قال يوسف شهاب، أستاذ العلوم الجيو-إستراتيجية والتنمية الدولية بجامعة السوربون بباريس، إن “الدبلوماسية المغربية مرت، منذ اندلاع النزاع المفتعل حول سيادة المغرب عن الصحراء الأطلسية، بفترات مد وجزر كان فضاؤها الإفريقي هو المسرح والمستفيد الأول من صراع الريادة والشرعية بين المغرب والجزائر في إطار ما يعرف بالحرب الباردة”.
وأضاف شهاب، في مقال له بعنوان “رهانات الخريطة الدبلوماسية الجديدة للمغرب”، أن الملف كان حصريا بيد وزير الداخلية الراحل إدريس البصري، الذي كان يخلط بين مفهوم الأمن الداخلي ومفهوم الأمن القومي، انطلاقا من مقاربته الأمنية وانتهاكه لحقوق الإنسان، ما أدى إلى تصدع جزئي في المشهد السياسي المغربي، وظهور حركات معارضة تنادي بانسحاب المغرب من الصحراء وتوظيف هذا الملف ضد النظام الملكي.
وتناول الأستاذ الجامعي ومدير أبحاث بالمركز الفرنسي للدراسات الاستعلاماتية، في المقال ذاته، موضوع الخريطة الدبلوماسية الجديدة للمغرب انطلاقا من “الفترة الدبلوماسية الصعبة”، و”التحول الدبلوماسي الجذري”، و”الدبلوماسية الاستشرافية للعشرية الثالثة”.
وهذا نص المقال:
مرت الدبلوماسية المغربية مند اندلاع النزاع المفتعل حول سيادة المغرب على الصحراء الأطلسية بفترات مد وجزر كان فضاؤها الإفريقي هو المسرح والمستفيد الأول من صراع الريادة والشرعية بين المغرب والجزائر، في إطار ما يعرف بالحرب الباردة التي أدت في فترات إلى انتكاسات دبلوماسية للمغرب وانتصار للجزائر، لقدرتها على شراء الذمم وتوظيف مفاهيم جيوسياسية تتعاطف معها دول إفريقيا حديثة العهد بالاستقلال، كحق الشعوب في تقرير مصيرها، وحرب التحرير، والتشبث بمبدأ عدم تغيير الحدود الموروثة عن الاستعمار.
واعتمدت الرباط دبلوماسية المواقف على حساب دبلوماسية المصالح، فأصبح المغرب حينها معزولا دبلوماسيا، ما أدى إلى قطع علاقاته الدبلوماسية مع أكثر من خمس عشرة دولة ومغادرة منظمة الوحدة الإفريقية آنذاك، والتركيز على بناء الجدار الأمني والجلوس إلى طاولة المفاوضات مع جبهة البوليساريو، وقبول وقف إطلاق النار والسماح للأمم المتحدة ببعث قوات أممية فوق الأراضي المغربية، والخضوع لابتزاز المنظمات غير الحكومية حول إشكالية حقوق الإنسان، وأخيرا استنزاف الموارد البشرية والمالية، ما أدى به إلى اللجوء إلى صندوق النقد الدولي والخضوع لشروطه، التي أدت أيضا إلى نقل أزمة الصحراء إلى داخل المملكة واندلاع حركات اجتماعية وصدامات بين قوات الأمن والمتظاهرين. والأخطر من كل هذا أن الجزائر أصبحت تراهن وتوظف مليارات الدولارات على سقوط النظام الملكي في حالة إعلان استقلال الأقاليم الجنوبية عن سيادة المغرب.
واستمر الوضع على ما هو عليه، إذ استطاع المغرب في قبوله بكل هذه الضغوطات أن يفرض سياسة الأمر الواقع بتمديد أجندات المفاوضات العقيمة مع جبهة البوليساريو الجزائرية، وذلك عن طريق التواجد الأممي بالمنطقة والخضوع للزمن الأممي الذي وافق على تمديد قوات المينورسو لمدة عشرين سنة 1991 –2021، إذ كان الملك الراحل الحسن الثاني أمام نظرية “الحل هو اللاَّحل”، وأن الحدود السيادية للمغرب في الصحراء تتوقف على رمال الجدار الأمني، تاركا أكثر من 52400 كلم مربع في وضع غير قانوني، تنعتها الأمم المتحدة بالمنطقة العازلة، وينعتها المغرب بالأراضي غير المعسكرة تفاديا لأي إشكال عسكري مع الجزائر، بينما تعتبرها جبهة البوليساريو مناطق محررة.
