في سبيل “حماية ساحة جامع الفنا من الفناء” وحفظ “روحها”، ناشد فاعلون من داخل المغرب وخارجه المسؤولين تحرير هذه الساحة المراكشية من “كل معوقات التعبير الفني الإبداعي لإعادة الاعتبار لـ(الحلْقة) وفنونها وآدابها المتنوعة التي تنتقل من جيل إلى جيل”.
جاء هذا في نداء معنون بـ”جامع الفنا قضية وطنية كبرى”، من بين الموقعين عليه حكواتيّون كبار مثل محمد باريز، وأكاديميون وكتّاب وفنانون ومهندسون مغاربة، من قبيل: أحمد لمسيح، عبد الإله بن عرفة، محمد المعزوز، التهامي الحراق، إدريس الكريني، سعيد بنسعيد، رشيد الشرايبي، الطاهر الطويل، محمد الفران، محمد آيت لعميم، عائشة ماهماه، وعبد الحميد الجماهري. كما وقع النداء وليد السيف، رئيس لجنة التراث في العالم الإسلامي بمنظمة الإيسيسكو.
النداء دعا إلى “إعادة النظر في حدود مجال الترخيص المؤقت لاحتلال الملك العمومي، لترك الفضاء الأكبر في الساحة لما تنفرد به من حلقات حكي ملحمي وفرجة ساحرة، وما يميّزها كفضاء للقاء والفسحة وتقاسم الفرح والفرجة والإفادة والتعلم والبحث عن المعنى”. وهو ما يمكن أن يتمّ، عمَليّا، عبر تخصيص “نسبة الثلثين على الأقل من المساحة الإجمالية، التي تناهز 2.7 هكتار، بعدما كانت تتجاوز 20 هكتارا، لتعبيرات التراث اللامادي والفرجة والبهجة، مع الحرص على التطبيق السليم لمجال رخصة الاحتلال المؤقَّت للملك العمومي في الساحة التي لا تتجاوز مساحة 2 في 2 كما ينص على ذلك القانون”.
وقال النداء إن التصنيف العالمي لـ”ساحة جامع الفنا” ضمن قائمة التراث العالمي للإنسانية من قبل منظمة “اليونسكو”، سنة 2001، تزامن مع تدشين “أحلك عهود عزلة الساحة عن أهل مراكش ومحبّيها، بعد أن استنزفت معانيها، وخبا إشعاعها الفني الفرجوي، وتلاشى عمقها الروحي، لصالح فوضى البناء، وهيمنة رواج تجاري ومطعَميّ عشوائي، يخدم زَيفا السياحة”.
هذا التحوّل فتح الباب على مصراعيه، وفق المصدر ذاته، أمام الإجهاز على مؤسسة “الحلقة”، باعتبارها “روح الساحة وجوهر تفرّدها وحكمة تصنيفها”، وهو “ما يفرض اليوم أن تصبح قضية إحيائها قضية وطنية لأهل مراكش ولكل المغاربة”، علما أنها “صاحبة الفضل على الإنسانية في بزوغ نجم “الاتفاقية الدولية للتراث اللامادي” سنة 2003″.
وطالب النداء بالعمل على أن تحتل “ساحة جامع الفنا” المكانة الرائدة التي تستحقّ في برامج واهتمامات “المؤسسة الوطنية للفنون الشعبية والتراث اللامادي” التي أُعلِن عن تأسيسها رسميا من طرف محمد أمين الصبيحي، وزير الثقافة سابقا، منذ نونبر 2014، بمقر المجلس الجماعي بمراكش، ولم تر النور إلى يومنا هذا.
