في ذكرى مرور 200 عام على وفاة الإمبراطور السجين نابليون بونابارت (1769- 1821) سترمم نتفليكس فيلم المخرج الفرنسي آبل غانس “نابليون” 1927، بينما سيصور المخرج ريدلي سكوت فيلما جديدا عن الإمبراطور كعبقري استراتيجي. هذا الخبر حدث في حد ذاته، ليس بالنسبة لوسائل الإعلام الفرنسية فقط، بل لكل الكون السينمائي. هذا خبر يفقس عن أربعة ألغاز تكشف مُحّا.

أولا، سيكون ترميم فيلم قديم تقنيا ومن ست ساعات ونصف مكلفا جدا. لم تعلن ميزانية الترميم لأنها ستجعل التوقعات مرتفعة جدا وقد تثمر خيبة فنية. الميزانيات الكبيرة تحمس وسائل الإعلام. وهذه مبادرة ومغامرة كبيرة من شركة تتهم بأنها تجارية. هذا بحث عن الشرعية الفنية أكثر منه بحثا عن الربح. والنتائج فورية، فوسائل الإعلام تنوه بالمغامرة. ولهذا صدى لأن قيمة الفيلم السياسية أكثر من قيمته الفنية. يحمل فيلم غرانس لمسة تمجيد قومي مثل فيلم “ميلاد أمة” (1915) لديفيد غريفيت. سيتغنى السينفيليون بهذا الأفق الفني الجديد. هكذا ستكرس المنصة، التي عرضت وثائقيا عن أورسن ويلز وفيلما غير تام له، صورة جديدة لها، وستؤكد على رفع السقف الفني الذي تعمل فيه.

لماذا تبحث المنصات عن إنتاج أفلام لمخرجين سينمائيين مكرسين؟ أولا، لكي تبرئ نفسها من تهمة معاداة الفرجة السينمائية التقليدية. ثانيا، لكي تجد موطئا في المهرجانات الكبرى. وثالثا، لتحسن سمعتها لدى السينفيليين بدلا من أن تبقى مجرد منصات تجارية.

في الحقيقة، حسابيا وشعبيا، من سيتحمل مشاهدة فيلم من ست ساعات ونصف عن طفولة نابليون وهو يتمرن على الحرب بمعركة ثلج. معركة تجريبية تمتد عشر دقائق؟

ثانيا، اختارت شركة آبل أو المخرج ريدلي سكوت أن يؤدي العبقري خواكين فينيكس دور الإمبراطور. هذا الاختيار ملائم ومثير لعشاق الممثل ودعم لمساره الفني، بينما هو اختيار مقلق لأنصار الإمبراطور ومُمجديه خوفا من أن تصيبه لوثة بهلوان جوكر. هذا لا يليق بعظمة الإمبراطور. طبعا لا يوجد بهلوان متقلب أكثر من الحاكم المطلق.

ثالثا، يحضر نابليون في الفن منذ قرنين، فكيف تناول الرسم والرواية والسينما شخصية نابليون؟

لقد استخدم نابليون الرسم في حياته كوسيلة دعاية لنفسه، فقد رسم جاك لوي دافيد الإمبراطور 1801 على فرسه الذي يقف على قائمتيه الخلفيتين ليقطع جبال الألب، وتحته توقيع هنيبعل. وخلد رسامون آخرون بونابارت في لوحات شهيرة. وقد اقتبس أفيش فيلم غريفيت “ميلاد أمة” من لوحة دافيد. وفي هذا السياق ستقدم اللوحات الكثير من المادة الفنية لريدلي سكوت. وقد تقيده هذه المادة الفنية القديمة.

في الرواية استفتح ليون تولستوي “الحرب والسلام” (1865 ـ 1869) بصورة لنابليون باعتباره المسيح الدجال، وبعدها تحذر آنا بافلوفنا بلغة ساخطة من قاهر أوربا، الذي جلب آفة الثورة إلى روسيا، وتعرب عن أملها في قدرة قيصر روسيا على هزم بونبارت (ص: 14). تكرر صدى هذا الموقف في أفلام كثيرة. وقد كتب ضباط نابليون في تقاريرهم اليومية أن من أهدافهم إبكاء نساء روسيا الجميلات.
لقد حظيت الثورة الفرنسية وحرب الانفصال الأمريكية بأفلام كثيرة لأنها منارة تحرّر إنساني. وقد حظي نابليون باهتمام السينمائيين لأن حروبه التي تلت الثورة الفرنسية دعمت الليبرالية والتحرر القومي في أوربا. وقد صور المصري يوسف شاهين “وداعا بونبارت” (1985) للتأريخ للحملة الفرنسية على مصر. وكل بلد احتله نابليون صوّر فيلما عنه.