وفي هذه الظرفية السياسية والتاريخية كان الملف حصريا بيد وزير الداخلية الراحل إدريس البصري، الذي كان يخلط بين مفهوم الأمن الداخلي ومفهوم الأمن القومي انطلاقا من مقاربته الأمنية وانتهاكه لحقوق الإنسان، ما أدى إلى تصدع جزئي في المشهد السياسي المغربي وظهور حركات معارضة تنادي بانسحاب المغرب من الصحراء، وتوظيف هذا الملف ضد النظام الملكي.
التحول الدبلوماسي الجذري
مند اعتلاء محمد السادس عرش المملكة بدأت الخطوط تتغير، وبدأ الملك الشاب في إعادة قراءة هذا الملف الشائك وإصلاح المنظومة الجيو دبلوماسية المغربية، وذلك عن طريق بلورة إستراتيجية جديدة لإعطاء نفس جديد لقضية الوحدة الترابية، ترتكز على حزمة من الخيارات، من شأنها إعادة رسم الطريق السياسي الجديد عبر بعض الأوراش التي بدأت تعطي ثمارها اليوم.
* طي صفحة سنوات نفوذ البصري واحتكاره هذا الملف الحساس، وذلك عن طريق إقالته وفتح ورش المصالحة الوطنية واحترام حقوق الإنسان في الأقاليم الجنوبية.
* هندسة الدمقراطية بالأقاليم الجنوبية بإفراز نخب سياسية صحراوية لتسيير الجماعات المحلية وضخ أموال طائلة في تنمية هذه الأقاليم، بسياسة اندماجية، إذ أصبحت مدينتا العيون والداخلة من أهم الأقطاب الحضرية بالمغرب.
* اقتراح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية كحل واقعي وقابل للتطبيق ومن شأنه أن يحفظ دم وجه الجميع، ما أدى بالإدارة الأمريكية إلى دعم المغرب ودفع بالأمم المتحدة إلى إقحام الجزائر وموريتانيا في المفاوضات، بعد أن كانت تروج لأطروحة كاذبة مفادها أن الجزائر هي فقط حاضنة للاجئين وليست طرفا في النزاع.
* الخروج من دبلوماسية المواقف واعتماد دبلوماسية المصالح، وذلك بإعلان المغرب العودة إلى الاتحاد الإفريقي رغم وجود جبهة البوليساريو بأحضانه. ففي السابق ارتكب المغرب خطأ دبلوماسيا كان ينبني على مبدأ إما داخل القارة أو خارجها. وبدأت الدبلوماسية المغربية تتحرك على هوامش بعيدة عن اللغط القانوني والسياسي الذي كانت ومازالت الجزائر من يحركه بدبلوماسية الحقائب المالية، إذ أنفقت ما يعادل 400 مليار دولار كرشاوى لدول تقايض تصويتها في سوق وكواليس الفساد الممنهج بالاتحاد الإفريقي.
* انتشار الدبلوماسية الاقتصادية عن طريق الاستثمار في القطاعات الإستراتيجية (الأبناك – الخدمات – الاتصالات الرقمية – الصيدلة – البنيات التحتية – النقل الجوي الرابط بين إفريقيا وأوروبا …) ما أدى بكثير من الدول الإفريقية إلى مراجعة مواقفها الإيديولوجية والذهاب قدما إلى دبلوماسية المصالح. وبذلك أصبح المغرب رابع مستثمر دوليا في إفريقيا بعد فرنسا والصين وإفريقيا الجنوبية.
*انتشار الدبلوماسية المغربية في حل الأزمات السياسية في البلدان التي مزقتها الحروب الأهلية، كليبيا ومالي وساحل العاج، إذ بعث المغرب أكثر من 1200 جندي مغربي تحت لواء الأمم المتحدة لحفظ السلام في كـل من الكونغو وإفريقيا الوسطى وساحل العاج وليبيريا.
* انتشار الدبلوماسية الروحية في دول الساحل والصحراء بتكوين الأئمة والمرشدات على أساس الإسلام المعتدل، أمام انتشار الفكر الجهادي والإرهاب، بتنسيق مع فرنسا والولايات الأمريكية المتحدة.
* كسب المغرب خبرة تشهد بها كبريات الدول في مكافحة الإرهاب، وأصبح مرجعية إفريقية وحليفا إستراتيجيا لتأمين الصحراء والساحل من خطر التطرف والخطاب الديني الجهادي.
