والتظاهرات الثقافية، كنا شهودا على الاستغلال الطبقي البشع للفلاحين الأمازيغ الفقراء الذين يعاملون معاملة القرون الوسطى.
وهؤلاء الأعيان هم أنفسهم الذين تسلقوا مناصب المسؤولية وغدوا يتحدثون الآن باسم حقوق الأمازيغ ويعتبرون العرب محتلين والعربية لغة استعمار، حيث اختاروا من الألوان الحزبية أفقعها لتبرير ممارساتهم. باسم الأمازيغية ارتكبت، وترتكب، الكثير من الاختلالات والفظائع. فتحت يافطتها يستدر التضامن مع قضايا خاصة وفئوية وإقليمية.
وباسم الأمازيغية تستقى المشاريع الاستئصالية التي تتأسس على تضخيم الذات حد الأسطرة والانطوائية وهدم المشترك الوطني، فيتم استدعاء مفاهيم من نحو الشعوب الأصيلة والكونغريس الأمازيغي والحكم الذاتي… وباسمها حوربت تيارات وأحزاب وهيئات، وتمت أدلجتها وتقديمها على أنها تيمة الشعب المظلوم وعنوان القهر الثقافي والسياسي ومدخل الحداثة المأمولة. وعن طريقها اغتنت الكثير من الأصوات التي تاجرت، ومازالت تتاجر، بهموم الساكنة الأمازيغية وأحلامها وهويتها. هذه حقيقة.
لكن هذا الواقع المر لا ينفي سوء الفهم الكبير الذي يجتره بعض المنافحين عن العربية وتمثلات الوحدة الوطنية والانتماء القومي. إذ لا ينبغي خلط الأمازيغية، هوية وثقافة، بحسابات المتحدثين باسمها. فإن كان هناك استغلال للأمازيغية في مشاريع لا وطنية مناقضة للثوابت المؤسسة للدولة، فالأكيد أن أي عنصر هوياتي أو مكون من مكونات الذات يمكن أن يغدو وسيلة للبشاعة الهوياتية، حسب تعبير جميل لأحد الأساتذة، كما يمكنه أن يكون عامل وحدة وانتماء. فالعربية التي كانت على الدوام عنصرا جامعا ولغة عالمة وعنصر ارتكاز في بناء الدولة، ارتكبت باسمها، أو باسم الدفاع عنها، مجازر ودمرت دول وأهينت كرامات المواطنين واستبيحت الأعراض.
والتاريخ الحديث مليء بأمثلة أنظمة اختارت العروبة عنوانا لممارسة استبدادها والحجر على رغبات شعوبها. وباسمها كذلك حجر في أحيان كثيرة على الناس وأدخلوا في متاهات التصويب والتصحيح وفصلوا عن التعامل مع النصوص المؤسسة للثقافة العربية حيث “الإكليروس اللغوي” هو المنوط به التفسير والفهم والتفهيم. وهي اللغة نفسها التي اتخذت، وتتخذ حاليا، عند كثيرين مطية للاغتناء والارتزاق.
الخلاصة أن أي لغة وأي هوية يمكن أن تكون ملاذا للمشترك، كما يمكن أن تكون أداة للتشظي والتوظيف المصلحي. لذا، فالنقاش ينبغي أن ينطلق من الانتماء المشترك للمغاربة وحقهم الجماعي في هذا الرصيد الهوياتي، الذي أشار إليه الدستور، وأن يكون الهدف هو استشراف المستقبل وليس اجترار تناقضات الماضي وإخفاقاته. فاجترار التجاذب حول لغوية الأمازيغية وحَرفها وسَنَتها، وغيرها من القضايا، لا يخدم البحث عن الرصيد المشترك.
فلِمَ الإصرار الدائم على إثارة القضايا الخلافية التي يحسم فيها داخل الأطر البحثية وليس المنابر الإعلامية والتجاذبات المجتمعية؟ فإن كان من حق الباحث الأكاديمي التنقيب في أسس القضايا دون الانتباه إلى عدالتها التاريخية أو دورها في المجتمع، ما دامت غايته علمية بحتة، فإن على السياسي والفاعل المدني أن ينظر إلى الأمام نظرة استشراف بغية تجاوز عناصر التصدع. فإن كان البعض مازال يجتر الانتماء العربي للأمازيغية مع تَمحُل في النسبة إلى ألفاظ العربية، فإن لغويتها تجد سندها في كثير من النصوص العلمية التي تربطها بالأصول الحامية (أحمد مختار عمر، 1329هـ). وحتى لو كانت أصولها عربية فهذا لا يمكن أن ينفي عنها لغويتها أو حصرها في إطار عامي.
وبعيدا عن سؤال الجدوى الذي يطرح في تناول الحرف، فإن أبجدية تيفناغ هي طريقة قديمة قيض لها البقاء لدى الأمازيغ منذ مئات السنوات (كامب، 2007ــ ص 321). والسنة الأمازيغية التي تسمى عند بعضهم فلاحية أو غير ذلك هي مناسبة للاحتفاء بالأرض والانتماء إليها كيفما كان العنوان. والإشكالات الاقتصادية والاجتماعية التي عانت، وتعاني، منها ساكنة بعض المناطق الأمازيغية هي واقع تاريخي لا يمكن القفز عنه، كيفما كان تفسيرنا لذلك.
أعرف أن كثيرا من الفضلاء سيزعجهم هذا الحديث، أو سيفاجئهم، لكن في بعض الأحيان ينبغي قول الحقيقة كما هي. إذ لا يمكن الاستمرار في التنكر لجذور ثقافتنا الوطنية، كما لا يمكن أن نترك هويتنا مجالا للصراع اللامنتهي الذي يؤدي حتما إلى ضياعها وتوظيفها من طرف الآخر في مشاريع الهيمنة. فأمازيغيتنا نحن بها أحق وأولى.