بعد سنوات من التردد وغض الطرف تارة والحزم أحيانا أخرى، أقدم المغرب على خطوة غير مسبوقة نحو تقنين استعمال نبتة القنب الهندي، وهي الزراعة المنتشرة في عدد من الدواوير الفقيرة شمال المملكة.
ولهذه الزراعة تاريخ من الإباحة والمنع في المغرب، ولها أيضاً علاقة بطرق صوفية كانت لا ترى في استعمالها كمخدر أمراً حراماً، بل طبعت مع الأمر وكانت تتعاطاه حسب عدد من المصادر التاريخية.
في هذا الحوار، يتحدث خالد مونة، الباحث الأنثروبولوجي وأستاذ السوسيولوجيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة المولى إسماعيل بمدينة مكناس، عن تاريخ هذه النبتة وكيفية دخولها إلى المغرب وتعاطي بعض الطرق الصوفية الشعبية معها.
ويورد الأستاذ الجامعي، صاحب مؤلفات ودراسات عدة حول القنب الهندي ومنطقة الريف والتغيرات الاجتماعية والهجرات، أن تقنين هذه الزراعة ستنتج عنه فوائد اقتصادية شرط حماية الفلاح الصغير، واعتبر أن معارضة حزب العدالة والتنمية للتقنين تعبير عن جهله بتاريخ “الكيف”.
يذكر أن خالد مونة حاصل على الدكتوراه في الأنثروبولوجيا من جامعة باريس الثامنة سنة 2010، ويشتغل أستاذاً بجامعة مكناس منذ نونبر من سنة 2010، ويعتبر “بلاد الكيف: الاقتصاد والسلطة في كتامة”، أحد أهم مؤلفاته المعروفة باللغة الفرنسية.
كيف ظهرت نبتة القنب الهندي في المغرب؟.
هناك بعض الكتابات الطبية في عهد الأندلس تتحدث عن القنب الهندي في الاستعمالات العلاجية، لكن ليست هناك مصادر حول دخوله إلى المغرب. ويسود الاعتقاد بأن النبتة وُجدت في مناطق شمال المغرب نظراً للظروف المناخية الملائمة.
ما نعرفه أن القنب الهندي استعمل في مراحل تطور التدين الطرقي (الصوفية الطرقية) سواء في المشرق أو المغرب الكبير، حيث رافق تطور وانتشار الطرقية في بلاد المغرب، وذلك ابتداءً من القرن الثالث عشر.
ما هي مناطق الزراعة الأصلية لهذه النبتة؟.
هناك مناطق أصلية للنبتة قبل تأسيس “ريجي طابا” من طرف فرنسا سنة 1906، ففي عام 1890 كان هناك تأكيد رسمي لزراعة “الكيف” منحه السلطان الحسن الأول لعدد قليل من الدواوير لا يتجاوز 5 في كل من كتامة وبني خالد.
يجب التذكير بأن النبتة كانت توجد في مناطق متعددة في المغرب، لكن الفرق يوجد على مستوى الجودة، إذ كانت مناطق الريف معروفة بجودة نبتتها وسهولة استغلالها، ومع دخول الاستعمار ورأس المال الأجنبي انتشر القنب الهندي وتغيرت طبيعة النبتة.
كيف كان التطبيع مع هذه الزراعة في مجتمع مسلم؟ وهل سبق تحريمها من قبل علماء الدين؟.
كما قلت فإن طبيعة التدين الطرقي في المغرب كانت سبباً في سهولة انتشار القنب الهندي على عكس الصورة النمطية أو بعض الكتابات التي تتحدث عن منع الإسلام للقنب الهندي بسبب THC أو المادة المخدرة.
تجب الإشارة في هذا الصدد إلى أن أشكال استغلال القنب الهندي في الاستعمالات الطبية تعود إلى 5000 سنة، واستعماله كمخدر أو منشط كان يدخل ضمن علاقات اجتماعية، ويخضع لعملية الرقابة الاجتماعية وداخل سياق متعدد لممارسة طقوس دينية واحتفالية.
وإضافة إلى القنب الهندي، كان المغاربة يتعاطون “خرشاشة” و”المعجون” كمواد مُنشطة رائجة بين الأوساط الفقيرة وحتى الطبقات الميسورة، لكن الاستعمار أدخل آليات جديدة للتوصيف والتحريم، ليس فقط في المغرب، بل في كل البلدان التي خضعت للهيمنة الإمبريالية، فالسجائر والكحول لا تعتبر مخدرات لأنها تنتج في الدول المستعمرة، بينما تم منع كل المنتجات المنشطة باتفاقيات دولية، حتى أصبحت المشروبات الكحولية تعتبر رمزاً للحضارة والثقافة، بينما عشبي “الكوكا” والقنب الهندي يعدان رمزاً للبدائية والتخلف، وطبيعة شعوب الهامش أنها تتبنى فكرة الغالب بمفهوم ابن خلدون.
كيف كان تعامل الدولة المغربية في العقود السابقة مع هذه الزراعة؟.
لم يكن التعامل واضحاً، بحيث كانت سياسة الدولة مبنية على غض الطرف عن زراعة القنب الهندي. وبما أن طبيعة المناطق الشمالية كانت مرتبطة بالاستعمار الإسباني فقد وجد المغرب نفسه بعد الاستقلال أمام ثقافتين: الأولى فرنسية والثانية إسبانية، أضف إلى ذلك الهشاشة الاقتصادية لمنطقة الشمال.
