“مدينة فاس.. حرسها الله ” -السوسيولوجي بول باسكون

لا أحد يجادل بأن سكان المغرب ما قبل الاستعمار كانوا في غالبيتهم ريفيين، وأن المدن كانت جد قليلة متناثرة هنا وهناك. بحسب المواقع السياسية التي استقرت بها تلك السلالات التي تداولت حكم المغرب مثل فاس، مراكش، مكناس.. وبعض المدن الساحلية التي كانت تعتمد على القرصنة والتجارة الخارجية.

إلا أنه مع بروز منتصف القرن الثامن عشر، نلاحظ نموا وازدهارا متضخمين للمدن إثر “الثورة الصناعية “التي عرفها المغرب، وجدت تفسيرا لها في المشروع السياسي -الذي نهجه العالم الغربي- في تقسيم العالم إلى مجموعتين متمايزتين: البلدان المستعمرة والبلدان المستعمرة.

وقد عبر هذا التقسيم الكوني -فضلا عن تقسيمه للمجال- عن تقسيم للزمان أيضا وللأدوار وللوظائف، فإذا كان الزمان بالنسبة للمستعمر يشكل تقدما وازدهارا فإنه بالنسبة للمستعمرات يعبر عن تخلف وانحطاط من مظاهرهما على الصعيد الاجتماعي وانعدام القوانين الضابطة مما يعني العيش في الفوضى، التوحش. لقد مثلت هذه القاعدة -قاعدة نفي القانون-دعامة وركيزة أساسية، بل شرطا ضروريا “لاستعباد مجتمعات المستعمرات” 1برهان غليون: التغير المكاني / الاجتماعي، ص 51، مقال منشور بمجلة الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء القومي بيروت، عدد 39 ماي 1989).

وقد تجلى هذا التقسيم من خلال مظهرين: الأول تجلى على المستوى الخارجي للمستعمرات، حيث بدا البلد الواحد متمايزا تماما عن البلدان المتقدمة، أما المظهر الثاني فتجلى على الصعيد الداخلي للبلد الواحد -من خلال للجوء إلى خلق تمييز ضمن الانتماء المكاني الواحد، والمثال البارز هنا هو محاولة إقامة الفصل في شمال إفريقيا بين العرب والبربر، وبالتالي بين البادية والمدينة وبالنسبة للمغرب يعتبر روبير مونتاني من خلال أطروحته الشهيرة les bérberes et le makhzen dans le Nord du Maroc.. أفضل معبر عن هذا الاتجاه.

وموازاة مع ما سبق، تمكن الاستعمار من خلال أسلوبه هذا أن ينشئ “المدينة الحديثة مقابل المدينة التقليدية وعلى حسابها وتطورت داخل الحيز المشوه والمجزأ على قاعدة إعادة إنتاج موسعة لهاذين العاملين: التشوه والتجزؤ” (2 برهان غليون ص 51 نفس المعطيات السابقة).

وإذا كانت أشكال المدينة والمديني قد تبدّت عبر الزمن كواقع جديد، وجد تجلياته من خلال تمفصل النظام الاجتماعي والمكاني فلا بد وأنه ترافق مع بروز مجموعة من العلاقات، يمكن تحديدها في علاقات الإنسان بالمكان باعتبارها هي “التي تعيّن له حدوده وصورته المُستنبطة ومختلف احتمالات التحرك والاجتماع والانفصال التي يوفرها، وعلاقات الإنسان بالزمن وبالتالي سجله الخاص وإيقاعات الحياة والعمل وتحقيق الذات والموت وعلاقات الإنسان بالإنسان وبالتالي مجموعة شبكات الصلة والعلاقة بين أشكال التمثل والتماثل وبين مفاهيم الفرد، المواطن، العشيرة، الجماعة، الطبقة، أو بين الإيديولوجيات..” (نفس المرجع ن ص).

وإذا كانت المدينة بالمعنى الغربي الحديث قد ظهرت مرتبطة بالثورة الصناعية وكإلغاء للحصن الإقطاعي، فجاءت بمثابة تعبير عن مجتمع ناهض تجسد من خلال بورجوازية حاولت اكتساح العالم لتمديد وفرض صورتها التحديثية كنموذج للازدهار والتقدم – على كل المجتمعات التي اعتبرتها متخلفة ومتوحشة – مما جعلها تحاول إعادة بنائها من جديد على شاكلتها، مدمرة كل البناءات التقليدية من أجل تمهيد السيطرة عليها من خلال “عمران جديد: حديث”.

