الرئيس الجزائري السيد تبون ووزير خارجيته السيد بوقادوم لا مشغلة لهما، ولا موضوع أهم لما في تصريحاتهما، غير استفزاز المغرب ومحاولة النيل من وحدته الوطنية. إمعانا منهما في ممارسة عدوانية تعرقل كل محاولة لذهاب منطقتنا نحو مستقبل وحدوي مغاربي.
أليس في الجزائر عقلاء؟ بلى، فيها… ولكن، يبدو، أنهم يخوضون ما يمكن اعتباره “إضراب الصمت”… إكراها، خجلا أو استهوالا لما تقاد إليه الجزائر… شخصيات، عبرت أروقة النظام الجزائري، وكان لها تميزها، حين صحا ضميرها المغاربي، وصرحت أو حتى همست، بمصلحة دولة الجزائر في وقف تهورها ضد المغرب… انصرفت الآن إلى ممارسة “صمت” ضاج بتعابير قطيعتها مع سياسة دولتها..
واحد من تلك الشخصيات، المرحوم المجاهد الأخضر بوقرعة، أحد القادة، الميدانيين، لحرب التحرير الجزائرية ولجبهته. أسعدني أن اجتمعت به وسمعت منه، في بيروت، نقدا قويا لصمم الجنرالات المتحكمين في إدارة الجزائر، صممهم عن التجاوب مع نداءات المغرب، بفتح الحدود وبالحوار، ورفضهم التجاوب مع مبادرته باقتراح الحكم الذاتي لحل النزاع حول الصحراء المغربية… كان ذلك في شهر يونيو سنة 2019. وقد تواعدنا على التفكير في مبادرة شعبية مغربية جزائرية. تنتصر للسلم وللتعاون بين البلدين… عاد الفقيد إلى الجزائر، ليعتقل بعد أسابيع قليلة، ولمدة ثمانية أشهر… في ما يشبه قطع واحد من الشرايين القليلة الحية الذي يصل حاضر الجزائر بتاريخها التحرري وبأفقه المغاربي… خرج الفقيد من السجن، متعبا بغبن العسف الذي طاله “من ذوي القربى”… خارت مناعته أمام هجوم “الفيروس” حتى قضى، وقد قارب 85 سنة من عمره… وغادر الدنيا وقد حفه انهمار الأسى والحزن البالغين من محبيه ومبجليه الجزائريين والعرب.
الأخضر بوقرعة كان واحدا من رعاة الضمير المغاربي الجزائري… ومعه العشرات من الشخصيات، التي كان لها حضور في الحدث السياسي الجزائري خلال عقود… أولائك اليوم صموت… القليل منهم، جزعا وأكثرهم غصبا أو غضبا.
بعد أن وضع الجنرالات رئاسة الجزائر رهن رئيس، قضى العقد الثاني من “حكمه” معتلا ثم مريضا فعاجزا… ها قد سلموا “الحكم” الآن لرئيس يعاني من وهن مضاعف… اعتلال، معلن، في صحته ، وضعف واضح، في حمل أوزار نظام مأزوم. مكاتب دراسات، عديدة، أوروبية وأمريكية، حللت وفصلت في أزمات الجزائر… أزمة الدولة، بصراعات ودسائس أصحابها من الجنرالات… أزمة المجتمع، الذي يعاني من خصاصات وأهمها خصاص دولة يتعرف فيها على نفسه، وهو الآن ينتفض من أجل حقه في الحياة وبالكرامة التي يستحق… الأزمة الاقتصادية الهيكلية الناجمة عن شح موارد المحروقات، الرافعة الأساس للاقتصاد الجزائري… وأيضا الذي لم يتطور ولم يتنوع وأدى إلى أزمة العجز عن تلبية الحاجيات الأساسية الدنيا الغذائية للمواطنين، مثل الحليب والزيت، والعجز عن تلبية الحقوق الاجتماعية والمعنوية للشعب الجزائري… وتفاعل كل تلك الأزمات، وتفرعاتها، فاقم من أزمة الثقة، الغائرة، في الدولة بنفسها، في المجتمع بالدولة، في الجوار الإقليمي والفاعلين الدوليين بمستقبل الجزائر.
