يرجح الدكتور سمير بنيس أن أحد الأسباب الرئيسية وراء قرار المغرب تعليق تعامله مع السفارة الألمانية هو التقرير الأخير الصادر عن منظمة “Transparency International”، وهي منظمة ألمانية يوجد مقرها في برلين تتوفر على مكتب في الرباطـ.
ويضيف بنيس، في مقال جديد له، أن دعم الحكومة الألمانية يمثل 63 في المائة من التبرعات التي تحصل عليها هذه المنظمة، التي يعرف عنها أنها تمتنع عن نشر أي تقارير معادية لألمانيا، سواء تعلق الأمر بمسألة تبييض الأموال أو تقديم كبريات الشركات الألمانية لرشاوى لدول أجنبية من أجل الحصول على عقود مربحة وامتيازات اقتصادية وجبائية.
كما ينفي أن يكون السبب الرئيسي وراء القرار هو قيام إحدى الشخصيات الألمانية برفع علم الدولة الورقية للبوليساريو أمام برلمان إحدى الولايات الألمانية.
مزيدا من التفاصيل في مقال سمير بنيس التالي:
خلافا لما ذهبت إليه بعض الأقلام، لا أظن أن السبب الرئيسي وراء إعلان المغرب وقف تواصله وتعامله مع السفارة الألمانية والهيئات والمنظمات التابعة لها في المغرب هو قيام إحدى الشخصيات الألمانية برفع علم الدولة الورقية للبوليساريو أمام برلمان إحدى الولايات الألمانية. لو كان الأمر كذلك، لقام المغرب كل يوم بقطع علاقاته مع كل الدول التي يقوم فيها مسؤولون محليون أو أعضاء في برلماناتها المحلية أو الوطنية برفع أعلام البوليساريو أو مهاجمة المغرب. وفي إسبانيا لا يمر أي أسبوع دون قيام شخصيات تابعة لحكومات مختلف الجهات الإسبانية بالترويج لمواقف جد معادية للمغرب، كما تقدم دعماً ماديا كل سنة للبوليساريو.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل قام بابلو إغليسياس، زعيم حزب بوديموس النائب الثاني للحكومة الإسبانية، بنشر عدد من التغريدات في شهر نوفمبر الماضي دعا فيها الأمم المتحدة إلى تنظيم استفتاء لتقرير المصير لتمكين الصحراويين من إنشاء دولتهم المستقلة. هل هناك من موقف أكثر عداء للمغرب من هذا؟ نحن لسنا هنا أمام مسؤول محلي في إحدى المدن الألمانية قام برفع علم البوليساريو، بل أمام ثالث مسؤول في الحكومة الإسبانية يقول علانية إنه يدعم إنشاء دولة مستقلة في جنوب المغرب. كما أننا أمام مسؤول رفيع المستوى في حكومة أول شريك اقتصادي للمغرب. حينما نعلم الدور التاريخي لإسبانيا في ملف الصحراء والدعم الذي تحظى به البوليساريو من طرف فئات عريضة من الرأي العام الإسباني وكذا تأثير تلك المواقف على دول أمريكا اللاتينية، نستنتج جسامة تلك المواقف.
وعلى الرغم من كل ذلك، لم يقم المغرب باتخاذ أي إجراء علني أو إصدار أي بيان ضد إسبانيا، فلا هو قام بدعوة السفير الإسباني لديه لتقديم إيضاحات حول تصريحات إغليسياس ولا نشر أي بيان رسمي يدينه، بل اكتفى بالصمت وعمل على تمرير رسائل مبطنة إلى إسبانيا، أهمها تأجيل الاجتماع رفيع المستوى الذي كان مقرراً يوم 17 ديسمبر الماضي.
مواقف مثل التي عبر عنها إغليسياس تقوم العديد من الشخصيات الأوروبية وفي أمريكا اللاتينية بالتعبير عنها بشكل روتيني، ولا يكترث لها المغرب، بل يعمل في صمت من أجل كسب دعم إضافي لموقفه.
