دأبت أدبيات الخطاب العربي المعاصر على توظيفها الوفي للزوج نحن/الغرب منذ بواكير الخطاب النهضوي أواسط القرن التاسع عشر، قصد الإشارة إلى التفاوت التاريخي البيِّن بين الزمن العربي الميت والأفق الغربي المتوقد، حيث الاختلال والتفاوت الحضاري واضحان جدا بين التقدم الغربي والانحطاط العربي المستمر نزيفه دون توقف.

وظل المهتمون بالإصلاح يحاولون تحديد الفارق التأريخي بين ضفتي الجنوب والشمال، ربما بلغ الرقم عند أكثرهم تفاؤلا خمسة قرون.

وضع في تقديري ربما ردمت فجوته طبعا نظريا وافتراضا، مع التوضيب الجديد الذي أتى به فيروس كورونا، بحيث بدا كأن الزمن توقف ولم تعد عقارب الساعة تسجل مزيدا من نقط التفوق لصالح المنظومة الغربية في ريادتها التاريخية. كيف ذلك؟

أود التأكيد مجددا على قناعتي الشخصية التي لا تلزم أحدا، مفادها أن العالم لم يكن أفضل حالا قبل سياق كورونا، مثلما تحاول بروباغندا الوعي الزائف إقناعنا، ولن يكون هذا العالم قط طمأنينة، حتى وإن شبعنا تفاؤلا بأن الجهود الطبية الجبارة الجارية داخل أروقة الفضاءات العلمية بإمكانها القضاء على التطور العضوي سواء لكورونا أو باقي منظومتها الوبائية، نظرا من جهة للتكلفة الثقيلة اقتصادية وماليا المترتبة عن ركود السنة الأولى، ثم لا أحد بوسعه الجزم بموعد نهائي قد يضع خاتمة لأوزار الحرب المتداخلة والمتشابكة خيوطها.

من جهة ثانية، أضحى المصير البشري حتما منفتحا بشكل بنيوي على مواجهة انمساخات متوحشة للطبيعة، جراء تراكم ترسبات غير طبيعية تماما خلال العقود الماضية.

بالتأكيد، قبل الإعلان المعولم عن اندلاع ملحمة كورونا، كابدت البشرية فيروسات شتى نخرت هياكلها، وأنهكتها جملة وتفصيلا، اختزل الراهن كل تفاصيلها تبعا لنعوت الوضع المستبد لأجواء كورونا، وقد حُشرت البشرية قاطبة دفعة واحدة، واقعيا، داخل أقفاص القردة، وتترقب الأخيرة صدفة قِطَعا من الموز تحت مراقبة الأخ الأكبر، حسب تعبير جورج أورويل.

طبعا، اختلفت حدة وقع منظومة الفيروسات التي أوصلتنا إلى شراسة كورونا بين الشمال والجنوب، حسب مستويات نوعية المشاكل التي تخبطت فيها المجموعات الإنسانية، سياسيا واقتصاديا وفكريا. ربما، بكيفية ما، منظومة التخمة، مقابل الأخرى المترتبة عن الندرة وشظف العيش بالنسبة لضحايا سياسات التخلف والإفساد ومأسسة الفساد: عقم في السياسة حد تأفف الموت من الموت، موات للطبيعة، جفاف وتصحر بلا هوادة يكتسحان، صباحا ومساء، حياة التمدن وذكاء الناس، ولا يبقي سوى على ذئاب متعطشة للدماء والليل والقفر والبيداء، بحيث يصرخ كل واحد شكواه في واد عميق، ولا أحد يلتفت لأحد.

عموما، وإن انكمشت فسحة الرخاء المعيشي لدى شعوب الغرب خلال توالي سنوات العقدين الأخيرين، نظرا لتكرس حلقات استتباب منطق الليبرالية المتوحشة، مع ارتفاع نسبة صادرات أمراض الاستبداد المتأتية من الجنوب، وفق دائما متاهة جدلية، دعم هذا الغرب نفسه، تحديدا دوائره الجيو-استراتجية، لمهندسي السياسات داخل أقبية ودهاليز الجنوب.

أود القول، رغم تراجع نوعية الحياة تحت شمس الغرب، استمر في المقابل متماسكا هناك، إطار الدولة المدنية وفق ثوابتها المقدسة: فصل السلط، العدالة المجتمعية، الحريات الفردية بمفهومها الحقوقي الشامل. بيد أننا نعاين اليوم للأسف انتكاسة بشكل من الأشكال لزخم هذا النموذج الأنواري، الذي منح الغرب دائما امتيازا كونيا، وبوأه موقعا طليعيا تشرئب صوبه طموحات باقي الشعوب المقهورة.

فمن كان يتصور، حتى من باب الاستشراف المعربد، أن الفرنسي والانجليزي والألماني والايطالي… والأمريكي والسويدي، سيكابدون حاليا قساوة منظومة زجرية لحالة الطوارئ، بتأويلاتها الأمنية المطلقة ذات النزوع العسكرتاري، المزدهر باستمرار في مستنقع الجنوب، بناء على دواعي مبررات البروتوكول الصحي؟ وتنهل، بالتالي، من ذات ينبوع شراب علقم الحنظل الذي أدمناه نحن شعوب التخلف منذ أن حدث الوعي بهذه الأوطان المكلومة والجريحة.

من كان يخطر بباله للحظة أن المواطن الأمريكي والنرويجي والاسباني سيختبر مباشرة على أرض واقعه، مع تباين الدرجات طبعا، ويلات الحصار والتضييق والحاجة والفاقة وركل الأدبار، ويجرب شحما ولحما، بأمِّ عينيه وليس حكيا، نكبات ومآسي الفلسطيني والعراقي والسوري واليمني والأفغاني… منذ أن كان العالم عالما؟

موجات الموت تجرفنا اليوم جميعا. البشرية جمعاء تجتاز امتحانا قاسيا، غربها كشرقها، شمالها كجنوبها، يتحسس أفرادها أيَّ قشة للنجاة. لذلك، إن بدا هناك مجال لنظام عالمي جديد، فمن اللازم والضروري أن تستوعب معه الدوائر السياسية في الغرب المتحكمة سلفا في زمام القرار العالمي أن مستقبلا حقيقيا يجدر به الانتماء لنا جميعا تحت سقف منظومة كونية قوامها حق جميع الشعوب في أن تستحق حياة بالمعنى الحي للكلمة.

hespress.com