لو أن عقلاء الجزائر، أوجدوا مساحة أو منبرا لإسماع أصواتهم… لكان أفضل، أو أول ما عليهم النصيحة به… هو التماس صمت أصوات الاستفزاز الصادرة من المعبرين عن الدولة الجزائرية… لأنها لا تفعل إلا أن تزيد من منسوب التحامل والحقد ضد المغرب… وهو ما يسمم، بل يشل، قدرة تدبير الحكم الجزائري على تحسس مصلحة الجزائر في إدراك مناعة المغرب وقوته في صون وحدته الترابية والوطنية… بكل مقومات ووسائل تلك المناعة وتلك القوة… وأولها الإجماع الوطني الحار والثابت والفاعل حول قضيتنا الوطنية… وأيضا عجزها في التعاطي مع التحولات الجيوستراتيجية في العالم وفي منطقتنا… تلك التحولات التي تؤشر على أن القوى الفاعلة في هذا العالم، لن تشجع الجزائر بل لن تسمح بخلق دويلة تابعة لها، وعلى تماس مع منطقة الساحل والصحراء، الملتهبة بالحركات الانفصالية، الإرهابية والإجرامية… ولن تسمح بالأحرى، أن يكون ذلك ضدا على المغرب… وقرار مجلس الأمن الأخير يعكس تلك الإرادة الدولية لإخماد النزاع حول الصحراء المغربية بالمبادرة السلمية المغربية… أطراف الصراع الدولي، المحتدم والمتنامي يوما بعد يوم وحدث بعد حدث، من أجل إعادة صوغ وتحديد مواقع وتوازنات القوى في العالم، تلك الأطراف لها مصالح قوية وفعلية مع المغرب، إما لأنه حليف أو لأنه صديق أو على الأقل متوفر على إرادة التعاون ويملك مجالاته… والمغرب مفتوح على كل الأطراف المتصارعة: الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، روسيا، الصين وبريطانيا… وترى فيه تلك الأطراف، مجتمعة أو دولا منفردة، ما يوفره لها التفاعل والتعاون معه من إمكانيات بالغة الإفادة في المجالات، الإستراتيجية، الأمنية، الاقتصادية والتجارية… وترى فيه أنه مستقر، وفتح له ولأصدقائه مقومات وروافع متينة لتطوره الاجتماعي والاقتصادي، لا بل، إن رئيس وفد العلاقات مع البلدان المغاربية في البرلمان الأوروبي، السيد أندريا كوزولينو، في تصريح له يصف المغرب “بأنه الشريك الوحيد المستقر بالنسبة للاتحاد الأوروبي في المنطقة الجنوبية للمتوسط”. وحتى الاختبار، الاضطراري، الذي خضع له المغرب مع الجائحة التي ألمت بالعالم، أثبت مناعة الدولة المغربية وأهليتها في صون الحق في الحياة لشعبها، وفي الحد أو التقليل أو حتى امتصاص الآثار الضارة للجائحة بمجالات اجتماعية واقتصادية حيوية… وهاهو بنك المغرب، في دراسة له، أعلنت نتائجها، يتوقع تحسن في نسبة نمو الاقتصاد المغربي إلى 5,3 في المائة هذه السنة.
في حين أن الدولة الجزائرية، الذاهلة عن مصالحها، معتلة بكيمياء أزماتها… وفاقدة لنوابض تحمل والتأقلم مع ارتجاجات العالم والمنطقة معه… بما لا يمكنها من إغراء العالم بعرضها، الضعيف والشاذ عن سياق الوضع الإقليمي، الجهوي، والعالمي، سياسيا، استراتيجيا واقتصاديا…
آخر ما عرضته الدولة الجزائرية من “اجتهاد سياسي”، هو طبخة لا مذاق لها، “ولا تسمن ولا تغني من جوع”… أشرف عليها وزير الخارجية الجزائري السيد صبري بوقادوم واستخدم فيها دولة كينيا، في دهاليز مجلس السلم والأمن للاتحاد الإفريقي، وفي غفلة عن المجتمعين… طبخة هي مجرد كلام، ومن خارج قرارات الاتحاد الإفريقي ومارق عن التوجه الذي سار عليه الإتحاد منذ عودة المغرب إلى المنظمة الإفريقية… وهو ما اكتفى السيد ناصر بوريطة وزير الخارجية المغربي، باعتبار ذلك، “لا حدث ولا يعني المغرب”… إذ النزاع حول الصحراء، حصريا، من اختصاص الأمم المتحدة… وبموجب قرار الاتحاد الإفريقي رقم 693.
إنها صرخة من سلسلة صرخات اليأس التي تتابع صدورها، في الأشهر الأخيرة، سواء من السيد بوقادوم بمناسبة أو بغيرها أو مرات، حين يكون “قادرا على الكلام”، من الرئيس السيد ثبون نفسه.
وهي صرخات لا يوجهها عقل سياسي معني بمصلحة الجزائر أولا… يوجهها “العقل” الذي ليس من مصلحة أصحابه قراءة التطوات السياسية والجغرافية حوالي الجزائر وفي المنطقة الأوسع المتصلة بها… ولا يهمه التصدي للأزمات الداخلية بأن يفتح لها آفاق حل وأهمها الأفق الوحدوي المغاربي… ذلك الأفق الذي يقينا، ستكون “الصحراء المغربية” منطلق تحقيقه.
لذلك تحتاج الدولة الجزائرية، وباستعجال إلى عقلائها ومن داخلها… لكي يصون “تعقلهم” الجزائر من جنرالاتها، ومن يجاريهم… والذين ينتفعون من أزمات البلاد ومن الترويج للحركة الانفصالية ضد المغرب… ومن افتعال استفزازات تصعيد الاحتقان والتوتر بن الجزائر والمغرب.
لا أملك إلا أن أتفائل بأن “حركية التاريخ” كفيلة بتأمين فرص انتصار العقل والتعقل… في الجزائر.