ينطلق الخبير الاقتصادي الإسباني ميكيل فوركات ليكي، في هذا المقال المترجم عن جريدة “إل پايس”، من تجربته الشخصية التي قضاها في المغرب، ووصفها بكونها تصل إلى درجة الروحانية، قبل أن يستعرض ما اعتبره تأثيرات قوية للحضارة العربية والإسلامية على مناحي الحياة في إسبانيا، سواء في المجتمع أو الاقتصاد أو الثقافة والفنون..
وهذا نص المقال مترجما إلى اللغة العربية:
غادرت مملكة المغرب نهائيا في غشت الماضي، بعد ما يناهز سبع سنوات عشتها هناك لأغراض مهنية.
لا أعتقد أنني أبالغ في وصف هذه المرحلة من حياتي كتجربة شخصية تكاد تكون روحانية.
أتذكر أنه بعد وصولي إلى المغرب بأيام قليلة، وأنا أتفسح في المدينة القديمة للرباط، شاهدت بائعا متجولا يعرض زيتونا، ولكي يشهر بضاعته كان يصيح: زيتون (Zaitún)، الزيتون بالعربية، خمنت ثم تأكدت أن الكلمة القشتالية (Aceitunas) جاءت من هذا الـ (Zaitún) العربي.
فاجأني كثيرا هذا الاكتشاف، وأظن أن العنصر الحضاري الذي تُعرف به إسبانيا هو فن الطبخ، وأزعم أن مفتاح سر الطبخ الإسباني يكمن في الزيت، والزيت بدوره مأخوذ من الزيتون.
كان بالنسبة إليّ حدثا ذا وقع؛ إذ اكتشفت أن قلب فن الطبخ (وبالتالي لباب عنصر حضاري شديد الأهمية في بلدي) يحمل اسما عربيا ويحتل على الدوام وباستمرار مكانا متميزا في الإسبانية.
وكنت دائما، طيلة سنواتي السبع في المغرب، أكتشف تماثلات بين هذا البلد وبلدي، وها هي بعض الأمثلة:
في المحادثة (بانطلون Pantalón، السكر Azúcar، الݣيتارة Guitarra، بلوزة Blusa، قميجة Camisa، موسيقى Música).
وفي الطبخ، (تباع في المدينة القديمة من فاس حلوى لوز، تعتبر عمليا نسخة طبق الأصل من تلك التي نتناولها في أعياد الميلاد في إسبانيا).
وفي المعمار، (الأسلوب المعماري في مدارس مراكش Madrazas يشبه كثيرا ذلك الذي نجده في قصر الحمراء بغرناطة).
فعلا، هناك تشابه كثير بين إسبانيا والمغرب، بيد أنني لم أكن أعرفه، وهو ما أريد أن أكتب عنه اليوم، وتحديدا عن هذا الجحود. لماذا لم أعرف التأثير العربي الإسلامي الكبير في إسبانيا؟
في فاتح يناير 1986، دخلت أخيرا إسبانيا إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية، الاتحاد الأوروبي حاليا (U.E). انجذبت إسبانيا كثيرا نحو أوروبا خلال الخمسة والعشرين عاما الأخيرة. يمكن أن هذا ما يفسر لماذا أعطينا الأسبقية طيلة تاريخنا الحديث لجيراننا الأوروبيين، متناسين، ربما، ذاك الذي يجمعنا بدول أخرى وثقافات هي أيضا قريبة منا.
ولكن، على هامش هذه الأعوام الأخيرة، أصحيح أننا – نحن الإسبانيين – واعون كل الوعي بالتأثير العربي والإسلامي على بلدنا؟ وإذا كانت هذه الفرضية صحيحة، كيف يفسر ذلك؟
دانييل خيل بنو أمية (Daniel Gil Benumeya) أستاذ في قسم الدراسات العربية الإسلامية بجامعة كومبلوتينسي (Complutense) في مدريد، ويعمل أيضا في مؤسسة الثقافة الإسلامية (FUNI)، وهو معهد يحاول ربط الأواصر بين إسبانيا والثقافات الإسلامية.
يجيب خيل بنو أمية عن سؤال:
كان في إسبانيا الإخفاء والتستر في عهد الملكين الكاثوليكيين [إيزابيل الأولى Isabel I وفرناندو الثاني Fernando II ق.15] وخلفائهما الملوك المعروفين ببيت أوستريا (Casa de Austria).