الحالة الوحيدة التي أتصور أن تكون مسألة الصحراء هي السبب الرئيسي لقرار المغرب وقف معاملاته مع السفارة الألمانية، هي إذا ما قالت ألمانيا إنها ستدرس الاعتراف بجمهورية البوليساريو. وهنا علينا أن نتذكر حالة السويد في خريف 2015 حينما قال المغرب إنه سيتخذ إجراءات حازمة في حال اعترفت بتلك الجمهورية الوهمية، وقرر وقف بعض المشاريع السويدية مثل المركز التجاري لشركة إيكيا في الدار البيضاء. وسبق ذلك القرار اجتماع طارئ للحكومة مع ثمانية أحزاب قررت على إثره تحديد الخطوات التي ينبغي اتباعها. بعد ذلك الاجتماع، استدعت وزارة الخارجية المغربية السفير السويدي لدى الرباط وعبرت له عن رفض المغرب لموقف دولته المعادي للوحدة الترابية للمملكة. بعد ذلك أعلن الناطق الرسمي باسم الحكومة أن المغرب قرر مقاطعة الشركات والمنتجات السويدية. وبفضل الحزم الذي أبان عنه المغرب، قررت السويد التراجع عن تلك الفكرة وأكدت التزامها بالعملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة.
أحد الأسباب الرئيسية
في اعتقادي، فإن أحد الأسباب الرئيسية وراء قرار المغرب تعليق تعامله مع السفارة الألمانية هو التقرير الأخير الصادر عن منظمة “Transparency International”، وهي منظمة ألمانية يوجد مقرها في برلين تتوفر على مكتب في الرباطـ. ويمثل دعم الحكومة الألمانية 63 في المائة من التبرعات التي تحصل عليها هذه المنظمة، التي يعرف عنها أنها تمتنع عن نشر أي تقارير معادية لألمانيا، سواء تعلق الأمر بمسألة تبييض الأموال أو تقديم كبريات الشركات الألمانية لرشاوى لدول أجنبية من أجل الحصول على عقود مربحة وامتيازات اقتصادية وجبائية.
وقد قدم التقرير الذي أصدرته هذه المنظمة صورة جد قاتمة عن حالة الفساد في الإدارة العمومية المغربية. كما انتقد بشدة الخطوات التي اتخذتها الحكومة من أجل التصدي لجائحة كورونا، مدعياً أنها تسببت في هشاشة أكبر في المجتمع المغربي وأدت إلى تفاقم الفقر واستشراء الفساد في كل مرافق الدولة. كما اتهم التقرير الدولة باستعمال التطبيق الذي خلقته لمراقبة تفشي فيروس كورونا من أجل التجسس على المغاربة. ولم تقدم المنظمة أي دليل على ذلك سوى رابط لأحد التقارير التي نشرها موقع “France 24” باللغة العربية.
لا أحد يجادل بأن الفساد الإداري يعتبر من بين أهم العوائق أمام تحقيق المغرب وغيره من الدول لأي قفزة نوعية، سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي. ولكن أظن أن التوقيت الذي جاء فيه التقرير ومضمونه وإمعانه في عدم الإشادة بأي من الخطوات التي قام بها المغرب للتصدي لجائحة كورونا والتخفيف من تأثيرها الاقتصادي على الرغم من ضعف موارده الاقتصادية، أزعج الرباط بشكل كبير.
على غرار العديد من التقارير الصادرة عن منظمات تابعة للدول الغربية، لم يشر التقرير ولو بشكل وجيز إلى النجاح الذي حققه المغرب في الحصول على الملايين من حقن التلقيح ضد كورونا قبل العديد من الدول الأوروبية إلى درجة أن وسائل إعلام ألمانية تساءلت في الآونة الأخيرة عن السر وراء ذلك، هذا بالإضافة إلى تفوقه إلى حد ما في احتواء الوباء وتفادي سقوط عشرات الآلاف من الأرواح في وقت فقدت فيه دول أوروبية مثل إسبانيا وفرنسا ما يزيد عن 100 ألف شخص، بينما وصل عدد الوفيات في ألمانيا إلى ما يزيد عن 70 ألفا.
أظن أن ما زاد في إزعاج المغرب هو أنه في الوقت الذي نشرت فيه المنظمة الألمانية المذكورة أعلاه تقريرها القاتم عن المملكة، فإنها لم تنشر أي تقرير عن الجزائر، علماً أن هذا البلد يوجد في حالة مزرية ووضعية الفساد فيه أسوأ من المغرب وتفاقمت الوضعية الاقتصادية والاجتماعية للشعب الجزائري بسبب التعامل الكارثي للنظام الجزائري مع فيروس كورونا.
