من مدن المغرب ما بات في حكم مجهول عبر غياهب زمن وحقب كأنها أسطورة لا غير، خلافاً لما يقوم منها على نصوص وشواهد موقعة من قِبل جغرافيين ومؤرخين كما فاس مثلاً منذ القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي. حاضرة بقدر ما كانت عاصمة بلاد ودار مُلك ووجهة برمزية روحية خاصة ومدينة إسلامية تعد الأقدم بالغرب الإسلامي، بقدر ما يربط المؤرخون الباحثون بين تأسيسها ونشأة الدولة المغربية من جهة، وبين كونها تدخل ضمن فترة من فترات نشر الإسلام بالمغرب حيث قيام الأدارسة من جهة أخرى.

وحول أصول فاس ما ورد في “القرطاس” كمصدر بمعلومة على درجة من القيمة التاريخية، لمَّا ذكر أن من رسم ووضع أسوار المدينة الأولى وما يعرف بحكم القدم بـ”فاس البالي” هو المولى ادريس الثاني. قبل أن تشهد المدينة مع نهاية القرن الثالث عشر الميلادي إعادة بناء وتوسيع من قبل سلاطين لاحقين، بحيث أقيم فاس الجديد وفق رؤى سياسية مجالية ما يزال قائما بمعالم قدم. وكانت فاس قد عرفت فترتها الذهبية زمن بني مرين بحيث معظم إرثها الرمزي الفكري المادي يعود إلى هذا العهد، فقد شهدت جامعة القرويين إشعاعا غير مسبوق وتم بناء جملة مدارس ومنشآت بهندستها شكلت معالم أثرية مغربية متفردة.

بل على عهد بني مرين بمغرب العصر الوسيط تحولت فاس إلى مدينة سلطانية بموقع ووقع خاص في البلاد، حيث توجهوا بعنايتهم لإعادة الاستقرار لها مع تقوية نفودهم وسلطتهم عبر منشآت عدة بفاس الجديد، منها الإقامة السلطانية، فضلاً عن مساجد كالمسجد الكبير الذي بني نهاية سبعينات القرن الثالث عشر وتم تزيينه بثريا برونزية بعد إنشائه بسنتين، مع أهمية الإشارة إلى ما شهدته فاس خلال أواسط القرن الموالي من قدوم لمهندسين أندلسيين أغنوا بأعمالهم عمارة المدينة.

ولم يهتم بنو مرين بمنشآت ذات طبيعة علمية ودينية وسياسية فقط، بل بأخرى ذات أهمية اجتماعية مثل قنوات جلب المياه وتوزيعها. والشيء نفسه بالنسبة لقناطر توزعت على مجال المدينة، منها القنطرة التي كانت تعرف بقنطرة “بين المدن”، أي بين عدوتي القرويين والأندلس، إضافة إلى قنطرة شهيرة بـ”الرصيف”، أو ما كان يعرف في ماضي فاس أيضاً بقنطرة برقوقة.

وقد استهدف ملوك بني مرين طبع وجعل عاصمتهم فاس بمرافق وفق بصمتهم ورغبتهم وهندستهم، لا سيما وأن الأمر ارتبط بمدينة جديدة عرفت بـ”فاس الجديد”. علما أن معظم ما تم تأثيثها به من منشآت لم تكن بمعزل عن واد فاس ومياهه، ما يعرف أيضاً بوادي “الجواهر” الذي ينبع من فحص سايس على بعد حوالي خمسة عشرة كلم غرباً. وكان هذا المجرى المائي يتخلل المدينة وأحياءها ودروبها موفراً ماء مساجدها وحماماتها ودورها وفنادقها وسقاياتها، وما كان يتبقى منه من جهة باب الخوخة شرقاً كانت تسقى به بساتين على مقربة من نهر سبو.

وقد عمل السلطان يعقوب بن عبد الحق المريني على توسيع المدينة، من خلال إقامة ما يعرف بـ “فاس الجديد” الذي تحول إلى مقر إقامة سلطانية لهذا العهد. وبين فاس الجديد هذا وفاس القديم كان هناك فضاء عُرف وما يزال بـ”بوجلود” (أبي الجنود)، وهو عبارة عن قصبة موحدية كان يقيم بها الجنود قبل تحول جزء منه خلال فترة المرينيين والسعديين إلى فضاء تنزل فيه قوافل التجارة القادمة من مختلف جهات البلاد، حيث كان يتم نصب خيامها فيه لبعض الوقت.

وتدريجيا على عهد سلاطين علويين أوائل، أصبح هذا الفضاء ضمن مِلك مخزني عبارة عن بساتين وبنايات سلطانية، كان الأمراء بمجرد خروجهم منها يجدون أنفسهم في ظلال ومياه، ومن ثمة استجمام ونزهة ومرح. ولعل جانباً منه كان بتأثيث واهتمام منذ زمن بني مرين بطابع أندلسي، مع حديقة جمعت بين أشجار البرتقال والليمون والرمان والريحان… وكذا مياه جارية ومرافق سلطانية.

وقصبة بوجلود هذه تعرف أيضاً بقصبة الوادي، نسبة إلى واد فاس، وكانت أصلاً معسكراً للمرابطين لمَّا استولوا على المدينة قبل بنائها من قِبل الموحدين وتحولها إلى مسكن ولاة ومركز إدارة. بل عندما دخل بنو مرين فاس سكنها ملوكهم الأولون قبل بناء دار المُلك بفاس الجديد، الذي شيد خلال فترة حكم أبي يوسف يعقوب عندما اتجه إلى ضفة وادي الجواهر رفقة أهل معرفة وهندسة وبناء، حيث تم حفر أساسه وتسويره قبل بناء قصر وجامع أعظم به ودعوة الأشياخ إلى بناء دورهم بالمكان نفسه الذي جلب إليه الماء من عين “عمير”.