لقد مورست سياسة الأحادية الدينية (Unificación religiosa)، التي تقتضي الطرد أو التنصير القسري للمسلمين واليهود، ويُحتمل أيضا المنع الشامل للغة العربية؛ ذلك أن العربية كانت حتى القرن السادس عشر ما تزال من أكثر اللغات المنطوق بها في إسبانيا، وهذا ما يسميه الهيسباني (Hispanista) الفرنسي ألان ميلهور (Alain Milhou) بأسطرة المعتقدات (Desemitización)، وهو أسلوب للإجهاز على الإسلام واليهودية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر.
ويستفيض الأستاذ [بنو أمية]: (وهناك حجة أخرى، فعندما يشرحون العصر الوسيط في كتبنا المدرسية يولون الممالك المسيحية اهتماما، ويجتازون تاريخ الأندلس على أطراف الأصابع، لأنه يعتبر كما لو أنه حضور أجنبي (غزو لمدة ثمانمائة عام انتهى بطردهم)؛ هذا التعريف للوطن الإسباني بالكاثوليكية، أو ما يسمى بكثلكة الوطن (Nacionalcatolicismo) ظل يهيمن ويلامس كل أطياف القوس السياسي إلى يومنا هذا، هناك تراض بألا يدرج الإسلام).
من السهل أن تشعر بالزهو عندما تتقاسم الأواصر مع شعب قدم الكثير للإنسانية.
ويتذكر خيل بنو أمية أيضا أن ما هو إسلامي إما أن يبقى مجهولا، وإما أن يُقدَّم تحت تصورات غرائبية مصنوعة بعناية على المقاس، كما لو أن هذه الثقافة بعيدة تماما عن ثقافتنا!
من حظ اليهود أنهم رُدَّ إليهم بعض الاعتبار بالتفاتات، كالاعتراف بالجنسية الإسبانية لكل أحفاد اليهود الذين طردوا عام 1492، الشيء الذي لم يحظ به الموريسكيون أبدا، (رغم أن هناك طلبات كثيرة في هذا الموضوع)، وكذلك تجريم كل خطاب ضد السامية (وهو ما لم يجر مثله مع الإسلاموفوبيا).
ويختم الخبير بقوله: (نفترض أن هذا الطرح لم يكن دائما متناسقا، كانت هناك لحظات وأشخاص قدموا ما يمكن من أجل الاعتراف برابط إسبانيا بالإسلام؛ وكذلك كان هناك مثقفون مثل أميركو كاسترو Américo Castro، وبعده خوان ݣويتيصولو Juan Goytisolo، اللذين عملا الكثير من أجل استرجاع هذا الرابط؛ لكننا في الوقت الراهن أُقحمنا في خطاب «صدام الحضارات» و«التهديد الإسلامي» الذي بدأ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ومع 11 سبتمبر.
يبدو أن الاعتراف بالأثر الإسلامي صار أصعب من أي وقت مضى.
هي، إذن، علاقتنا بالعرب والمسلمين تبدو مثبتة، وأظن أنه من الأفضل لنا أن نتقبلها، بل نستقبلها بالأحضان؛ ليس صعبا أن نشعر بالزهو عندما نتقاسم الروابط مع شعب قدم الكثير للإنسانية في ميادين مختلفة جدا، مثل الطب (اكتشف العرب طب تشريح العين)، وفي الرياضيات (نظام الترقيم الذي يستعمل اليوم في العالم كله تقريبا هو من وضع العرب، وهم الذين اكتشفوا المعادلات الرياضية من الدرجتين الأولى والثانية…)؛ والفلاحة، والصيد البحري، وفن المعمار.
أظن شخصيا أن السنوات التي عشتها في المغرب وتعرفي وقبولي للاتصال بالعرب والمسلمين، كانت مفيدة جدا لي؛ أولا لأنها خلفت لدي انطباعا بأنني الآن أعرف نفسي أفضل، وها قد دخلت في اتصال مع قسم من عائلتي [العرب والمسلمين] التي كنت أجهلها والتي أشعر إزاءها بالفخر لكوني جزءا منها.