* انتشار الدبلوماسية المغربية داخل المنظومة العالمية حول ملف الصحراء والأطروحة المغربية (الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية) بدأ يعطي ثماره، إذ إن ما يقارب 80 دولة سحبت اعترافها بجبهة البوليساريو، وفتحت ما يقارب 20 قنصلية بالأقاليم الجنوبية.
* اعتراف الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي بكون ملف الصحراء المغربية ملفا حصريا بيد الأمم المتحدة وتحت رعايتها.
* وعلى ضوء كل هذه التغيرات، أدركت الولايات المتحدة الأمريكية أن المغرب تبنى بنيويا دبلوماسية المصالح وابتعد عن دبلوماسية المواقف، التي مازالت الجزائر هي الدولة الوحيدة قاريا ودوليا التي تتمسك بها كعقيدة متقادمة. ومن جهة أخرى أدركت أمريكا أيضا أن الطرح المغربي هو الأقرب للتطبيقية والواقعية، كما أدركت كل من الصين وبريطانيا وفرنسا وروسيا أن خلق دويلة كارتونية شمال غرب إفريقيا هو وهم سياسي وخطر إستراتيجي. وهذا ما يفسر في الحقيقة قرار أمريكا الاعتراف بمغربية الصحراء، وحثها باسم دبلوماسية المصالح على ربط علاقات دبلوماسية مع الدولة العبرية لإخراج المغرب على غرار مصر، والسودان، والأردن والإمارات العربية المتحدة، من دبلوماسية المواقف العقيمة العربية التي تريد السلام مع إسرائيل دون الاعتراف بها.
على ضوء هذا الجرد والتحليل السياسي لملف الوحدة الترابية، وجائحة كورونا التي استطاع المغرب أن يحتوي خطرها ويحتل المرتبة الخامسة عالميا حسب المنظمة العالمية للصحة، يجب على المملكة التفكير في رسم الخريطة الدبلوماسية للعشرية الثالثة لاعتلاء محمد السادس العرش، وذلك للدفع بالبلاد إلى إنهاء هذا الخلاف الذي طال أمده، والتعجيل بسرعة نمو فعلي على مستوى القارة الإفريقية، التي تعتبر العمق الحقيقي الإستراتيجي للمغرب. وهذه بعض التوصيات لبلورة هذه الخريطة الدبلوماسية 2021– 2031..
الدبلوماسية الاستشرافية للعشرية الثالثة
* إعادة ترسيم الحدود مع الجارة الموريتانية إلى ما يعرف قانونيا بالكيلومتر صفر، لتحصين الواجهة الأطلسية من الاختراقات وتغلغل الجريمة المنظمة أو الإرهاب الجهادي، حتى لا تتكرر أزمة الكركرات.
* العمل الدبلوماسي للتشطيب على ملف الصحراء من اللجنة الرابعة أو ما يعرف بلجنة تصفية الاستعمار، وذلك على ضوء المواقف الدولية الجديدة إبان فتح قنصلية أمريكية بمدينة الداخلة.
* التحرك الدبلوماسي الفاعل والفعال لإعادة ديباجة مهمة المينورسو، لأنها لم يعد من صلاحيتها تنظيم الاستفتاء ولا مراقبة حقوق الإنسان بالمنطقة الجنوبية للمغرب.
* بناء إستراتيجية دبلوماسية واقتصادية جديدة على أساس مبدأ ما يعرف في العلاقات الدولية بالدوائر المركزية للتعاون أو التنسيق بين مجموعة من الدول. فالقارة الإفريقية لا يجسد اتحادها إلا مبدأ الجغرافيا، فليست لها سياسة اقتصادية، جمركية، نقدية أو أمنية مندمجة. وبالتالي يجب على المغرب اعتبار القارة الإفريقية كفضاءات متنوعة وغير متجانسة للتعاون الشامل.
