كان لا بدّ أن ينزل بكامل ظله ليُعاند “مأزق” الوجود على خشبة “الموتى”، أولئك الذين رحلوا من قبله تباعا، هل كان عليه “التّريث” قليلا حتّى تمتلئ الخشبة وتثور الأرواح على رتابة “الانتظار” الأزلي. هكذا هو نور الدّين الصّايل، لم يكن يقوى على منازلة فداحة “الخسارة” الكبرى في زمن “الوباء”، كيف زملاؤه يسقطون ويظلّ هو يتقمّص دور “المتفرّج” المنبهر.
رحل “المايسترو” الكبير في زمن السّقوط الكبير، وفي رحيله استحضار لصرامة الفيلسوف العاشق للتّلفزيون والسّينما المتشبّع بالفكر “النّقدي” ومبادئ مدرسة “فرانكفورت” التي تجعلُ من الفنّ السّابع صناعة “ثقافية” وليس سلعة متعفّنة. في السّبعين من عمره، قرّر الصّايل أن يتمرّد على الشّاشة والسّيناريو والكتابة ويخترق حدود “الوجود”.
كان رجلاً سابق لزمانه، هذا العاشق للألوان والسّينما والمحتكِر لخيوط “الوحي” المتدلّية من السّماء، تقول عنه زوجته نادية لاركيت: “أفكر قبل كل شيء في أبنائه الثلاثة: نجيب ومراد وسليمان، ليلى زوجته الأولى، شكيب… وعائلته الصّغيرة. قصتنا بدت مستحيلة ومع ذلك… استمرت 20 عامًا! الرسالة الأخيرة ستبقى محفورة إلى الأبد ارقد بسلام”.
أمّا المخرج المغربي محمد مفتكر، فكتب في ما يشبه رسالة وداع موجّهة إلى صديقه “الكبير”: “كنت أستمع إليه يتحدّث في الرّاديو عن شيء لم أكن أعرفه جيّدا في ذلك الوقت، وقبل أن نراه يعرض أفلامًا على الشاشة الصغيرة، أفلام كانت غريبة ولم يكن من الممكن للطالب الشاب الذي كنت عليه الوصول إليها”.
وأضاف مفتكر: “كان الرجل يتحدث عن شيء واحد فقط، السينما ولا شيء آخر. كل شيء، حسب قوله، يدور حول هذا، السينما! السينما، ليس كفن للمشهد، ولكن كقضية إنسانية، السينما كنضال دائم، السينما انعكاس دائم للحياة، السينما الأوكسجين الذي بدأ يفقده في الآونة الأخيرة بعد القيود التي فرضها هذا الوباء الملعون والتي ربما عجلت برحيله”.
واسترسل المخرج المغربي سالف الذكر في شهادته: “نعم، بفضل هذا الرجل، وفقط من خلال الاستماع إليه يتحدث عن السينما، قررت يومًا ما أن أصبح صانع أفلام. ذكرياتك ستظل دائمًا محفورة في تأملاتنا، في قلوبنا وفي أذهاننا … لم يمت نور الدين الصّايل، لأنه سيبقى دائمًا هناك، بيننا شئنا أم أبينا”.
المخرج المغربي محمد العروسي فضّل أن ينعي صديقه الصّايل برسالة طويلة خطّها على حائطه “الفيسبوكي”: “كان نور الدين الصّايل رجلاً عظيماً في مجال عظيم بالمعنى الحر للكلمة، ولو لأنه فن لا يمكن تقديره بالكامل إلا على الشاشة الكبيرة. لم تكن السّينما بالنسبة لنور الدين الصايل مجرد فن، بل كانت سبب عيشه، فماذا أقول، كانت حياته”.
وأضاف العروسي: “كان من محبي الحياة، ومن ثم عاشق السينما. في المغرب، كان بلا شك “مسيو سينما”، وهو لقب ينسب إليه العديد من المعجبين به وتلاميذه، وحتى ألد خصومه – وكان لديه عدد غير قليل – قد وافقوا على هذا التّشخيص”.
المخرج المغربي عبد الإله الجوهري كتب هو الآخر: “بلغنا للتو خبر وفاة السينمائي رمز الثقافة السينمائية بالمغرب، نور الدين الصايل. خبر سيترك الأسى في نفوس أصدقائه ومحبي شخصه وثقافته”.
وأضاف: “رحيل الصايل سيخلف فراغا في ساحة الفن السابع بالمغرب؛ نظرا لمكانة الرجل، الذي يشهد له أعداؤه قبل أصدقائه، بمكانته ودوره في تجذير ثقافة السينما بالمغرب”.
كما كتب الإعلامي في القناة الثّانية منصف السّاخي: “عزيزي سي نور الدين الصايل، أتذكر الوقت الذي قضيته على رأس شركة 2M كمهني صارم ومبتكر وعاطفي. مدير تنفيذي دعّم الشباب ووضع الثقافة في صميم عمله. أنا فخور بأن عقد التوظيف لعام 2001 يحمل توقيعك. وداعا سي نور الدين”.
الإعلامية في القناة الأولى صباح بنداوود تعود إلى مرحلة مهمّة من حياة الرّاحل “نور الدين الصايل الذي رحلت معه السينما اليوم…بدأ حلقات أحاديثه عن السينما عبر أمواج الإذاعة الوطنية والدولية التابعة للإذاعة والتلفزة المغربية كان يأتي صباحا في بث مباشر…حيث كان يقود سفينة هذه الإذاعة الرائد محمد القايد بن عبد السلام…الذي أتى به من الأندية السينمائية إلى أمواج الإذاعة.. كانا يعرفان بعضهما جيدا… لأنهما التقيا على عشق السينما”.
وأضافت بنداوود: “الصايل كان متحدثا بارعا وبن عبد السلام مخططا وموجها… برنامجه “الشاشة السوداء”، بنسختيه العربية والفرنسية، كان لحظة حقيقية في مجال تقريب الثقافة السينمائية من جمهور واسع. وكانت الإذاعة المغربية أحد الأبواب الرئيسية التي فتحت له، ليتلقفه بعد ذلك التلفزيون المغربي في برنامج “سينما منتصف الليل”، حيث تدفقت أفلام هيتشكوك وغريتا غاربو والتجارب السينمائية في الجزائر وتونس ومصر وأصبح “موعد الخميس” مقدسا عند جمهور المشاهدين”.
كما كتب الإعلامي والكاتب عبد الصمد بنشريف في نعيه الصّايل: “الفيروس اللعين يخطف منا نور الدين الصايل. كان كبيرا في كل شيء؛ في السينما، في الإعلام، في التسيير، في التوقعات في الأحلام. خبرته عن قرب؛ لأنني اشتغلت معه عندما كان مديرا عاما لدوزيم”.
وقد أسس الراحل، في عام 1973، الفيدرالية الوطنية لنوادي السينما بالمغرب والتي لعبت دورا رائدا في نشر الثقافة السينمائية في المملكة.
وبعد بداية مساره في القناة التلفزيونية المغربية الأولى، وفي القناة التلفزيونية الفرنسية “كنال بلوس أوريزون”، تولى الراحل الصايل إدارة القناة الثانية (2003-2000) ثم المركز السينمائي المغربي (2014-2003) والتي طبعهما بصرامته المهنية ومتطلباته الفكرية.
وستظل بصمة الفقيد حاضرة في عالم السينما الإفريقية، لا سيما أنه مؤسس مهرجان خريبكة للسينما الإفريقية، الذي بات موعدا لا محيد عنه بالنسبة لمهنيي السينما من إفريقيا وخارجها.