ولعل خير دليل على ذلك، أنه في الوقت الذي قام فيه المغرب بتلقيح ما يزيد عن 3 ملايين شخص، فإن الجزائر، البلد الذي يمتلك ثروات طبيعية لا يمتلكها المغرب ويعتبر نظريا أغنى من المغرب، تعيش في حالة تخبط وتيهان ولم تقم بعد بإطلاق حملة التلقيح. كما أن النظام الجزائري استغل جائحة كورونا للالتفاف على الحراك الجزائري الذي يسعى للتخلص من النخبة العسكرية والسياسية التي نهبت أموال الشعب لما يزيد عن ستة عقود.
فريق العمل المالي الدولي: المغرب يعتبر ملاذا لتبييض الأموال وتمويل الإرهاب
بالإضافة إلى تقرير “Transparency International”، فإن ما أزعج المغرب بشكل أكبر هو التقرير الأخير لفريق العمل المالي الدولي (Financial Action Task Force)، الذي وضع المغرب ضمن اللائحة السوداء في ما يتعلق بتمويل الإرهاب وتبييض الأموال. ويوجد على رأس هذه المنظمة ألماني يدعى Marcus Pleyer، الذي لا يعمل فيها بصفته الشخصية، بل كممثل لألمانيا.
ويعتبر هذا التقرير ضربة لسمعة المغرب الذي يعتبر من بين الدول الأكثر شراسة في محاربة التطرف وتمويل الإرهاب. كما يشكل ضربة قوية للاقتصاد المغربي، وسيؤدي إلى تآكل ثقة المستثمرين بالاستثمار فيه، مما سيؤدي إلى إضعافه بشكل أكبر. وجاء هذا التقرير في أسوأ توقيت، في وقت يعاني فيه المغرب من التبعات الاقتصادية والاجتماعية لفيروس كورونا وسيكون في حاجة ماسة إلى الاستثمارات الأجنبية في المستقبل القريب لإنعاش اقتصاده.
وفور نشر التقرير، انهالت عليه العديد من التعاليق التي شككت في نزاهته وفي عدم اعتماده على معطيات موضوعية دقيقة، وأكدت أنه مسيس ويسعى لخدمة أجندات معنية. فعلى سبيل المثال، نشر أحد الأمريكيين المختصين في هذا المجال تحليلاً على حسابه بموقع “LinkedIn” أكد فيه الطبيعة المسيسة لهذا التقرير. وإن ما يؤكد ذلك هو تغييب دول معروفة بأنها ملاذ لتبييض الأموال مثل لوكسمبورغ وسويسرا، وحتى ألمانيا نفسها التي أكدت العديد من التقارير أن قطاعها العقاري يعتبر ملاذا لتبييض الأموال.
وحتى نأخذ فكرة عن الطبيعة السياسية للتقرير الصادر عن فريق العمل المالي الدولي، فإن المغرب احتل الرتبة 72 في آخر تقرير صادر عن منظمة “Tax Justice Network” بخصوص مؤشر السرية الضريبية (Tax Secrecy Index)، في الوقت الذي احتلت فيه الولايات المتحدة الأمريكية الرتبة الثانية، وسويسرا الرتبة الثالثة، ولوكسمبورغ الرتبة الرابعة، وسنغافورة الرتبة الخامسة، وهولندا الرتبة الثامنة، وألمانيا الرتبة الرابعة عشرة، والجزائر الرتبة 23.
وعلى الرغم من ذلك، وضع تقرير فريق العمل المالي الدولي المغرب في لائحة سوداء تضم كلا من بربادوس، وبوتسوانا، وبوركينا فاسو، وكمبوديا، وجزر كايمان، وغانا، وجامايكا، وموريشيوس، وميانمار، ونيكاراغوا، وباكستان، وبنما، والسنغال، وسوريا، وأوغندا، واليمن وزيمبابوي.
ولعل السبب الرئيسي الذي يفسر عدم وضع الدول الغربية سالفة الذكر في تلك اللائحة على الرغم من سجلها السيء في مؤشر السرية الضريبية، هو أنها توجد من بين الدول الأعضاء في فريق العمل المالي الدولي، الذي يضم 37 دولة معظمها دول غربية أو لها وزن سياسي ومالي على المستوى الدولي، بالإضافة إلى منظمة مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي.
ولو قرأنا البيان الذي نشرته وزارة الخارجية مساء أمس بتمعن، سنرى أنه يشير إلى وقف التعامل والتواصل ليس فقط مع السفارة، بل كذلك مع هيئات التعاون الألمانية والمؤسسات التابعة لها. وهذه في حد ذاتها إشارة إلى وقف التعامل مع مكتب “Transparency International” في الرباط الذي يتبع للمنظمة الأم في ألمانيا، والتي تحصل على مساعدات مالية من الحكومة الألمانية، أو لأي كيان آخر شارك بشكل أو بآخر في إعداد التقرير الصادر عن فريق العمل المالي الدولي.
