عممت مصالح وزارة الداخلية يوم 16 يناير2021 دورية وزارية، تحت عنوان: التدبير الأمثل لنفقات الجماعات الترابية موجهة إلى السيدات والسادة ولاة وعمال عمالات وعمالات المقاطعات وأقاليم المملكة، ورئيسات ورؤساء الجماعات الترابية، تسعى من حيث المبدأ إلى عقلنة تدبير نفقات التسيير باستثناء أداء مستحقات المقاولات لا سيما الصغيرة جدا والصغيرة والمتوسطة، ومستحقات القروض ومستحقات الوكالات المستقلة للتوزيع والمكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب وشركات التدبير المفوض بما فيها المتأخرات، وكذا تنفيذ الأحكام القضائية النهائية.
وانسجاما مع هذا التوجه، لم يعد ممكنا الالتزام بأية نفقة جديدة دون عرضها على السيدات والسادة ولاة الجهات وعمال عمالات وعمالات مقاطعات وأقاليم المملكة قصد دراستها. وينطبق هذا الإجراء أيضا على المشاريع المنجزة من طرف شركات التنمية وشركات التهيئة ووكالات تنمية العمالات والأقاليم وصناديق الأشغال والوكالات المستقلة لتوزيع الماء والكهرباء والوكالات الجهوية لتنفيذ المشاريع.
وتمتد التوجيهات المتعلقة بالتدبير الأمثل للنفقات لتشمل المشاريع ذات المردود الاجتماعي والاقتصادي واستثناء مشاريع التهيئة الحضرية والإنارة العمومية والمناطق الخضراء. علما أنه سيتم إلغاء جميع “التراخيص ببرنامج” المفتوحة في إطار الحساب الخصوصي، “حصة الجماعات الترابية من منتوج الضريبة على القيمة المضافة” المخصصة لتمويل مشاريع التهيئة الحضرية والإنارة العمومية والمناطق الخضراء، والتي لم يتم الالتزام بها بعد.
إن قراءة متأنية في مضامين هذه الدورية، تقودنا إلى استنتاج الملاحظات التالية:
– تندرج هذه الدورية ضمن صميم الوظائف الأساسية الموكولة إلى وزارة الداخلية – بمقتضى النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل- في علاقتها بالجماعات الترابية، على مستوى الالتزام بمواكبة وتتبع وتأطير وتوجيه ومصاحبة هذه الأخيرة في تدبيرها للشأن الترابي. حيث يمتد التدخل المسبق لوزارة الداخلية ليشمل مختلف جوانب النشاط المالي الترابي، فهو يبدأ قبل إعداد الميزانية الترابية، ويسري على مختلف مراحل الإعداد، ويراقب تطبيق المقتضيات القانونية ومختلف التوجيهات التي تضعها والقواعد التي تقررها.
– يبدو أن تداعيات جائحة كورونا-فيروس ما زالت سارية في التدابير العمومية، لأنها تمس في الجوهر التوازنات المالية، باعتبارها أحد المحددات الرئيسية المتحكمة في تدبير المالية العمومية. هكذا، وفي ظل الصدمة الناتجة عن هذه الجائحة، عرفت مداخيل الخزينة العمومية نقصا مهما، لا يمكن تدبيره بنفس التدابير التي كانت معتمدة في مرحلة ما قبل الجائحة. بل من خلال تدابير تشتغل وفق منطق الأولويات، درءا لكل احتمال قد يؤدي إلى انهيار المالية العمومية. وعليه، تعتبر الجماعات الترابية مدعوة إلى الانخراط في هذا التحدي الرامي إلى الالتزام بالتدبير الأمثل للنفقات العمومية.