وعين “عمير” بفاس هذه يقصد بها تلك التي نزل بها عمير بن مصعب الأزدي وتوضأ منها وصلى بأصحابه حولها، لما أرسله ادريس الثاني يرتاد له موضعاً صالحاً لبناء عاصمة دولته، وكانت هذه العين توجد جنوب غرب فاس غير بعيد عن قصبة دار الدبيبغ. وفضلاً عما كانت توفر هذه العين من مياه لفاس الجديد، كان يمر به واد الجواهر الذي ينبع من “رأس الماء” غير بعيد غرباً، ومعروف تميز فاس بمياه غزيرة ناتجة عما يحتويه موضعه من مياه جوفية تتفجر منها ينابيع تغذي هذا المجرى المائي الذي يقطع المدينة.

مستفيدين من خبرة الأندلسيين، اهتم بنو مرين بفاس الجديد بتجهيزات مائية عدة؛ فقد استعان أبو يعقوب يوسف بخبرة محمد بن علي ابن عبد الله، الشهير بابن الحاج الأندلسي، لإنشاء ناعورة فاس الكبرى على وادي الجواهر، تلك التي تعرف أيضاً بناعورة بستان المصارة.

والمصارة كفضاء كان بالجهة الشمالية من فاس الجديد حيث كانت تقام احتفالات وألعاب فروسية وعروض فرق الجيش، عُرفت مع بداية المرينيين على عهد يوسف بن يعقوب. وقد غرست سنة تركيب ووضع الناعورة مشَكِّلة جزء من حديقة كبرى، كانت في مِلك هذا الأخير في مكان عبارة عن سفح تل به غابات زيتون واسعة. وبهذه الحديقة كانت بركتان مائيتان لسقيها مؤثثة لفضاء كان مبعث سرور سلطان وجلسات، وكانت بها كمنتزه بطابع أندلسي على مقربة من باب يعرف بـ”السباع” ناعورة فاس الكبرى ترفع الماء من وادي الجواهر إلى قناة تحمله بدورها إلى البركتين.

وحديقة فاس هذه كانت غاية في الجمال، وبجوارها على وادي الجواهر أقيمت ناعورة ضخمة كانت تنقل الماء منه إلى أعلى سور أعدت فيه قنوات تحمله إلى قصور وبساتين وجوامع. منشأة تعد واحدة من تحف فاس الجديد الأثرية، تم تركيبها سنة 685ه-1285م بعد ما صنعها محمد بن الحاج الاشبيلي المتوفي بفاس سنة 714ه.

تحفة وصفت بكبرها ومداها وسعة محيطها وتعدد أكوابها مع ما كانت عليه من خفية وجاذبية مشاهدة، جعلت لسان الدين بن الخطيب ينشد في شأنها قصيدة شعرية بالغة المعاني في وصفها. ولعلها شيء عجيب، لا سيما خاصيتها التي تجعلها لا تدور أكثر من أربع وعشرين دورة في اليوم والليلة.

وكان ابن الحاج، صانع ناعورة فاس، ابن نجار من مدينة اشبيلية ومن العارفين بشؤون الهندسة، انتقل إلى فاس دار الملك آنذاك على عهد ابي يوسف يعقوب المريني، وكانت ناعورة فاس بقطر ستة وعشرين متراً على عمق ثلاثة أمتار مع أخشاب مغطاة بالنحاس، مما جعلها بتميز وتفرد، علما أنها أحدثت في المغرب لأول مرة خلال فترة حكم بني مرين وبمدينة فاس عاصمة المُلك آنذاك، بحكم ما كان من تفاعل وتأثير وتأثر مغربي أندلسي فكراً وهندسة وحرفاً وعمراناً، مع أهمية الإشارة إلى أنه لم ترد أية إشارة من قِبل الاخباريين المغاربة حول هذه المنشأة قبل هذا العهد، فقط ما جاء عنها زمن إحداثها: “وفيها (685) عملت الناعورة الكبرى بفاس، بديء (كذا) العمل فيها في شهر رجب من سنة خمس وثمانين ودارت في شهر صفر من سنة ست وثمانين”.

وفي علاقة بناعورة فاس الكبرى وحديقة المصارة الكائنة بها، من المفيد الإشارة إلى أن السلطان أبا عنان المريني أضاف إليها خمس ناعورات صغيرة. بل من مآثر هذا الأخير نجد زاوية عرفت بالزاوية المتوكلية، نسبة إلى مؤسسها هذا الملقب بالمتوكل على الله، كان ذلك سنة 754ه-1353م.

معْلَمة بدور إنساني كانت بزخرفة أندلسية بديعة وجنان محيطة ومياه تصلها عبر قناة، تصب فيها مياه واد الجواهر بواسطة ناعورة نصبت عليه، قيل عنها في المصادر التاريخية إن هندستها وجمالها وتفردها جعل المثل يضرب هنا وهناك بين أزمنة وأمكنة، فكانت بحق تحفة من تحف فاس والمغرب التي ما تزال شامخة منتصبة شاهدة على زمن بلاد وعباد.

*مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث

hespress.com