الأحد 07 يونيو 2020 – 02:10
يزخر الجنوب الشرقي المغربي بكثير من المؤهلات والمواقع السياحية التي تستهوي السياح من مختلف بقاع العالم؛ فإلى جانب قصباته التي تعتبر فنه المعماري المميز، والتي صنف بعضها تراثا عالميا، كقصبة أيت بنحدو قرب مدينة ورزازات، وواحاته التي يعد بعضها من بين أطول وأجمل الواحات في العالم، ورمال صحرائه التي تجلب الراغبين في أخذ حمامات رملية ساخنة أو الاستمتاع بمشهد من أروع مشاهد شروق الشمس في الكون ببلدة مرزوكة السياحية (إلى جانب كل ذلك)، تنتصب في جزء كبير من المنطقة مرتفعات جبلية راسمة مضايق وخوانق غاية في الحسن والجمال، تخترقها ممرات خطرة ذات منعرجات وعرة لها عشاقها من محبي المغامرة والتحدي؛ لعل أشهرها في الجنوب الشرقي، بل والعالم، منعرجات تسضرين.
تسضرين أو تسطرين؛ جمع لكلمة تاسضرت أو تاسطرت (حسب النطق)، كلمة أمازيغية تطلق محليا على ممر أو درج جبلي ضيق ومتعرج يبنى بالأحجار.
وكما تدل على ذلك تسميتها، فإنها تشير إلى ضرورة الحذر من خطر السقوط والتدحرج نحو الأسفل “تاضوري” في هذه الممرات التي كانت تستعمل أساسا لتنقل الأشخاص مشيا على الأقدام، أو باستخدام البغال والحمير في فترة تاريخية لم تكن وسائل النقل الحديثة قد وصلت إلى المنطقة بعد.
تقع منعرجات تسضرين بإقليم تنغير، جهة درعة تافيلالت، وتحديدا بين جماعتي أيت سدرات الجبل السفلى وأيت سدرات الجبل العليا، على الطريق الجهوية رقم 704 الرابطة بين دائرة بومالن دادس، التي تبعد عنها بثلاثين كيلومترا، وقيادة مسمرير.
وينتمي هذا الممر الجبلي، الذي يبلغ طوله حوالي كيلومتر ويوجد على ارتفاع يناهز حوالي ألفي متر، إلى سلسلة جبال الأطلس الكبير الشرقي.
تم حفر هذه المنعرجات وفق الروايات الشفوية وحسب تذكار صخري موجود بها سنة 1933 من طرف فرقة عسكرية فرنسية يرمز لها بـ”CSP”، وهو اختصار لـ “Compagnies des Sapeurs Pionnières”، التي ظهرت في صفوف الجيش الفرنسي منذ ق18 ومرت بمراحل تطور، حيث كانت مهمتها في البداية هي تفجير ما قد يضعه العدو من عقبات وكمائن بإلقاء القنابل والمتفجرات عليها، قبل أن تتحول إلى فرقة متخصصة في تشييد الطرقات والسكك الحديدية ومد أسلاك التلغراف وبناء مواقف السيارات وإدارات المستعمر في كل من الجزائر والمغرب بإشراك وإجبار الأهالي على العمل؛ إذ يرجع لها الفضل في إخراج مجموعة من الطرق والأنفاق إلى الوجود.
إذا كان كثيرون يعتبرون الحمار أقدم مهندس في التاريخ، في إشارة منهم إلى الدور الكبير الذي لعبه هذا الحيوان في “تخطيط وهندسة” مجموعة من الطرق، خاصة في المناطق الجبلية، حيث كان يتم إطلاقه ثم اقتفاء أثره، وذلك لأن ذكاءه يجعله يختار أسهل الطرق وأكثرها اقتصادا للطاقة والجهد، كما أنه يهدي إلى الطرق الآمنة ويظل متسمرا في مكانه في حالة الخطر، فإن إنجاز منعرجات تسضرين لم تختلف عن هذه الحال؛ إذ إن الروايات المتداولة، سواء في أيت سدرات الجبل العليا أو السفلى، تتفق على أن إعداد خريطة هذه المنعرجات تكلف بها “مهندس من نوع آخر”، هو الحمار!
في هذا الصدد، يروي لنا عارف لحو، صاحب فندق بتسضرين، أنه عندما حلت فرنسا بالمنطقة، ويقصد تحديدا الفرقة العسكرية الفرنسية “CSP” التي تكلفت بإنجاز هذه الطريق باستعمال البارود، استعانت بحمار تم إطلاقه من الأسفل وتتبع أثره نحو الأعلى باستعمال الجير لرسم تلك المنعرجات الملتوية.
إلا أن روايات أخرى تقول إن هذه المنعرجات-كما أوردنا سلفا-كانت موجودة أصلا قبل حلول فرنسا بهذه الربوع، وإن كانت هي الأخرى لا تنفي أن مهندسها حمار أحد الرحل الذين كانوا يشقونها نحو بومالن عقودا قبل إعادة تخطيطها ورسمها بالجير من طرف الفرنسيين تمهيدا للشروع في تحويلها إلى طريق سالكة لشاحنات وعربات الجيش.