وبهذا الصدد يقدم لنا الجبرتي معلومات ضافية عن عمليات التهديم التي قام بها الفرنسيون بمصر فيقول: “في الشهر الأول من دخولهم إلى القاهرة (صفر 1213- يوليوز 1798) بدأ الفرنسيون بأعمال استهجنها أهالي القاهرة، فقد شرعوا في تكسير أبواب الدروب والبوابات النافذة، وخرج عدة من عساكرهم يخلعون ويقتلعون أبواب الدروب والعطف والحارات… وعاد الفرنسيون إلى إزالة البوابات في شهر أيلول/سبتمبر من السنة ذاتها” (1 ذكره خالد زيادة –بتصرف- مقال بعنوان “القاهرة بدايات التغريب العمراني” منشور بمجلة الفكر العربي مركز الإنماء القومي، ص 251 أكتوبر نونبر 1982 س 4، عدد 29)، ويضيف “وفي الشهر نفسه أجلوا سكان القلعة، وأصعدوا إلى القلعة مدافع ركزوها بعدة مواضع وهدّموا بها أبنية كثيرة وشرعوا في بناء حيطان وكرانك، وهدّموا أبنية عالية وأعلوا مواضع منخفضة، على بدنات باب العزب بالرميلة وغيروا معالمها وأبدلوا محاسنها ومحوا ما كان بها من معالم السلاطين والآثار والعلماء… وهدموا قصر يوسف صلاح الدين” (2 نفس معطيات رقم 1 ص 251).

إن هذه الصورة التي يعرضها الجبرتي حول الأعمال التخريبية التي قام بها الاستعمار، تبدو صورة قابلة لأن تُعمم على كل المجتمعات الإسلامية ومنها المغرب، مع احتراس في بعض التفاصيل اقتضتها ظروف كل مجتمع، ولعل المجتمع المغربي لم يخضع لنفس ما قام به الاستعمار الفرنسي بمصر، حيث نلاحظ أنه بدل التهديم حاول أن يحافظ على الآثار التي وجدها، ولعل ذلك يرجع في جزء كبير منه إلى ما لاقاه الاستعمار الفرنسي من مقاومات عنيفة أثناء احتلاله للجزائر مما جعله يتلافى تلك الخسائر الجسيمة خلال تواجده بالمغرب، ولعل ذلك ما يقصده Lanessane الحاكم العام بالهند الصينية، بنصيحته التي وجهها إلى ليوطي سنة 1884 يقول فيها “يوجد بكل منطقة إطار اجتماعي، وخطأ الأوروبيين الكبير -الذين جاؤوا كغزاة- هو (قيامهم) بتدمير هذا الإطار. إذن البلد يصبح عُرضة للفوضى، يجب الحكم بجانب الموظف le(mandarin) الكبير وليس ضده، فالأوروبيون بما أنهم أقل عددا، عليهم أن يكتفوا بترسيخ مراقبتهم، هكذا لا تطعنوا في التقاليد المحلية، لا تغيروا الأعراف، في كل مجتمع توجد طبقة قائدة وُلدت لتحكم، وبدون دعمها، فإنكم توجدون بدون سلطة” (1 ذكره روبير مونطاني في مقدمته للطبعة الإنجليزية les bérberes et le makhzen… 1972).

وهكذا نجد أنه بصدد المغرب وفي ما يتعلق بالعمران أساسا -نجده قد اكتفى بإلغاء المدن التقليدية من خلال تشييده- لما نسميه الآن بـ”المدن الجديدة villes nouvelles ” اعتبارا منذ الآن تلك المدن التقليدية ما هي إلا دليل على التخلف، مما يقدم له نوعا من التبرير لمتابعة الاستعمار وإحكام السيطرة على مجموع البلاد من خلال مهاجمته الضمنية والعلنية للنظام الحضري التقليدي. فكانت الخلفية الأساسية من وراء البناءات الجديدة الاستعمارية هي توجيه الضربة القاضية إلى كل الأطر والأسس التقليدية التي انبنى عليها التحضر الأهلي، كان من نتائجه تكويخ، بل ترييف المدن التقليدية وزحزحة الروابط الاجتماعية التي انبنت على التضامن والتكافل لدى السكان.

لقد ترتب عن هذا التكسير “نمو حضاري” ولكنه نمو يمكن نعته بأنه “فسيفسائي”، كما ظهرت “عقلية جديدة جسدتها النخب المحلية والتي يمكن اعتبارها بمثابة استمرار للفكر الاستعماري لكونها تلتقي معه في جل مواقفه -إذ في اعتقادها أن الاحتفاظ بتحضر الماضي- ما هو في نظرها إلا تعبير عن عدم الرغبة في اللحاق بالأمم المتقدمة، وكأن هؤلاء لم يكفهم التشويه الذي طال من الخارج المجتمع، فنصّبوا أنفسهم مكمّلين للمشروع الاستعماري “فأُضيف إلى التشويه ذي المصدر الخارجي تشويه ذاتي، وتسارعت خطى نفي الذات ونفي الزمن والقانون” (2 برهان غليون ن. المصدر ن. المعطيات السابقة).

لقد لاحظنا غداة الاستقلال أن خريطة المدن المغربية قد تغيرت، وبالتالي لم يعد بالإمكان التعرف لا على التاريخ الحقيقي، ولا على العمران الحقيقي، لقد طال التشويه كل شيء: الأسرة، العلاقات الاجتماعية، القيم الاجتماعية، أنماط الحياة، الثقافة… لقد أصبحت المدينة عبارة عن تكتلات “حضرية”: -مدينة تقليدية وبجوارها أو بعيدا عنها مدينة “جديدة – حديثة” بعمارات شاهقة، وشوارع واسعة، ينم تخطيطها عن حضارة وتاريخ غريبين… وفي هوامش المدينة ككل نجد أكواخ الصفيح: ثلاثة نماذج متباعدة في ما بينها مكانيا وزمانيا واجتماعيا. ونشاهد هذه النماذج في جل المدن المغربية (مكناس، فاس، الدار البيضاء…).

