ندا لند، يفاوض المغرب الأطراف الأوروبية حول وحدته الترابية واستقراره ومسارات تحالفاته الممكنة، كما أنه لا يعطي الانطباع بأنه يراهن على عامل الوقت لإخماد الحرائق التي نشبت مؤخرا بفعل تورط جهات في دعم أعداء وحدته، وهو ما يعكسه توجه الدبلوماسية المغربية إلى تبني خطاب اندفاعي هجومي أمام الضغط الأوروبي.

البداية كانت مع ألمانيا التي يرجح أن يكون سبب الخلاف معها مرتبطا بقضية اللاجئ محمد حاجب، الذي توبع سابقا في قضايا تتعلق بالإرهاب؛ إذ تشير مصادر غير رسمية إلى أن الرباط انزعجت من تواطؤ استخبارات ألمانيا مع حاجب لضرب استقرار المملكة، وهو المعطى الذي لم تؤكده الخارجية المغربية التي اكتفت بالتلميح باقتضاب إلى الموضوع في بيانها الأخير.

وكانت الرباط تنتظر تفاعلا من أعلى مستوى من الجانب الألماني في قضايا الصحراء والإرهاب، لكن برلين أظهرت تريّثا وتباطؤا في ردّها على استفسارات المملكة، بينما يرى مراقبون أن ملف حاجب كان القطرة التي أفاضت كأس “الجمود” الدبلوماسي بين البلدين.

أما “أزمة مدريد”، التي باتت سياقاتها وأسبابها معروفة، فهي مرتبطة باستقبال الحكومة المركزية الإسبانية لزعيم الانفصاليين إبراهيم غالي، الذي لجأ إلى الجارة الشمالية للمملكة بشكل خفي بغرض الاستشفاء، الأمر الذي لم تخبر به المصالح الدبلوماسية الإسبانية نظيرتها المغربية ولم تكشف عن تفاصيله، وهو ما أغضب الرباط.

حليم المدكوري، محلل خبير في العنف الاجتماعي، أبرز في قراءته الجيو-استراتيجية للأزمة الحالية أن “ما يحدث من تشنجات في العلاقات الديبلوماسية المغربية الإسبانية الألمانية، ما هو إلا أعراض ظاهرية لمشكل أعمق. فبعد ما سمي بالربيع العربي وما تبعه من حروب (أهلية) في بلدان عدة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، عرفت المنطقة كلها تغيرات عميقة لم تتشكل حالتها النهائية بعد”.

ولفت المحلل الانتباه إلى أنه “إلى جانب الاهتمام بخلق هوامش مختلفة في ما يتعلق بإرساء الديمقراطية، وتخلي الأنظمة عن بعض من سلطتها، وما صاحب كل هذه التطورات من انكشاف ضعف الدور الأوروبي، عاد الهاجس الأمني بقوة على حساب التضامن الذي كان الكل يتغنى به”.

وأوضح المدكوري، في تصريح لهسبريس، أنه “مع الوضع الجيو-استراتيجي الجديد، بدأت كل دولة تهتم أساسًا بمصالحها، وأصبحت هاته المصالح المقياس الأهم في كل علاقة مع باقي الدول. وهذا أجج بدوره التنافس بين دول المنطقة، وتسابقها نحو تبوؤ وضعيات مؤثرة ومريحة وإنشاء تحالفات على أساس الأخذ والعطاء”.

وفي هذا السياق يمكن النظر إلى الأنشطة المكثفة التي يقوم بها المغرب تجاه القارة الإفريقية، يضيف المتحدث، موردا أنها “أنشطة ذات طابع استراتيجي بعيد المدى، هدفه تقوية استقلالية المغرب عن أوروبا، وخلق علاقات جديدة ومتجددة مع قوى عالمية أخرى”، مبرزا أن هذه الأنشطة قد أفرزت “من بين ما أفرزته، ديبلوماسية مغربية بقواعد لعب مختلفة عما كان عليه الأمر من قبل”.

وقال المحلل ذاته إن “الدبلوماسية المغربية تحولت من دبلوماسية صامتة جدا، وكأنها غير موجودة، إلى دبلوماسية تجرؤ على رفع صوتها. من دبلوماسية دفاعية إلى دبلوماسية هجومية. من دبلوماسية الكواليس إلى دبلوماسية الواجهة”.

