عادة ما تمطرنا السينما الأمريكية في السنوات الأخيرة بسيل من الأفلام الفقيرة من حيث المعاني والمحشوة بكم هائل من البروباغندا التي لم تعد تنطلي على من يملك ذرة عقل، في تسويقها للنموذج الأمريكي باعتباره الأرقى، وعن الإنسان الأمريكي الخارق والنموذجي، وعن تزوير وقائع التاريخ، وإسقاط الصور النمطية السلبية على الأعداء، لكن كل هذا لا يمنع من تسرب بعض الأفلام التي ترصد الواقع الأمريكي بعين نقدية نزيهة، كفلتات بين الحين والآخر، فنحبها ليس لأنها تعري ذاك الواقع، ولكن لمجرد إدراكنا أنها أعمال راقية لا تتوخى الاستهزاء بذكائنا كمشاهدين.

في هذه الورقة، أريد الحديث عن واحد من الأفلام الأخيرة الفائز بجائزة الأسد الذهبي لمهرجان البندقية، وبالغولدن غلوب، ثم بجائزة الأوسكار 2021 لأحسن فيلم، يقع تحت عنوان “Nomad land”، أي “أرض الرحل”، وهو فيلم درامي، إنتاج 2020، يتأسس فيه السيناريو على رواية للكاتبة الأمريكية جسيكا برودر صادرة سنة 2017، سيناريو وإخراج كلوي تشاو، وهي مخرجة أمريكية شابة من أصول صينية.

فيلم جميل في صدقيته، قوي في أسلوبه، يختلف عن بهرجة الأفلام الهوليودية، جميل في معانيه وهو يترصد شخصية الإنسان المسحوق تحت وطأة النظام الرأسمالي وأزماته الاقتصادية المتكررة.

الشريط من بطولة الممثلة الأمريكية الحائزة على العديد من الجوائز فرانسيس مكدورماند، وإلى جانبها الممثل ديفيد ستراثيرن، بينما يعتمد العمل على فئة لم يسبق لها التمثيل وبعض قاطني العربات الحقيقيين. ولعل المشاهد سيلاحظ أن العمل السينمائي لم يعتمد العديد من الأصباغ والمحسنات، بالقدر الذي كان فيه مفتوحا على فضاءات طبيعية هائلة في جمالها لكنها موحشة أحيانا، ويبدو أمامها حجم الذات الإنسانية ضئيلا إلى درجة كبيرة، على طرقات ملتوية، سلسة ومنسابة، ووعرة في لحظات أخرى…. الطرقات التي تمتد أمام فيرن، بطلة الفيلم، وهي أرملة في عقدها السادس واحدة من ضحايا رجة اقتصادية عصفت بمدينتها، فقدت عملها وبيتها وقررت في لحظة، ودون أسف، ترك الماضي خلف ظهرها، والدخول في تجربة جديدة، تتلخص في تحويل عربتها إلى بيت تستقر فيه وناقلة تجوب بها طرقات الغرب الأمريكي، كالغجر أو رحل الأزمنة الحديثة.

وخلال رحلتها، تبحث فيرن عن فرص عمل مؤقتة وموسمية لكي تتغلب على متطلبات حياتها البسيطة، شأنها في ذلك شأن فئة كبيرة ممن ستلتقيهم خلال رحلتها من ساكني المقطورات الذين وجدوا أنفسهم مشردين على الطرقات بسبب عجزهم عن الحفاظ على بيوتهم أو الايفاء باحتياجاتهم، يدفعون ثمن أزمة اقتصادية لا يد لهم فيها.

هذا الفيلم رغم القصص الحزينة لكل شخصية من شخصياته ليس فيلما مأساويا أو أسود، بقدر ما يبرز لحظات قوية من السعادة والرومانسية والكثير من التآلف والتآزر بين عناصر هذه الفئة، التي قررت تحدي وضعياتها بالكثير من الشجاعة والتأسيس لثقافة وأسلوب حياة مختلف يقطع مع نمط مجتمع الاستهلاك وتشييء الإنسان. ومن بين حوارات الفيلم التي تلخص فلسفة الرحل الجدد، يقول العجوز بوب ويلز، أحد رواد قاطني العربات في الفيلم:

“عندما يقول أحدهم لا، إن حياتي تتأسس على 3 مرتكزات: لا أملك، لا أشتهي، لست في حاجة لشيء، أغلب الأشخاص لن يفهموا المعنى…. ولكن ماذا يمكن أن يحصل إذا تبنى الجميع هذه الفلسفة، ربما سيكون كل شيء بخير”.

يقدم فيلم “نوماد لاند”، وهو جدير بالمشاهدة، خطابا يقف إلى جانب الفئات الهشة، المهمشة اجتماعيا، التي لا تتمتع بأي تغطية أو رعاية اجتماعية، من النساء المسنات والشيوخ المتروكين لمصائرهم، استغنت عنهم الآلة الرأسمالية مثل قطع غيار فاسدة، لكن العناد وعدم الاستسلام سمة ميزت صيرورة أحداث ومشاهد هذا الفيلم، وتجعلنا نرى هؤلاء الأشخاص يخرجون وهم منتصرين على هزيمتهم، بل ويقدمون للمجتمع الإنساني درسا في الشجاعة وقوة المجابهة والابتكار من خلال استبدالهم قيم الملكية والاستهلاك والمال بقيم التضامن والحب والدفيء الإنساني، وكل المعاني الرائعة في ما بينهم، نتج عنها الإحساس بسعادة كبيرة اكتشفوا سرها متأخرين.

هي سعادة أخرى ممكنة، من خلال إعادة طرح السؤال عن مفهوم وماهية الحياة، وإعادة اكتشاف الذات والواقع والهوية الإنسانية العميقة، والتحرر من قيم الاستهلاك الرخيصة، والخروج من وضعية قطعان رقيق الأزمنة الحديثة.

hespress.com