ولأن فضل الحمار كبير في شق هذا الممر الجبلي، فإن أحد شيوخ المنطقة الظرفاء يعتبر أنه لولاه لبقي الناس إلى يومنا هذا يتنقلون على ظهر المهندس وعلى البغال.
فيما مضى من الزمان، أي قبل تعبيدها، كانت تسضرين توصف بمنعرجات الموت التي يحتاج الخارج منها بسلام إلى عقيقة يعلن بها عن ميلاده من جديد، على حد تعبير “علي. ب”، سائق شاحنة البيدفورد لنقل البضائع الذي كان يستعمل هذه الطريق في فترة السبعينات.
يقول علي: “كنت في كل مرة أمر من تسضرين أخاطب نفسي بالقول: سيكون هذا آخر يوم في حياتك يا علي، لقد كنت أراقب كيف أن عجلات البيدفورد تكون على وشك الانزلاق نحو الحافة، فأحاول التحكم في المقود ما أمكنني ذلك. وبعد الوصول إلى القمة أو الهبوط إلى الأسفل، أتنفس الصعداء وأقول: حمدا لله على سلامتك يا علي لقد ولدت من جديد، لقد اجتزت الاختبار الذي يتكرر مرارا بنجاح، تصور أن هذا الامتحان العسير يعاد مرات شهريا لأنه ورغم خطورة تلك المنعرجات، إلا أنه لم يكن لدي بديل آخر للوصول إلى مسمرير”.
ما قاله علي عن منعرجات تسضرين لا يختلف كثيرا عما أوردته مجموعة من المواقع الإلكترونية العالمية المتخصصة في السياحة والأسفار.
فهذا موقع أمريكي يسمى “Automoblog.net”، في مقال منشور بتاريخ 24 غشت 2011 معنون بـ “أشعر بالتشويق: الطرق العشر الأكثر خطورة في العالم”، التي-حسب الموقع ذاته-يصعب حتى على المتسابق العالمي لويس هاملتون السياقة فيها، يصنف تسضرين رابع أخطر طريق في العالم.
فقد جاء في هذا المقال الذي ترجمنا جزءا منه: “كالثعبان الضخم ملتفا حول جبال الأطلس، يمتد هذا المسار المغبر والمحفوف بالمخاطر، وتزيد من خطورته مهارات السائقين المحليين المشكوك فيها، الذين يعتبر هذا الممر بالنسبة إليهم شريانا ضروريا للحياة، وكذا أشعة الشمس الحارقة التي تفقدك القدرة على التركيز”.
أما موقع إنجليزي متخصص في كراء السيارات يسمى “Elephantcarhire.net”، فقد صنف تسضرين سابع أخطر طريق في العالم، فوصف هذه المنعرجات في مقال معنون بـ “الطرق العشر الأكثر رعبا وخطورة في العالم”، لكاتب يدعى Morgan Glover، منشور بتاريخ 23 نونبر 2013، قائلا: “ممر إجباري نحو مضايق دادس الجميلة، هناك ستصادفك هذه المنعرجات التي تعتبر بحق عتبة أمام الكثير من الناس الذين فشلوا في بلوغ قمتها”.
ويبدو أن التحذيرات المبالغ فيها التي أطلقتها هذه المواقع العالمية التي لا تنصح بزيارة تسضرين تأتي بعكس هدفها، بل إن تلك التحذيرات بمثابة إشهار مجاني لها؛ إذ يلاحظ أن عدد زوار هذا الموقع السياحي من مختلف الجنسيات في ارتفاع مستمر وكأن لسان حال هؤلاء السياح يرد على تلك المواقع بالقول: “كل خطر مرغوب، وموت واحدة هي”!
لقد انتقلت منعرجات تسضرين مع مرور الوقت من المحلية ومن مجرد مسلك جبلي كانت تستعمله مجموعة من القرويين والرحل من مسمرير والنواحي نحو بومالن دادس إلى العالمية؛ إذ صارت تستقطب المئات من عشاق المغامرة والتحدي من كل الأصقاع، وأضحت صورتها تعلق ببعض معاهد وكليات الهندسة، كما صرحت لنا بذلك المهندسة المنحدرة من إقليم الباسك بإسبانيا ساراي ميلانديز فيرنانديز Saray Melendez Fernandez.
ساراي قالت إن حلمها بزيارة تسضرين ظل يراودها مذ رأت صورة هذه المنعرجات عند مدخل الكلية التي درست فيها في سان سبستيان.