واعتبر أن هذه التطورات التي هي غاية في الأهمية، “لم تغب عن أعين بعض الدول الأوروبية التي لها مصالح تاريخية في المنطقة، أو تلك التي ما زالت تبحث لها عن موطئ قدم في لعبة التأثير في المنطقة. ويبدو أن المغرب قد استوعب الوضع الأوروبي جيدا، المتمثل في عجز الدول الأوروبية على تشكيل جبهة موحدة في مواجهة الخطر الصيني-الروسي، وفي التعامل مع أمريكا ترامب وأزمة كورونا”.

وشدد المدكوري على أن هذا التطور أزعج بعض دول الشمال، كألمانيا التي ما فتئت تبحث لنفسها عن موقع في المنطقة لما تحويه من مواد خام أساسية، ولكونها البوابة الرئيسية نحو القارة السمراء التي ينتظر المراقبون خروجها من وضع المتسول إلى وضع المنتج والمستهلك، والتي تعتبر سوقا جديدة غاية في الأهمية.

الشيء نفسه ينطبق على فرنسا التي باتت تراقب التطورات بقلق، وإسبانيا التي تربطها بالمغرب ملفات ومصالح حيوية عدة؛ فكلا البلدين يتقاسمان موقعا استراتيجيا على ضفتي البحر الأبيض المتوسط، وما زالت إسبانيا تحتل مناطق مغربية تعرف بأن الرباط ستطالب بإرجاعها عاجلا أو آجلاً، خصوصًا إذا توطدت قوة المغرب أمنيًا واقتصادياً.

وأشار المحلل السياسي ذاته إلى أن “إسبانيا تعتبر المغرب المفتاح السحري الذي قد يضع حدا لمواجهة فوضى الهجرات الجماعية التي تهدد استقرار أوروبا أكثر مما يهددها بوتين”، مثيرا في السياق نفسه “ملف محاربة الإرهاب الذي أبان فيه المغرب عن كفاءة وخبرة عاليتين”.

واستطرد قائلا: “من يعرف هذا الملف على مستوى أوروبا، يعرف كذلك مدى التنافس القاتل بين الجهات الأمنية الأوروبية لوضع اليد عليه، ليس فقط لتهديده المستمر لأمن أوروبا، وإنما كذلك لأنه يدر الكثير من أموال الاتحاد الأوروبي على الماسكين بزمام الملف، وتمكينهم من تبوؤ مكانة القيادة. في هذا السياق، يتحلى واضحا كم هو مهم العمل المشترك مع المغرب؛ فمن يفلح في الحصول على ود المغرب، قد ينجح كذلك في الإمساك بزمام الملف. وليس مفاجئا أن تركز هذه الدول في مضايقتها للمغرب على ملف الصحراء، لأنها تعرف أهميته المصيرية للرباط”.

وفي خضم هذه التطورات، يورد المصدر ذاته، “فوجئت هذه الدول بمغرب غيّر قواعد لعبته الدبلوماسية وأصبح يجرؤ على إحراجها في ملف جد حساس، ألا وهو الملف الأمني (الكشف عن تواطؤ المخابرات الإسبانية مع الجزائر لنقل ابراهيم غالي إلى إسبانيا بهوية مزورة، حيث إن كشف المغرب عن هذه العملية وضع الحكومة الإسبانية في موقف جد حرج”.

وما أفقد بعض الدول الأوروبية عقلها، بحسب المدكوري، “هو نجاح الدبلوماسية المغربية في الدفع بالرئيس ترامب إلى الاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه. وهو الاعتراف الذي أكد أن دور أوروبا في العالم لم يعد كما كان، وأن تصريح ترامب المفاجئ إشارة إنذار بأنه لا مكان لأوروبا مستقبلا في أي حل جدي للصراعات القائمة في المنطقة”.

وتوقع المحلل ذاته استئناف الحوار مع هاتين الدولتين، ألمانيا وإسبانيا، موردا أن “المغرب تغير كثيرا عما كان عليه من قبل، وهذا ما تفهمه تلك الدولتان كذلك”، قبل أن يشير إلى أن “وجود اليسار الراديكالي المتمثل في حزب بوديموس داخل الحكومة الإسبانية، زاد من تعقيد العلاقات الثنائية في الوقت الراهن”.

hespress.com