بعيدا عن الموقف الرسمي لجمهورية صربيا من القضية الوطنية، والذي عهدناه مشرفا، وخبرنا التوازن فيه حتى لا يثار حنق الجارة الشرقية، ولكن قريبا من نبض المواطن الصربي، وهو ما يهمنا كمجتمع مدني كي يصل صوت التضامن من قلب البلقان إلى تخوم الوطن.

فقد دأبت جمعية الصداقة الصربية-المغربية، كل سنة على الاحتفال بذكرى استرجاع أقاليمنا الجنوبية وعودتها إلى حضن الوطن، ذكرى لا تزال حية في الأذهان، حينما هب المغرب هبة واحدة، استجابة لنداء الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه، لتنظيم مسيرة خضراء، أبهرت العالم بسلميتها وبتنظيمها، بل وأجبرت المستعمر الإسباني أن يعيد الأرض لأصحابها، فكان العناق الأبدي بين صحراء -آخر حبات رملها تنطق مغربا- وباقي الربوع، في تجل مبهر لتلاحم بين العرش وأوصال كل الوطن.
ولا يسعني هنا أن أصف كيف تتهيأ الجمعية للاحتفال بهذه الذكرى، بل وكيف يتوق مغاربة صربيا إلى هذه المناسبة بمعية طيف من أصدقاء المغرب، ممن عرفوا بلدنا في الستينات والسبعينات من أطباء ومهندسين وغيرهم من الأطر الذين عملوا هناك، وأحبوا المغرب وتشبعوا بثقافته، وعشقوا تنوع مناخه وتجولوا في أنحائه، من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه.

ويحضرني في هذا المقام، شخصيات صربية العرق، عاشت أمجاد يوغسلافيا السابقة، وريادتها لعدم الانحياز، فارقت دنيانا وهي تحكي لأحفادها روايات عشقها لبلد اسمه المغرب، منهم الطبيب كريفوكابيتش، الذي استقر في ستينيات القرن الماضي بمدينة تنغير، وتزوج رفيقة دربه وبنت وطنه التي عملت بمدينة سلا طبيبة مختصة في أحد مستشفياتها. وقد دون تجربته الإنسانية الرائعة، في كتاب عنونه “على أبواب الصحراء، المغرب الذي أحب”، ووافته المنية وهو يوصي ابنه بأن يترجم مؤلفه حتى تقرأه أجيال المغاربة. ومن مفارقات القدر، أن من ساهم في تمويل ترجمة الكتاب هو أحد الأبناء البررة للمغرب، وتحديدا من جنوبه، المرحوم عمر عيدة. وأستجدي بهذه المناسبة، الرحمة لروحه تأبينا لأحد رجالات المغرب، من شيمه، ما كان عليه قيد حياته، كريما ومجندا في صمت من أجل لم شمل الوطن.

وفي نفس المسار، طبيب العيون السيد صافا، الذي اختار مدينة سلا عنوان لعيادته، وعند عودته إلى صربيا بعد تقاعده، لم يسترح حتى فارق الحياة، وهو يردد أينما حل، حبه للمغرب. فقد وضع اليافطة النحاسية التي كانت على باب عيادته بسلا، بمدخل بيته في بلغراد، وكأنها شهادة شرف، يجب على كل من دخل منزله، أن يسأل ترجمة لما ورد بكلمات عربية أنيقة، فيقول، هي حياة عاشها بين أهله في مغرب يقال عنه أقصى، لكنه أقرب لقلبه. بل إن ابنه، وهو فنان تشكيلي، اتخذ المغرب بكل مشاربه، موردا رئيسيا لجل أعماله الفنية التي تجول بها العالم، معرفا بغنى بلدنا الثقافي وموروثة المتفرد. وهؤلاء، طبعا، هم فقط عينة من أصدقاء المغرب، ممن واصلوا رفع أصواتهم قيد حياتهم، من أجل المغرب، ومازال أبناؤهم يواصلون العمل إلى جانب جيل جديد، يدافعون عن قضايا مغرب بادلهم المساندة كلما تعلق الأمر بحدود الوطن ووحدته. وقد خبروا بتجاربهم الغنية، مناورات الجزائر، وأيقنوا من كونها طرفا في نزاع لا يعنيها حول صحراء، الكل بات يشهد أنها مغربية، ويزيدون تأكيدا، بفتح قنصليات لهم بجنوب المملكة، ومنهم قوى عظمى، نطقت جهرا، أن الصحراء ليست سوى مغربية.