وما دامت الآفاق المستقبلية المرتبطة بجائحة كورونا-فيروس غير واضحة، فطبيعي أن تعمد القطاعات الوزارية المختلفة، ومنها وزارة الداخلية إلى التدخل بين الفينة والأخرى لتحديد الهوامش المتاحة للفعل العمومي المكلف لمالية الجماعات الترابية، في سياق تحقيق حكامة ترابية رشيدة تؤطر الإصلاحات المعتمدة على مستوى تدبير الشأن الترابي.
– تتجه هذه الدورية إلى حث الجماعات الترابية على بدل المزيد من الجهد في إطار عقلنة تدبير نفقاتها، دون المساس بالنفقات الموجهة لأداء مستحقات المقاولات الصغيرة جدا والصغيرة والمتوسطة، ومستحقات القروض ومستحقات الوكالات المستقلة للتوزيع والمكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب وشركات التدبير المفوض بما فيها المتأخرات، وكذا تنفيذ الأحكام القضائية النهائية. وهي نفقات محورية، يراد من خلال الاحتفاظ بها، السير في اتجاه ضمان دينامية واستمرارية البرامج والمشاريع التنموية الجاري تنفيذها، بالنظر إلى أهميتها بالنسبة للدورة الاقتصادية المحلية، وبالنسبة للمصالح الخاصة المرتبطة بالأفراد.
– إذا كان مبدأ التدبير الأمثل للنفقات العمومية المتضمن في دورية وزير الداخلية يسعى إلى التحكم في نفقات الجماعات الترابية، وضمان التناغم الجيد والرشيد بين المنظور الوطني والطموحات المحلية، وبالتالي المواءمة بين السياسة العامة للدولة والسياسة المحلية المكرسة في وثيقة الميزانية، بهدف تفادي الاختلالات التي قد يعرفها التنفيذ التدريجي للميزانية الترابية في ظل جائحة كورونا-فيروس، فإن مساسه بمبدأ التدبير الحر وارد، من زاوية تضييق هوامش التصرف المتاحة أمام الجماعات الترابية بموجب أحكام دستور 29 يوليوز2011، الذي نص في الفصل 136 منه على أن التنظيم الجهوي والترابي يرتكز على التدبير الحر، الذي يشكل النواة الصلبة في توسيع مجالات تدخل الجماعات الترابية، وتقوية اختصاصاتها، وتكريسها كوحدات حرة ومستقلة في علاقتها بمصالح الدولة. ومن ثمة، فإن هذه الدورية مؤشر أساسي على نسبية مبدأ التدبير الحر المعترف به لفائدة الجماعات الترابية انطلاقا من تتالي تدخلات الإدارة المركزية في تدبير ماليتها. ففي 21 شتنبر 2020 توصلت الجماعات الترابية بدورية وزير الداخلية حول إعداد وتنفيذ ميزانيات الجماعات الترابية برسم سنة 2021، متضمنة إشارات واضحة وصارمة، مفادها أن حسن أداء الجماعات الترابية في مجال التدبير المالي والميزانياتي والمحاسباتي يتوقف على الامتثال لجميع القوانين والدوريات الجاري بها العمل. مما يدل دلالة قطعية على أن الاستقلال المالي المعترف به قانونا لفائدة الجماعات الترابية ليس مطلقا، بل يتأطر ضمن التوجيهات التي ترسمها الإدارة المركزية للفعل الترابي.
وإذا كانت هذه الدورية تستهدف تأطير الممارسة المالية للجماعات الترابية في ظل دقة المرحلة، وما تكتسيه من تحديات لكسب رهان مواجهة جائحة كورونا وآثارها السلبية على ميزانيات الجماعات الترابية، فإنها مؤشر أساسي على اضمحلال وتلاشي مبدأ التدبير الحر للجماعات الترابية، في مقابل اتساع البعد التنظيمي الممارس من طرف الإدارة المركزية ممثلة في وزارة الداخلية. ومع ذلك، فإن خضوع الجماعات الترابية للرقابة -التي تمثل هذه الدورية أحد تمثلاتها- يعد بمثابة استثناء لا يرقى إلى مستوى القاعدة.