وعليه، فإننا لا نبالغ إذا قلنا عنها إنها أعجوبة وتحفة فنية من ضمن تحف وأعاجيب أخرى تعج بها منطقة الجنوب الشرقي المغربي، تحفة لم تعد تقتصر على كونها مصدر إلهام لمجموعة من التشكيليين المحليين الذين اختاروها موضوعا للوحاتهم وجدارياتهم المنتشرة في بومالن دادس وقلعة مكونة وتنغير، بل تخطت شهرتها الحدود المحلية وحتى الوطنية، ولا أدل على ذلك اختيارها من طرف شركات عالمية عملاقة لتصوير مشاهد من إشهاراتها، كشركة “كديلاك” (Cadillac) الأمريكية المتخصصة في صناعة أفخر وأجود أنواع السيارات، حيث كانت هذه المنعرجات مسرحا لإشهار سيارة “Cadillac ATS 2012”.
لوحة فنية على قطعة خزفية بأحد الفنادق في قمة تسضرين
تسضرين في جدارية ببومالن دادس
يبدو كذلك أن تسضرين سيكون لها مستقبل في الصناعة السينمائية؛ إذ شهدت سنة 2015 تصوير لقطات من فيلم هندي يحمل عنوان “Dishoom”، عرض في القاعات السينمائية صيف 2016، من بطولة ألمع نجوم السينما الهندية (بوليوود) الشباب، تتقدمهم الممثلة ملكة جمال سريلانكا لـ2006 جاكلين فرنانديز (Jacquiline Fernandez) والنجم الهندي الصاعد بقوة جون أبرهام (John Abraham) والممثل الهندي الشاب فارون دهاون (Varun Dhawan).
وفي سنة 2018، كانت تسضرين مرة أخرى على موعد جديد مع السينما عندما شكلت حلبة لتصوير مشاهد من فيلم إندونيسي.
سيلفي لنجوم بوليوود الشباب بتسضرين: في الوسط جاكلين فرنانديز إلى اليمين فارون دهاون ويسارا جون أبرهام
وفضلا عن تصوير الإشهارات والأفلام، يعتبر موقع تسضرين مكانا مفضلا لهواة رياضة المشي، العدو، الدراجات والرياضات الميكانيكة.
ففي سنة 2018، عرف هذا الموقع السياحي الساحر حدثا رياضيا عالميا بامتياز تمثل في تحطيم المتسابق الإيطالي فابيو باروني (Fabio Barone) الرقم القياسي العالمي للسرعة في أخطر الطرق في العالم، كما شهد سباقات لهذه الأنواع من الرياضات، من بينها ماراطون جبلي ومرحلة مهمة من سباق للسيارات الكلاسيكية، لذلك فتسضرين تكاد لا تخلو يوميا من “قوافل” الدراجات العادية والنارية و”المشاة”… ما أهلها لتكون وجهة سياحية عالمية.
ولأن كثيرا من المغاربة، مع شهرتها العالمية، مازالوا يخلطون بين منعرجات تسضرين وتيزي نتيشكا، والمؤسف أن ذلك يأتي أحيانا حتى من صفحات ومواقع سياحية تدرج صورها على أنها تيشكا، فإنه وجب التنبيه إلى أن تسضرين أيقونة سياحية في واحة دادس تدعوكم إلى زيارتها والاستمتاع بالمناظر الخلابة المحيطة بها واستراق لحظات من الراحة والهدوء والتقاط صور للذكرى، فهنا في تسضرين ستجدون الفنادق ممتدة على طول الطريق وجميع الخدمات التي ستحتاجون إليها.
ولتشجيع هذه الزيارات، يرى كثير من أبناء المنطقة أن هذه الجوهرة السياحية مازالت بحاجة إلى كثير من التأهيل كنصب حواجز إسمنتية ووضع شباك لمنع تساقط الأحجار وانجراف التربة، خاصة في أوقات الفيضانات والسيول، وتوسيع بعض منعرجاتها، ووضع صناديق للقمامة.
وشخصيا، أقترح إلى جانب ذلك، وضع أضواء تعمل بالطاقة الشمسية بألوان مختلفة على جنبات هذه المنعرجات، تنبه السائقين إلى حوافها وتمنحها منظرا ليليا رائعا.
تجدر الإشارة في الأخير إلى أنه رغم ما قيل عن خطورة هذه المنعرجات، إلا أن ذلك لا يعدو كونه تهويلا ومبالغة في الوصف اعتادت عليهما الصحافة العالمية لأجل الإثارة والتشويق؛ إذ منذ عقود من الزمان ومئات السيارات تعبر هذا الممر بشكل يومي ولم تسجل سوى حادثة كارثية وقعت سنة 1980، أي قبل التعبيد، عندما انقلبت شاحنة بيدفورد كانت تقل عشرات الركاب، وأسفر الحادث حينذاك عن مقتل 20 منهم.
في المقابل، لا ينبغي أن يفهم من هذا التطمين أنه لا يجب أن تأخذوا حيطتكم وحذركم كما يلزم أن تفعلوا عند التعامل مع أي طريق!
[embedded content]