ففي احتفالية السنة الماضية بذكرى المسيرة الخضراء، وأثناء التحضير إلى جانب أصدقائنا الصرب، وبمساعدة الهيئات والسلطات المحلية، لكم أن تتصوروا أن سفير الجزائر، استفزه الحدث حين علم بتنظيم جمعية الصداقة المغربية-الصربية لأمسية ينتظرها الجميع، لأجوائها المغربية بكل تفاصيلها. وبشكل رسمي سافر، طالب أحد البلديات رفض احتضان فعاليات الجمعية، معللا أن الصحراء مازالت مستعمرة وساكنتها تطالب بالاستقلال، ساردا حججا من زمن الحرب الباردة، مهددا، ربما، بسحب ما قد تشتريه جزائر العسكر من منتج صربي، مما دفع البلدية، مكرهة، إلى إلغاء الاتفاق مع الجمعية، يوما قبل الموعد. وذلك ليس بغريب، لأنه الشخص نفسه المدعي كونه دبلوماسيا وهو من ذلك بريء، حيث طالب يوما بحق الرد، على مقابلة صحفية لسفير المغرب ببلغراد مع إحدى الجرائد، بمناسبة الذكرى 45 للمسيرة الخضراء. وكلها تصرفات ليست بالغريبة على الجارة الشرقية، تنم عن الرداءة في معاكسة المغرب، بل تزيد، بتصرفات سفرائها، كل الشعوب تأكدا أنها المحرك والراعي والممول لشرذمة البوليساريو حتى ضاقت بمرتزقته، فألبستهم عباءة المدنيين، وزجت بهم، في محاولة يائسة، إلى منطقة الكركرات، لربما تجني وهما. ورغما عن أنف تعاسة السفير الجزائري هذا، استطاعت الجمعية، بفضل أصدقائها، صد المناورة، وكان الاحتفال ضدا على الأعداء، تتخلله أنغام النشيد الوطني، ورفع العلم المغربي خفاقا، وحضور بارز وتغطية إعلامية وضيوف من ممثلي الجالية المغربية بألمانيا وهولندا وإيطاليا.

فكلما زاد حنق الدبلوماسية تجاه صداقة المغاربة والصرب، زادت الحماسة للتعريف بقضية المغرب الأولى. ولعل ما عرفته المنطقة الحدودية بمعبر الكركرات من توتر، نتيجة الأعمال الاستفزازية التي قامت بها عناصر البوليساريو الانفصالية ومن ورائها الجزائر، ممنية النفس بأن تجر المغرب إلى الصدام، لكنهم عادوا من حيث أتوا بخفي حنين فكان النداء من قلب بلغراد:

– إدانة جمعية الصداقة الصربية -المغربية لكل هذه التحركات للامسؤولة ودعم ومساندة كل ما قامت به القوات المسلحة، تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة نصره الله، بكل مهنية وسلمية من أجل أمن المنطقة وانسيابية تنقل البضائع والأشخاص.

– الإشادة بضبط النفس الذي أبان عنه المغرب وتشبثه بوقف إطلاق النار وبالامتثال لقرارات الأمم المتحدة.

– الاحتفاء بانتصار المغرب للحكمة، والتشبث بالقانون الدولي، درءا للفخ البائس المنصوب من أعداء الوحدة الترابية.

– مساندة النخب الصحراوية المنافحة بكل قناعة وشجاعة عن مغربية الصحراء، من أجل التصدي للأطروحة الانفصالية، فقد ولى زمن من يقف في الوسط، فلا مساومة في المواطنة، والفيصل تطبيق القانون دون هوادة.

ومن هنا، كان ضروريا أن يسمع المغاربة نداء أصدقائهم الصرب، المؤازر لتدخل القوات المغربية، بكل سلمية، لطرد كمشة من الانفصاليين، أرادوا أن يعبثوا بشريان اقتصادي حيوي ويوقفوا حركة المرور، بالقول “كفاكم تهورا، وكفاكم تعنتا ضدا على التاريخ، والجغرافية والقانون الدولي”. فالمغرب لا يتجزأ والصرب شعب أعلم بفتنة من يدعي انفصالا. وفي النهاية دام العز والنصر لمولانا أمير المؤمنين، ومن بلغراد له من رعاياه، كل التأييد والإخلاص.

hespress.com