فلو تعلق الأمر بانزعاج المغرب من مواقف شخصية سياسية ألمانية من قضية الصحراء المغربية، لما قامت وزارة الخارجية بالتأكيد على وقف تعامل كل مؤسسات الدولة المغربية مع الهيئات التابعة للسفارة الألمانية، بل كانت ستنشر بياناً شديد اللهجة يشير بشكل واضح إلى قضية الصحراء، عوض الاكتفاء بالقول ” سوء فهم عميق” مع ألمانيا بشأن ما وصفته بأنه “قضايا حيوية بالنسبة للمغرب”. كما كانت ستستدعي السفير الألماني لدى الرباط لتقديم تفسيرات حول ذلك أو تدعو السفير المغربي لدى ألمانيا للتشاور. وهذا هو ما وقع في العديد من الحالات في السابق كلما تعلق الأمر بقضية الصحراء.
كما أنه لو كان ملف الصحراء هو السبب الوحيد وراء انزعاج المغرب، لقام هذا الأخير بالتعبير عن ذلك قبل شهرين حينما انتقدت ألمانيا قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب القاضي بالاعتراف بمغربية الصحراء، ولتخذ خطوة مماثلة ضد العديد من الدول الأوروبية التي عبرت عن انزعاجها من ذلك القرار.
غياب الثقة بين المغرب وألمانيا
ينضاف تقرير ترانسبارنسي وتقرير مجموعة العمل المالية الدولية إلى مجموعة من الملفات التي أدت إلى خلق مناخ من التوجس وعدم الثقة بين المغرب وألمانيا. فقد جاء هذا التقرير في وقت يقوم فيه أحد المدانين في قضايا إرهاب سابقا بنشر فيديوهات يدعي فيها أنه خضع للتعذيب حينما كان في السجن بين 2010 و2017، ورفضت ألمانيا تسليمه للمغرب لأنه حاصل على الجنسية الألمانية.
أضف إلى ذلك انزعاج المغرب من عدم دعوته لحضور مؤتمر برلين في شهر يناير 2020، بينما وجهت ألمانيا الدعوة إلى الجزائر التي لم تلعب أي دور في العملية السياسية الليبية منذ 2015 حتى الآن، في الوقت الذي يعتبر فيه المغرب حاضناً لاتفاق الصخيرات. ونشرت في حينه وزارة الخارجية المغربية بياناً عبرت فيه عن استغرابها إقصاء المغرب من مؤتمر برلين، مؤكدة أنها “لا تفهم المعايير ولا الدوافع التي أملت اختيار البلدان المشاركة في هذا الاجتماع”. ورد المغرب لألمانيا الصاع صاعين، حينما رفض وزير الخارجية، ناصر بوريطة، المشاركة في مؤتمر برلين 2 الذي انعقد خلال الأسبوع الأول من شهر أكتوبر الماضي.
وعلى الرغم من محاولة ألمانيا تهميشه وتعويضه بالجزائر، إلا أن المغرب لعب دوراً رئيسياً في الملف من خلال تهيئة الظروف المواتية للتوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار وآلية تولي المناصب السيادية وانتخاب السلطة التنفيذية التي تم انتخابها يوم 5 فبراير الماضي. ولعل خير دليل على ذلك، العدد الكبير من الاجتماعات التي استضافها المغرب منذ شهر سبتمبر الماضي لردم الهوة بين الفرقاء الليبيين.
يمكن القول إن التقريرين الصادرين عن منظمتي ترانسبارنسي وفريق العمل المالي الدولي هما القطرة التي أفاضت الكأس وأظهرت للمغرب أن علاقاته مع ألمانيا ليست على ما يرام وأن هناك جهات في هذا البلد تسعى للضغط عليه والنيل من سمعته الدولية. ومن ثم، جاء قرار وزارة الخارجية وقف تعاملاتها مع السفارة الألمانية وكل الهيئات التابعة لها في الرباط لتمرير رسالة واضحة إلى برلين لمطالبتها بمراجعة مواقفها وسياستها تجاه المغرب ومصالحه الاستراتيجية، بما في ذلك مسألة وحدته الترابية.