وحتى تتضح هذه المقاربة الجديدة يمكن اعتماد نظرية الدوائر المركزة بأوروبا: فجغرافيا هناك 51 دولة تنتمي إلى القارة الأوروبية وفق المعيار الجغرافي الصرف، وهذه هي الدائرة القصوى أو الكبرى التي لا تخضع لنفس المنظومة القانونية، تليها الدائرة الثانية، وهي التي تكون الاتحاد الأوروبي بعدد 27 دولة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.. وهذه الدول خاضعة لمعاهدات تؤطر الشأن الاقتصادي والسياسي دون اندماج كلي وشامل؛ ثم تليها الدائرة الثالثة والمتعلقة بما يعرف بمنطقة شينغن، حيث أصبحت الحدود السيادية رمزيةـ ويصل عدد دولها إلى 26.. وأخيرا الدائرة الرابعة التي تبنت عملة موحدة أو ما تعرف بمنطقة اليورو، ويصل عدد دولها الأعضاء إلى 19 دولة، والدائرة الخامسة هي الدول الأوروبية المطلة على البحر الأبيض المتوسط، التي يصل عددها إلى 11 دولة.
انطلاقا من هذه المعطيات الجيوسياسية بنت الدول الأوروبية دوائر مركزة للتعاون مختلفة من حيث الحجم ومن حيث الدلالات والتداعيات على الاقتصاد والأمن.
أما الدائرة السادسة والأخيرة فهي التي تجمع بين أربع دول أوروبية اتحدت على مشروع صناعي إستراتيجي، وهو صناعة الطائرات المدنية، وهي كل من فرنسا، ألمانيا، إسبانيا وبريطانيا.
انطلاقا من هذه الهندسة المؤسساتية للتعاون أو الاندماج يمكن للدبلوماسية المغربية أن تعيد قراءة جغرافية القارة الإفريقية، بحيث يصبح المغرب عضوا إفريقيا على المستوى الجغرافي وفي الوقت نفسه يرسم دوائر مركزة مع دول إفريقية على مبدأ المشاريع كانت مالية، أو اقتصادية، جمركية، عسكرية، علمية، أمنية أو استخباراتية. فعلى سبيل المثال تنتمي فرنسا جغرافيا إلى القارة الأوروبية ولكنها الدولة الوحيدة التي تتموقع في الدوائر الست للتعاون بين دول الاتحاد الأوروبي.
وبالنسبة للمغرب الخروج من فضاءات خلقت ميتة كالاتحاد المغاربي أو الجامعة العربية أو منظمة الوحدة الإسلامية. لا يعني الانسحاب، ولكن الخروج من محتواه السياسي، الإيديولوجي العرقي العقيم، الذي بني على مفاهيم غير عقلانية كالانتماء العرقي، الديني أو اللغوي. فالاتحاد الأوروبي يحتوي على أكثر من خمس ديانات وما يقارب 19 لغة وسبعة أصول عرقية، ولكنه بني على الحديد والصلب سنة 1956 ثم على السوق الاقتصادية المشتركة سنة 1973 بعد أزمة البترول، ثم على أساس حرية تنقل البضائع والأشخاص سنة 1996 وأخيرا على مبدأ العملة الموحدة سنة 2002، ومازالت دوله تطمح إلى سياسة خارجية وعسكرية موحدة، وكانت تسير نحو إيجاد صيغة دستورية مشتركة (وليست موحدة)، ولكن خمس دول رفضت ذلك بعد تنظيم استفتاء لشعوبها.
إن الخريطة الدبلوماسية المغربية لا تشمل إلى حد الآن المنطقة الأنغلوفونية، إذ مازالت تعتبرها الرباط مناطق رمادية للانتشار الدبلوماسي، فهناك خمس دول يجب استهدافها من طرف الدبلوماسية المغربية بغض النظر عن مواقفها اتجاه قضية الصحراء، ويتعلق الأمر بإثيوبيا، نيجيريا، جنوب إفريقيا (التي لا تربطها بالجزائر إلا علاقات إيديولوجية)، كينيا ومصر. فمجموع هذه الدول الخمس بالإضافة إلى المغرب تمثل سبعا وثمانين بالمائة من النقل الجوي على مستوى القارة، كما تتميز بكونها مطلة على المحيط الأطلسي والمحيط الهندي والبحر الأحمر (قناة السويس)؛ ما يجعل المغرب في قلب العولمة البحرية وربطه الإستراتيجي بالقارات الخمس.
وأخيرا، وانطلاقا من تجربة أوروبا، يمكن للمغرب أن يفكر في خلق دائرة مركزة مبنية على مشروع صناعي متعدد البلدان، خاصة في مجال الطاقات المتجددة وثروات البحار وصناعات التلقيح والصناعات الغذائية والاندماجات المصرفية والبحث العلمي، حتى يمكن بفضل هذه الدوائر المركزة الخروج من هيمنة فرنسا والصين وتركيا على القارة الإفريقية، وترسيخ المغرب كدولة صاعدة حقا في أفق 2030.