إن هذه الازدواجية على مستوى العمران تقابلها ازدواجية على كافة المستويات الأخرى من اقتصادية وسياسية وقانونية واجتماعية وفكرية وإيديولوجية… لقد انسلخ الفرد المغربي عن جذوره وعن علاقاته وإطاره الاجتماعي والثقافي ليصبح كائنا بدون هوية واضحة، ومنفصل الجذور، وكأنه لا علاقة تربطه بواقعه…

لقد انعكست هذه الآثار على سيكولوجية الإنسان المغربي، وعلى كل الأنظمة مما خلق لديه نوعا من اليأس، وفقدان الطمأنينة، مما دفع بجل أفراد المجتمع إلى اللهاث وراء أقرب الطرق للتخلص من هذا القلق والاضطراب. وهكذا أصبحنا نلاحظ ظواهر لم تكن تشكل في الماضي (قبل حقبة ما يسمى بالحداثة)، إذ سرعان ما كان يتم استيعابها وإدماجها ضمن المجتمع، عكس ما نلحظه حاليا من ظواهر كالانحراف الأخلاقي لدى الشباب، والبطالة سواء في البادية أو المدينة، والهجرة المكثفة باتجاه المدينة بحثا عن فرص للعمل… كل هذا كان نتيجة حتمية للخراب الذي مس العلاقات الاجتماعية الأسرية أو البنيات الاقتصادية، بالإضافة إلى فقدان الأمن والطمأنينة… إلى غير ذلك من الظواهر التي ترافقت مع الحداثة الغربية.

وإذا كانت ظاهرة التحضر هذه، وما حملته معها من “مستجدات” بالنسبة للمجتمعات التي انتشرت بها عن طريق العنف والقهر، قد بدت عبارة عن شرخ عميق في بنيات هذه المجتمعات الثقافية بكل مستوياتها. فإنه يبدو من الضروري أن نخضعها لإعادة نظر نقدية نحاول من خلالها فهم ماضينا الثقافي والحضاري وذلك حتى يتأتى لنا فهم الحاضر، إذ أنه إذا كانت ظاهرة التحضر الغربي الحديث تعبيرا عن مدى التقدم الذي أحرزته أوروبا إثر الثورة الصناعية والذي جسدته المدن والعمارات الغربية. فهل يجوز -اعتبار امتداد الحداثة التي تمت أساسا لدى الغرب- في المجتمعات العربية الإسلامية عامة والمغربية خاصة ظاهرة صحية أو مرضية؟ ضمن أي إطار وعلى أي أساس تنمو وتتطور المدن داخل مجتمعات لم تعرف هذه الثورة الصناعية، أو أنها اتبعت في تطورها مسارا تاريخيا مغايرا؟ كيف نشأت المدينة المغربية في انعدام ظاهرة التصنيع؟

أمام هذه التساؤلات، وأخرى غيرها، حاولت أن أعرض نظرة عامة حول الوضعية التاريخية لمغرب ما قبل الاستعمار، من خلال إبراز مستوياته المتباينة من حيث نظامه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي على صعيد البادية أولا- على اعتبار أن البادية هي أصل العمران الحضري على ما يذهب إليه ابن خلدون، محاولا الكشف عن دورها في نشأة المدينة المغربية الإسلامية -متخذين من مدينة فاس نموذجا للمدن الإسلامية عموما- والمغربية خصوصا، باحثا في نشأتها وتكوينها ومستويات تنظيمها، وكذا العلاقات التي تنتظم المجتمع المديني في هذه الحقبة، كاشفين في الوقت نفسه عن الخصوصيات المميزة للمدينة الإسلامية المغربية.

ولما كانت المدينة، أو العمران الحضري، يعتبر نهاية العمران البدوي أو المطمح الغائي للمجتمع الريفي وأن التحضر بالنسبة للمجتمعات الإسلامية عموما والمغربية خصوصا لم ينفصل تماما عن البادية بدليل أن فترات الاختلال السياسي والاقتصادي، يمس المدينة أكثر مما يمس البادية، فلأنه يبدو ضروريا أن نتعرض لدراسة هذه العلاقة التي ربطت بين البادية والمدينة على مختلف مستوياتها العلائقية من أجل فهم دقيق للتأثير المتبادل بينهما من حيث النمو ودرجاته، لنصل في العنوان الثالث إلى الرصد والكشف عن المعوقات التي حالت دون نمو حقيقي للمدن المغربية، سواء أكانت ذات طبيعة داخلية أو خارجية.

وفي الختام حاولنا إبراز النتائج التي خلصنا إليها من خلال هذا العرض، مع الإشارة إلى طبيعة التحضر الراهن وآفاقه المستقبلية والمشاكل المختلفة التي أثارتها هذه الظاهرة من نمو غير متوازن ومرض نجمت إثر صدمة الحداثة.

hespress.com