رابعا، بالنظر إلى هذه السوابق الفنية سيصور ريدلي سكوت فيلما مكلفا جدا لأنه يجب ابتكار كل شيء لتقديم عصر انقرض. بالنظر إلى سعر آبل في بورصة نيويورك، فكل ميزانية للفيلم نكتة. سابقا لم يتمكن آبيل غرانس من تحقيق كامل مشروعه عن نابليون. والآن سيصور ريدلي سكوت نابليون، الذي لم يتمكن ستانلي كوبريك من تصويره ليمجد البطل الذي قضى على الإقطاع في أوربا، ونهب تحف الشعوب وجمعها في متاحف باريس.

لكن ماذا سيضيف سكوت إلى نابليون من عظمة؟

من كل هذه السوابق التشكيلية والروائية والسينمائية، ماذا سيقتبس ريدلي سكوت: هل الموضوع أم الأسلوب؟

الاقتباس من السير والروايات ليس مسألة موضوع فقط، بل مسألة أسلوب يتحدد بالإجابة عن السؤال: كيف تبتكر الكاميرا بلاغتها الخاصة المعادلة والمتجاوزة لبلاغة الرواية؟

سيعمل ريدلي سكوت في حقل صعب لأن هناك سوابق سينمائية صورت نابليون، يحضر هذا التراث السينمائي العريق في ذهن المخرج والمتفرج والناقد، وسيكون كاتب السيناريو دافيد سكاربا مجبرا على الاختيار بين حدثين وزمنين:
هل سيركز على الشخص أم على السياق التاريخي؟ وهل سيكتب ويصور حياة كاملة بالتتابع الكرونولوجي، أم سينتقي حدثا كمحطة من حياة بونابارت تلخّص مساره ونقط قوته وضعفه؟

غالبا سيختار معركة ليعرض من خلالها شخصية نابليون. وحتى هذه المعارك تناولها الرسامون سابقا. لذلك سيجد المخرج لوحات هائلة عرضت مجد نابليون مشهديا، وسيكون مضطرا إلى التعامل مع إخراج بصري سابق وعليه العمل على تجاوزه.

بإعلان شركة آبل أن سيناريو دافيد سكاربا سيركز على مهارة التخطيط لدى الإمبراطور، سيجد ريدلي سكوت نفسه وقد سبقه الرسام فرانسوا جيرار بلوحة أسطورية 1810 تؤرخ لانتصار نابليون في معركة أوسترليتز (2-12-1805) التي أدت إلى احتلال فيينا عاصمة الإمبراطورية النمساوية. لوحة تؤكد على العبقرية الاستراتيجية للإمبراطور، وسيركز سكوت على هذا الجانب لأن أسلوب أفلامه يبحث عن الجوانب العامة في شخصياته. هكذا يتجنب سكوت تصوير حياة زوجية مملة في شقة في نيويورك. لا يمكنه منافسة وودي ألان في تصوير هذه الحميمية.

لقد كتب السيناريو من طرف دافيد سكاربا. وحسب سوابق سينمائية يملك سكاربا مهارة كبيرة في كتابة الاستراتيجيات كما في فيلم “القلعة الأخيرة” (2001)، الذي أخرجه رود لوري، وفيه يصل سجين جديد (روبير ريدفورد)، وهو خبير استراتيجي يلعب الشطرنج، كشف استراتيجية مدير السجن فثار السجناء، وهكذا انتزع السجين قيادة السجن من الضابط (أداء جيمس غاندولفيني)، الذي صار عقيدا بفضل معهد الضباط دون أن يشارك في حرب واحدة. لقد تولدت خبرة نابليون من الممارسة الميدانية. وهذه نقطة تجمعه ببطل فيلم “القلعة الحمراء”. وسيكون هناك امتداد لأسلوب وتصور السيناريست دافيد سكاربا.

لجأ ريدلي سكوت إلى سيناريست استراتيجي. لذلك ستكون النتيجة مشوّقة، وسيكون الفيلم درساً في فنّ الحرب، ربما ينافس كتاب الصيني سان تزو “فنّ الحرب”، المكتوب منذ 2500 عام.

صوَّر سكوت سابقاً شخصيات تاريخية. غامر في أرض محروثة وأبدع، كما في “المرّيخي” (2015)، مُصوّراً مات دايمون يزرع البطاطس في كون أحمر. النجاح الأكبر في حياته متمثّل في سيرة “المُصارع” (2000). فيه معارك ودسائس وتشويق.

يُمكن توقّع أسلوب المقاربة لريدلي سكوت انطلاقاً من سوابقه السينمائية.

ختاما، يظهر أن منصات المشاهدة مفيدة للسينما، فهي توفر فرصة مشاهدة غير مسبوقة لكل أفلام العالم دفعة واحدة. وثانيا، تقدم تمويلا كبيرا للمخرجين. وثالثا، تحدد الكاميرات التي يُقبل التصوير بها.

وهذا ما سيساهم في تقدم السينما.

hespress.com