يجب التذكير فقط بأن “الكيف” لم يصبح مورداً اقتصادياً إلا مع أواخر السبعينيات، فنحن هنا بعيدون عن الفكرة الرائجة بأنه شكل المورد الأساسي بعد الاستقلال، خصوصاً مع أحداث 1958 (انتفاضة الريف).
ما قصة “هداوة” مع القنب الهندي واستهلاكه؟.
هداوة هي طريقة “صوفية” هامشية يمكن مقارنتها بالأحزاب الفوضوية، الفرق أنها تعمل داخل المجال الديني، وقد ارتبطت بشكل من أشكال التدين الشعبي. ما أقصده بالشعبي ليس التخلف أو شكل من هذا القبيل، بل بالقرب من هموم الفئات العريضة الشعبية. كما كانت هذه الطريقة تقدم عروضاً لـ”الجدبة” بالأسواق والأحياء، بمعنى الجمع بين معتقدات مرتبطة بالمخيال الشعبي التي تلعب دوراً اجتماعياً ودينياً والفرجة.
هذا الوضع الهامشي لهداوة كان يمر عبر استعمال “الكيف”. لكن هذا لا يعني أن هداوة هم الوحيدون الذين كانوا يستعملون النبتة، فحتى عيساوة وحمادشة وكناوة كانوا يوظفون “الكيف” في ممارساتهم الطقوسية والعلاجية.
والفرق هو أن هداوة كانت لهم علاقة بمناطق “الكيف” ويقولون فيه أمثالا، خصوصاً “الكيف” الكتامي من قبيل: “خوتْنا كتامة ناس فُوهامة.. يحطبو الغابة ويزرعو خوتهم هداوة الكيف وطابا”.
بعد عقود من الزمن، عادت الدولة لتقنين هذه الزراعة عبر مشروع قانون، كيف ترى هذه الخطوة؟.
يجب التذكير بأن المنع كان مع ظهير 1954، بمعنى آخر أن مدة المنع مقارنة مع الحرية التي كان يعيشها القنب الهندي داخل المجتمع المغربي هي جد محدودة ومرتبطة بسياق معين.
أرى أن خطوة تقنين زراعة النبتة في حد ذاتها مهمة وتعتبر نوعاً من التخلص أو فك الارتباط مع المرحلة الاستعمارية والتركة التاريخية التي شكلت عبئاً سياسياً واقتصادياً على الدولة. كما أن التقنين يدخل في إطار مد دولي نعيشه اليوم يعكسه ارتفاع عدد الدول التي قننت القنب الهندي في العالم لاستعمالات طبية وصناعية.
وأود في هذا الصدد أن أشير إلى أن فرنسا حينما منعت بظهير 1954 القنب الهندي في المغرب كانت في الفترة نفسها تنتج القنب الهندي الصناعي في بلادها، بمعنى آخر حلال علينا حرام عليكم.
القانون الجديد يقضي ببيع المحصول لوكالة ستحدث لهذا الغرض، هل تعتقدون أن الأمر سيغير من حياة المزارعين؟.
المشكلة التي سيطرحها القانون الجديد الذي يقضي ببيع المحصول مرتبطة بالأساس باندثار هذه الطريقة في التعامل؛ فالفلاح لا يبيع محصوله خاماً، لأن ثمن الخام غير مربح. هذا يعني إدخال آليات جديدة في التعامل يمكن أن تكون غير مجدية وأن تواجهها مقاومات من طرف الفلاحين من خلال رفض توقيع العقود مع الوكالة.
هل تعتقد أن التقنين ستكون له فوائد اقتصادية واجتماعية؟.
ستكون له فوائد اقتصادية إذا ما تمت حماية الفلاح الصغير من خلال فتح آفاق جديدة داخل اقتصاد القنب الهندي الصناعي والطبي، وهذا يتطلب التفكير في إطار ميكرو اقتصادي أولاً وقبل كل شيء؛ فلا يجب أن تكون المعادلة الاقتصادية مبنية على ما هو ماكرو اقتصادي. كما لا يجب أن ننسى أننا أمام سوق جديدة لا نضبط بعد آليات اشتغالها، وأن الفلاح المتخصص في زراعة القنب الهندي له دراية بالاقتصاد غير المهيكل وله عاداته وشبكات تواصل تربطه بالسوق الدولية المرتبطة بالمنتوج الترفيهي وليس الطبي والصناعي.
يعارض حزب العدالة والتنمية هذا القانون رغم أنه خاص بالاستعمالات المشروعة، كيف ترون هذا الموقف؟.
معارضة حزب العدالة والتنمية لا أساس لها من الصحة، أرى أنها محاولة للركوب على سياق معين، أو كما نقول بالدارجة: “الحيط القصير”.
كان الأجدى أن يتعامل الحزب بنفس الطريقة مع إنتاج وبيع الخمور في المغرب، أضف إلى ذلك إلى أن موقفه لا يتناسب مع موقعه داخل الحكومة، وهو أيضاً تعبير عن جهله بتاريخ “الكيف” في المغرب واستبطان آليات الهيمنة التي حرمت ومنعت كما قلت كل ما تنتجه دول الجنوب من أعشاب منشطة، مع إخراج الخمور والسجائر من اتفاقية 1961 التي تنتجها دول الشمال وتستهلكها دول الجنوب.