وبمناسبة انشغال السلطات المحلية بإعداد برنامج تثمين الساحة، في إطار الأوراش الملكية التي تشهدها المدينة العتيقة داخل السور، لإعادة الاعتبار لتراثها المادي والمعنوي، دعا الموقعون على النداء أهل مراكش ومحبّيها للمشاركة الحية في “مشروع استعادة العالَم الملحميّ للساحة؛ لاستلهام بهائها، ووظيفتها الجمالية والذوقيّة، فنيا وروحيا واحتفاليا”. كما نادوا بالحفاظ على “مقر بنك المغرب”، الموجود على مشارف ساحة جامع الفنا بمراكش، نظرا لـ”قيمته العمرانية والتاريخية الفريدة”، “المتصالحة مع الساحة وذاكرتها الثقافية والروحية”.
وفي حديث مع منسق النداء جعفر الكنسوسي، رئيس جمعية منية مراكش باحث في قضايا التراث والثقافة المغربية، قال إن مدينة مراكش تعرف “حجم تدخلات هائلا داخل السور، ومجموعة من البرامج التي بدأت في 2014 وستبقى سارية المفعول حتى 2022، وهي مشاريع يشرف عليها جلالة الملك لتأهيل وإعادة الاعتبار للمدينة، حجمها لم تعرفه مراكش منذ قرون”.
وذكر الكنسوسي أن النداء “يثمن المجهود الرسمي لإحقاق الحق، فهناك 39 نقطة سوداء كلها مخالفة لقانون التعمير، والسلطات عملت على إرجاع الأمور إلى نصابها القانوني”، قبل أن يستدرك بأن “هذا كله لا يكفي، فبعد هذه المقاربات التقنية والفنية معماريا وعمرانيا، نحتاج الهندسة الثقافية لكيفية إعادة الروح إلى جامع الفنا وحتى نُمَكِّن من جديد للفنون والفرجة عالية النّفَس والشعر والملحون، ولعمل من يروّجون للحلقة والتاريخ والفن والمعنى، علما أن هذا كله يسير في اندحار اليوم”.
وأضاف: “ما نقوله هو أن ساحة جامع الفنا لم يُبق منها الدهر غيرَ حُشَاشة، كما يقول الشاعر، فهي حسب الأبحاث الجامعية ثلاثة أثلاث، أولاها للتجارة، وهذه الهيمنة الأولى، والثلث الثاني للمطاعم الزائدة والمكتسِحَة بحيث غطت على مشهد الساحة، والثلث الثالث يبقى للفرجة والمسرح الحكواتي الذي هو المستضعَف”.
أهمية إعادة الاعتبار لجانب الحكي في “جامع الفنا”، بالنسبة للمصرح، هو أن الساحة “عندما أعلنت تراثا شفويا للإنسانية”، كان ذلك بفضل تراثها الشفهي، لكن منذ الإعلان، مطلع الألفية الثالثة، “كأن الساحة في تقهقر” سببه “الثُّلثان الآخران اللذان لَم يعد معهما مكان لروح الساحة الذي هو الحلقة”.
وتابع الكنسوسي قائلا: “تجنَّدَت الإدارات بجميع أنواعها والتجأت إلى مكاتب دراسات مهمة، وهذا مجهود كبير. لكن، نقول إن روح الساحة سارت في الخوصصة، فمن الصعب اليوم أن نجد الحكواتي الذي يحكي ألف ليلة وليلة والمغازي، والهزل؛ فالبُعد المعنوي والفُرجوي والروحي لجامع الفنا صار يفنى”.
وأبرز الباحث والفاعل الجمعوي ذاته أن المقصود بهذا النداء، “البرلمان المغربي والحكومة المغربية، بما يخوله لنا الدستور الجديد في باب اقتراحات المجتمع المدني”؛ فالساحة “قضية كونية عاشت قرونا لكن ليست لها وسائل الحفاظ على نفسها، وجامع الفنا إرث لنا من الأسلاف، لأن المجتمعات القديمة كانت لها القوة والقدرة على ابتكار فضاءات مثلها، وهناك حداثة بليدة تسلطت على الساحة وأحدثت فيها أمورا مشينة، لكن لنا أمل بفضل مطالب كبيرة من جماهير مغربية وغير مغربية لإرجاع روحها المعنوية من أدب وموسيقى وتراث، وأن تبقى مفتوحة للجميع”.